رسالة موجهة إلى الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان بعنوان: الأنسنة مدخل إلى الإصلاح والإدماج
بقلم الصحفي والحقوقي مصطفى الحسناوي
هوية بريس – الأربعاء 18 مارس 2015
مقدمة من أجل مبادرة حقوقية وطنية
حاولت في مناسبتين على الأقل مقاربة واقع السجون في المغرب انطلاقا من تجربتي الشخصية ومن شهادات من التقيتهم من السجناء، وجعلت لتلك المقاربة عنوانا كان بمثابة الخيط الناظم للموضوع، هو: «أعطاب سياسة الإدماج بالسجون المغربية».
لكن أيادي التفتيش الحجز والسطو وعقلية القمع والمنع كانت لي بالمرصاد في ثلاث مناسبات، المرة الأولى بسلا 2، واثنتان بالقنيطرة، تم الاستيلاء على كل ما من شأنه تهديد أمن السجن بمعايير مزاجية يضعها القائمون على السجن، وهكذا تم إتلاف شهادات تعبت في جمعها، وحرماني من المشاركة والإدلاء بدلوي في نقاش عمومي يروم النهوض بواقع بئيس والبحث عن حلول لمعضلاته، لكن أنى لعقليات قديمة أن تستوعب أن الفكر والنقد والورقة والقلم والكتابة والنقاش ليسوا أعداء لهذا الوطن ولا أعداء للأمن.
فكرت في تأجيل الكتابة في الموضوع إلى حين الإفراج، لأن ضياع ما تكتبه في كل مرة يخلف ألما وحسرة تشبه ما تحس به الثكلى ولا يعرفه إلا من كابده، لكن تطور الأحداث باتجاه له علاقة بالموضوع دفعني لتسطير هذه الأسطر بعجالة، وتسريع تسريبها بعد هذا الإضراب الذي أخوضه لفتا للأنظار تجاه واقع مزرٍ تعيشه السجون أو بالأحرى السجناء.
لن تكون هذه الأسطر بالعمق الذي صممته في مواضيعي السابقة المسروقة، ولكنها ستكون إشارات أجعلها كالمقدمة لمبادرة أتمنى أن تنهض بها الجمعيات الحقوقية وتجعلها في صلب اهتماماتها كي لا تذهب أيام جوعي سدى، ولا تكون المعركة التي قررت خوضها نيابة عن كل السجناء كمن يحارب طواحين الهواء.
كثيرة هي المسائل التي يتم توجيهها إلى غير وجهتها في هذه البلاد، مثل موضوع التربية على المواطنة وحقوق الإنسان الذي يستهدف تلاميذ المدارس وأطفال الحضانة، رغم أن الأحوج له والأولى به آنا وحالا هم من يسمون بالقائمين على تطبيق القانون، الذين يحتاجون لدورات مكثفة ومتابعة ومراقبة واختبارات ليستوعبوا أن العالم يتغير ويتحرك ويتطور ويتبدل، وأنهم الوحيدون الذين لا يتغيرون مثل المومياوات والمستحاثات، كما أن إصلاح السجون وإدماج السجناء لا يتم بالإجراءات الشكلية وتوسيع دائرة الضبط والمنع والردع، ونفخ فواتير البنية التحتية والتموين.
إن أي عملية إصلاح لا تجعل من السجين قطب رحاها وصلب اهتمامها مآلها الفشل، وأي عملية إدماج لا تستحضر الأبعاد النفسية والصحية والحقوقية، وتأهيل السجين روحيا وعلميا ومهنيا، والاهتمام بإنسانية السجين وكرامته، وإن عدم الاهتمام بهذه المؤشرات وهذه الأبعاد يجعل من السجون فضاءات يتخرج منها الناقمون والحاقدون والمدمنون والعالة العاطلون.
إن أهدافا كبرى مثل الإدماج والإصلاح والتأهيل لا تكفي فيها الشعارات، ولا حتى برامج التأهيل المهني التي تتخبط في مشاكل واختلالات ليس أقلها ضعف التكوين كما وكيفا، أو برامج متابعة الدراسة التي تقتصر على الجامعات دون غيرها من المعاهد والمدارس؛ إن ورشا كهذا لا يجعل كرامة وإنسانية السجين في صلب العملية، لن يكون إلا أداة لإنتاج الحقد والكراهية، يتشربها السجين ضد الدولة وأجهزتها والمجتمع وأفراده، فلا يخرج إلا لينتقم في أول فرصة.
يعيش السجين باستمرار في متاهة من المطالبة بحقوقه الأساسية والضرورية، كلما حقق منها واحدا انتُزع منه آخر، في حلقة مفرغة تدمره نفسيا. ويمكن تصنيف ضروب المعاملة المهينة واللاإنسانية والحاطة من الكرامة إلى عملية ممنهجة، وأخرى تخضع لاجتهادات وأمزجة القائمين على السجون، وتختلف من مسؤول إلى آخر، ومن سجن إلى آخر، حتى أنك تجد ما هو ممنوع هنا مسموحا به هناك والعكس صحيح، بل حتى في السجن الواحد بين الأحياء، وفي الحي الواحد بين السجناء.
سأقتصر على مثال واحد لما يمكن تسميته بالعملية الممنهجة للمعاملات اللاإنسانية، يخضع السجناء المرضى الذين يقرر طبيب المؤسسة إرسالهم خارج أسوار السجن للتطبيب لإجراءات مهينة وقاسية، تتجلى في نزع الحذاء وإلزام السجين بلبس «صندالة»، وبذلة خاصة غالبا ما تكون شديدة الاتساخ، وتصفيد يديه إلى الخلف؛ وتبرر الإدارة كل تلك الإجراءات المهينة والقاسية أمنيا، وتقول إنها قانونية وفق مذكرة في الموضوع؛ من وجهة نظر السجناء لا يمكن لاحترازات وشكوك أمنية أن تكون القاعدة والمبرر للاعتداء على كرامة السجين وإنسانيته، كما لا يمكن لمذكرة صيغت في مكاتب فاخرة مكيفة أن تحيل حياة السجناء إلى جحيم دون أن تعيش واقعهم وتضع في الحسبان نفسيتهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
إن تلك الإجراءات بالنسبة للسجين هي عقوبة إضافية تجعله عرضة للتمييز والتصنيف والاحتقار والاستهزاء والوصم من طرف المجتمع، حيث أنه يغادر أسوار السجن بتلك الحالة المذلة والمهينة، ويدخل المستشفيات والعيادات والمراكز الصحية أمام أنظار المواطنين وموظفي المصالح الصحية بلباس يسميه السجناء «الحمار الوحشي» نظرا لخطوطه البيضاء والسوداء، مصفد اليدين إلى الخلف مثل وحش ضارٍ، محاطا بحراس يسوقونه سوقا أو يجرونه جرا كأنه ثور هائج.
فأي رعاية صحية هذه التي لا تقيم وزنا للحالة النفسية التي تدمرها هذه الإجراءات تدميرا شاملا يصعب ترميمه ومعالجة آثاره؟
هذا غيض من فيض من إجراءات تقوم بها الإدارة، تتم تحت غطاء قانوني، أما أصناف وضروب الاعتداء فحدث ولا حرج، من سياسة منع غريبة تخضع لمزاج المدير، وسياسة تفتيش لا تراعي أغراض السجناء، حيث يتم إتلافها أو مصادرتها رغم أنها دخلت بطريقة قانونية، أو تقمص دور الشرطة القضائية في التحقيق والمنع والمصادرة دون توجيه أي تهمة؛ ولقد كنت عرضة لمصادرة ستة دفاتر وكراريس دونت بها مذكراتي وسيرتي الذاتية، ومجموعة مقالات ودراسات إسهاما في مناقشة بعض القضايا الوطنية والدولية ذات الطبيعة الفكرية والسياسية، أو إبداعات أدبية، بحجة التفتيش في كتاباتي عما يمكن أن يشكل تهديدا أمنيا للمؤسسة أو إفشاء لأسرارها، كما كنت شاهدا على عمليات ضرب لعدد من السجناء، عدا تعريضهم لأصناف من الإهانات والابتزاز وسوء المعاملة، مستغلة تدني مستوياتهم التعليمية وانعدام الوعي لديهم بحقوقهم.
ورغم سياسة التضييق علي، ومحاصرتي وتحذير السجناء من الاقتراب مني، وتهديدهم بل وترحيل بعضهم، جراء مناقشاتي معهم ودفعهم للمطالبة بحقوقهم، إلا أني حررت ما يزيد على عشرين شكاية، بطلب من بعضهم ممن تعرضوا لسوء المعاملة، بمعدل شكاية في الشهر، في حي لا يتجاوز نزلاؤه الثمانين، فضلا عما حرره كل واحد بنفسه مما يظهر حجم الشكايات والاعتداءات، لكن للأسف دون جدوى، حيث بلغت زيارات لجان المراقبة والاستماع والتقصي بسبب تلك الشكايات حوالي عشر زيارات، بما فيها زيارات مبعوثي المندوبية العامة والمندوبية الجهوية، نصف تلك الزيارات كان من نصيبي ونصفها الآخر توزع على باقي نزلاء الحي، دون أي نتائج ملموسة، فقط تقارير ومحاضر يتم تدوينها في مكتب المدير الذي غالبا ما يستقبل بعضا من تلك اللجان المحظوظة في ما يشبه حفلة شاي، وبعدها ترفع التقارير لينتهي بها المطاف في الرفوف والأرشيفات.
إن المطلوب للخروج من هذا الوضع اللاإنساني والنهوض بالسجون من المستوى الحظائري، إن صح هذا التعبير، إلى محطة يراجع فيها السجين أوراقه وأولوياته وتصرفاته، ويخرج عاقدا العزم على إصلاح نفسه للإسهام في إصلاح مجتمعه، لن يتأتى إلا بأنسنة السجون، وجعل كرامة السجين وإنسانيته وحقوقه في صلب عملية الإدماج والتأهيل والإصلاح، وإن ذلك لن يتم دون إسهام جهة تؤمن بقيم الكرامة والإنسانية والحقوق، مستقلة عن أجهزة الدولة ومؤسساتها، وغير متماهية مع خطابها، تجمع بين دور القوة الاقتراحية من جهة، والراصد والمتابع والمستقبل لشكايات السجناء من جهة أخرى، وكذا القيام بزيارات منتظمة وأخرى مفاجئة لأماكن الاعتقال، ولِمَ لا السعي من أجل أن تكون لها مكاتب داخل السجون للعب دور المراقب.
إن الاكتفاء والاقتصار على شكايات السجناء، وإحالتها عبر مساطر وقنوات رسمية من جهات معلومة، والتعامل مع القوانين التنظيمية والداخلية كأنها وحي منزل، في واقع نعلم مستوى الجهل بين المواطنين فيه فضلا عن السجناء، ومستوى الفساد والبيروقراطية، والمستوى الجنيني للحقوق والحريات حيث الحنين إلى الاختطاف والجمر والرصاص يراود الكثيرين، وآثاره لا تزال معششة في بعض مؤسسات وأجهزة المخزن، ومع وجود سجون معزولة كأنها جزر نائية أحالها مدراؤها إلى ضيعات خاصة أخبرني بعض السجناء أنها يستحيل أن تتسرب منها أية شكاية؛ فمع كل هذا الواقع وملابساته لا مناص من الذهاب على السجين والتقرب منه عوض انتظار شكاياته التي تسهم عوامل عدة في عدم وصولها.
لقد ركزت في هذه الرسالة على الإجراءات والخروقات المصاحبة لعملية التطبيب، لأنها أصبحت تمارس كورقة ابتزاز وضغط على السجين، إن رفض الخضوع لها يحرم من الحق في التطبيب، لكن لا مانع من النبش في خروقات ومعاملات لاإنسانية يصعب حصرها ويضيق المقام عن عرضها.
لأجل كل ذلك أتوجه بهذه الرسالة إلى ائتلافكم قصد مناقشة هذه الفكرة، وتطويرها من لأجل صياغة أرضية ومبادرة، وإيجاد آلية لتنفيذها، مبادرة تكون الأنسنة مدخلها ومبدأها ومنتهاها، ومعيارها ومقياسها، مبادرة شعارها «السجين إنسان»، وبما أنه كذلك فإن كل حاجاته البيولوجية والفكرية والثقافية والروحية ينبغي أن تكون حاضرة، وكل القوانين والضوابط والإجراءات التي لا تراعي إنسانيته ينبغي أن تصبح لاغية.
كانت هذه مجرد مقدمة في الموضوع يمكن العمل على تعميق النقاش في كل جوانبها إن لاقت منكم القبول والاستحسان؛ وقبل الختم أؤكد على استمراري في إضرابي المفتوح عن الطعام إلى حين تمكيني من حقي في التطبيب في ظروف إنسانية، وإرجاع دفاتري الشخصية، وتقبل فكرة أني معتقل رأي لا يتوقف عن الكتابة والمناقشة وإبداء الرأي، وأن ذلك حاجة من حاجاتي الضرورية والأساسية التي لا يمكنني التخلي عنها.