أمور مهمة حول الإجهاض: تأكيدا لفتوى العلامة مصطفى بنحمزة
عبد السلام أجرير
هوية بريس – الخميس 19 مارس 2015
* مقدمة تمهيدية:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
إلى عهد قريب لم نكن نعيش إشكالا حقيقيا حول مسألة الإجهاض، بل كانت كل دعوة إلى إباحته أو حتى تقنينه لا يُلتفت إليها، وتلقى ردا كبيرا من قبل المجتمع قبل علمائه ومسؤوليه. أما اليوم فنرى دعوات كثيرة إلى الإجهاض هنا وهناك، ومناظرات وطنية فيه، ورأينا عشرات الدعوات الحقوقية الداعية إلى إباحة الإجهاض مطلقا تأسيا بالنموذج الغربي، باعتبار أن ثقافة الغرب هي النموذج الأسمى والأرقى في العالم، فثقافته يُراد لها أن تكون ثقافة عالمية كونية، وكل ثقافة تخالفه فهي نوع من التخلف أو التطرف!
يحسب الحقوقيون أن الإجهاض مسألة متعلقة بالأم الحامل ولا علاقة لها بالجنين، ففي نظرهم أن الإجهاض من حقها وحدها؛ لأنها صاحبة الحمل… ولكن التوقف قليلا عند حقائق الأمور يُظهر العكس تماما؛ فالأم لا تملك شيئا من الجنين أبدا، فجنينها كائن مستقل في خلقته وروحه، استُودعته ليس إلا، فلم يكن لها دخل في تشكيله وتشكّله. فكما لم يكن أحد مالكا لروحها هي فكذلك هو، فهو وديعة استودعها الله تعالى هذه الأم، فكيف تُضيّع الوديعة بغير وجه حق؟
صحيح أن الإجهاض أمر واقعي في مجتمعنا، ولكنه بنسبة ضئيلة وليس ظاهرة كما يصورها بعض الحقوقيين، ولكنه على كل حال موجود، فلا يحتاج إلى سند قانوني كي يوجد، فحالات الإجهاض السري متعددة، والمسئولون يعلمون ذلك.
ولكن لم هؤلاء الحقوقيون ينادون بأعلى صوتهم بضرورة تشريع الإجهاض وإباحته؟ إنه فكر علماني لا يرضى بالواقع فقط، وإنما يريد تغيير النص والقانون، فلن يحلو لهم الأمر حتى يرون قانونا صريحا يبيح الإجهاض، وإن كان جل المغاربة ضد الإجهاض، فرأي الشعب في آخر المطاف لا يهمهم.
أنا على يقين لو استفتي الشعب لفاقت النسبة 90 بالمائة صوتا، كلها ضد الإجهاض، فلماذا لا تستخدم حكوماتنا هذه الورقة وتحترم إرادة الشعب ورغبة المواطنين؟ أولسنا دولة ديمقراطية؟
بعد هذا التمهيد، فإن مسألة الإجهاض هذه سوف أتناولها في ست نقط وخاتمة:
1- الحكم الفقهي المتعلق بالإجهاض هو كما مقرر عند فقهائنا رحمهم الله:
إن فعل الإجهاض هو فعل مقوّم بالصواب أو بالخطأ، وهذا التقويم كما نعلم أن أصحابه هم العلماء والفقهاء، وليس الأطباء ولا الحقوقيون، فهذه مسلمة ينبغي ألا يُجادل فيها مسلم.
والإجهاض حكمه الفقهي يختلف باختلاف وقته، فإما أن يكون قبل نفخ الروح في الجنين أو بعده.
أولا: حكم الإجهاض قبل نفخ الروح:
مذهب جمهور المالكية وبعض العلماء مثل الغزالي من الشافعية وابن الجوزي من الحنابلة أنه يحرم إسقاط الجنين مطلقا، سواء قبل نفخ الروح فيه أو بعده؛ إلا أن يكون في استمراره ضرر محقق على الأم يفضي إلى موتها أو شللها… فحين ذلك يجوز الإجهاض بهذا الشرط وبخبرة الطبيب الثقة الأمين.
أما جمهور العلماء فأجازوا الإجهاض قبل نفخ الروح مطلقا، وإنما اختلفوا في أسبابه فقط.
ثانيا: حكم الإجهاض بعد نفخ الروح:
أما بعد نفخ الروح فيه، (ويكون ذلك في الأربعينيات من عمر الجنين كما هو معلوم في الطب والحديث النبوي)، «فقد أجمع العلماء على تحريمه مطلقا، للضرورة أو غيرها باستثناء ما إذا كان بقاء الولد في بطن أمه يفضي بها إلى الموت الكلي وهو الوفاة، أو إلى الموت الجزئي مثل شلل الأطراف، أو عاهة مستديمة»1.
وهذا الجزء الأخير من الإجهاض هو الذي يهمنا؛ لأنه هو الخطير وهو الذي لا يجوز فيه السكوت على كل حال. ويكفينا فيه إجماع الأمة على منعه وتحريمه. وتقريرا لهذا الإجماع أضيف في النقط الآتية بعض التعليلات والأسباب التي تقرب لنا معرفة خطورة الإجهاض وضرره.
2- انتفاء النسب بين الزاني وابنه من الزنا شرعا:
مما تقرر عند العلماء أن ابن الزنا لا علاقة شرعية له بأبيه من الزنا، فالنسب مقطوع بينهما، والعلاقة غير ثابتة. وما أعدمه الشرعُ لا يُعطى له حكم الثبوت في الواقع، فقد تقرر عند العلماء أن «المعدوم شرعا كالمعدوم حسا»2.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب قوله: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»3. فلا يثبت النسب إلا بالزواج الشرعي فقط.
3- الجنين بعد نفخ الروح فيه هو إنسان كامل الخلقة، فلا يجوز قتله بغير حق:
نعلم أنه من أهم بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التي صادقت عليه الدول هذا البند: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.« وهذا ثالث بند نجده في بيان بنود حقوق الإنسان الدولية4. أفلا يتساءل من يدافع عن الإجهاض من يكون ذلك الجنين؟ أوليس هو إنسان كامل الإنسانية مثله مثل أمه؟ فهو له قلب ودماغ وحياة ونفس وأعضاء… فكيف يقع أهل حقوق الإنسان في التناقض مع أهم بند من بنودهم التي يدافعون عنها ويريدون تكريسها؟! سبحان الله، تناقض غريب.
إن قتل الجنين وهو في بطن أمه مثله مثل قتله وهو خارج بطن أمه، لا فرق أبدا بينهما.
4- ابن الزنا له جميع الحقوق التي لغيره إلا الانتساب لأبيه وإرثه منه:
مما عُلم شرعا أن ابن الزنا مثله مثل باقي الأبناء والأطفال، له جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات ولا فرق، وإنما يُحرم من الانتساب لأبيه من الزنا لأن العلاقة بينهما غير شرعية كما أسلفت، ويُنسب لأمه اتفاقا، وطالما علاقته بأبيه غير شرعية فإنه لا يرث أحدهما الآخر. ولا أعلم أن هناك مسألة أخرى يُستثنى منها ابن الزنا غير هذه.
بل ذهب قلة قليلة من الفقهاء إلى جواز إثبات نسب الابن إلى أبيه من الزنا بشروط، وربما هذا ما هو الرائج في مجتمعاتنا الإسلامية حيث يعمد الزاني أو المغتصب إلى الزوج بمن اغتصبها أو زنا بها فيستر الأمر ويُلحق به الولد. ولكن هذا كما قلت مخالف لما عليه جل علماء الأمة، ومفاسده لا شك عظيمة.
قال ابن رشد الحفيد في باب “هل يلحق أولاد الزنى بآبائهم؟”: «واتفق الجمهور على أن أولاد الزنا لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب، على اختلاف في ذلك بين الصحابة. وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنا في الإسلام (أعني: الذي كان عن زنا في الإسلام)»5. ونعلم أن الفقه الشاذ لا يُعمل به.
فابن الزنا لا يضره أن يكون أبوه غير شرعي ولا يضره أن تكون أمه زانية أو مغتصبة؛ لأنه تقرر أنه {لا تزر وازرة وزر أخرى}. فكم من رجال في التاريخ اشتهروا بعدم معرفة آبائهم، وكان آباؤهم مجهولين، ومع ذلك لم يجعلهم هذا في عزلة أو ولّد فيهم عقدة. ك”زياد بن أبيه” والي بني أمية الشهير، وهناك من كان يُنسب لأمه ولا يُعلم له أب من العلماء.
والإسلام إذ حرم الانتساب والإرث من الأب الزاني فقد أجاز أن يُنسب الولد لأمه أو لشخص مجهول كـ”عبد الله”؛ لأن أباه هو عبد من عباد الله… وكذا يرث من أمه إرثا كاملا، وكذا أجاز الشرع أن يُتكفل بهذا الابن ولو من قبل أبيه الزاني، (كفالة وليس تبنيا)، وكذا يجوز لأبيه من الزنا أن يهبه جزء من ماله أو كله إن رأى في ذلك مصلحة…
بمعنى أن الإسلام ضيق في مسألة خفيفة وفتح في مقابلها أبوابا كثرة جدا، فلا ينبغي أن نغفل عن ذلك.
5- تسهيل الإجهاض فيه تشجيع على الفساد:
رغم أن الإجهاض قد ينقذ بعض الأشخاص من الفضيحة، ولكن ضرره أكثر من نفعه، فهو كالخمر والميسر اللذيْن قال فيهما الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، ونعلم أنه إذا غلَبت فسدةُ الشيء على مصلحته حُرم، فيُحرّم الإجهاض لكثرة مفاسده إذن، وإن كان فيه بعض النفع، فإنه نفع قليل.
ومن أعظم مفاسد إباحة الإجهاض -بعد مفسدة قتل النفس- التشجيع على الزنا؛ لأن إباحته لن يجعل أمام الناس رادعا يخيفهم بعد زوال رادع الدين والإيمان.
6- تنبيهات لا بد منها:
أ- الغرب تحول من المدافع عن حقوق الإنسان إلى المدافع عن حقوق الشيطان:
إن مشكلة الغرب، ومن يتبعه من حقوقيي بلداننا الإسلامية، أنه تحول من تحقيق حقوق الإنسان إلى تحقيق حقوق الشيطان، فهو تجاوز مرحلة حقوق الإنسان إلى مرحلة حقوق الشيطان، فالإجهاض إلى عهد ليس بعيدا جدا كان ممنوعا في القوانين الأوربية ومحرما في الكنيسة المسيحية، وكذلك الشذوذ الجنسي… ولكن كلاهما أصبح مباحا اليوم ومن صميم حقوق الإنسان! فغريب كيف تحول أمر ممنوع محرم غير مشروع إلى مشروع وجائز في رمشة عين! فهذا إذن نوع من تسلط فكر الشيطان والهوى على مجتمع الناس وحياتهم.
ب- الشريعة جاءت لإصلاح الناس لا لتبرير أخطاء الناس:
إن مشكلة مجتمعنا الإسلامي اليوم مرتبطة بخطأ في فهم مراد الشريعة وتصور غاياتها، خطأ لا يسلم منه حتى بعض طلبة العلوم الشرعية، وهو اجتهادهم في تكريس أحكام الشريعة من أجل خدمة إرادة المجتمع ومسايرة واقعه المرير، بدعوى أن الواقع لا يرتفع…
وإنما الشريعة في الأصل جاءت لرفع المجتمع من براثينه وواقعه المرير إلى وضع حسن فيه رقي ومثل عليا، جاءت لإصلاح مفاسده، ولم تأت لأجل تكريس الواقع ومسايرته إن كان واقعا فاسدا. نعم الشريعة تروم التخفيف والتيسير ولكن بقدر محدود وبضوابط محدودة.
فالشريعة من شأنها أنها ترفع، ولا تنخفض هي إلى الحضيض، ومن أراد أن يجيز الإجهاض مطلقا أراد للشرع أن يكون خادما لرغبات الناس وواقعهم المرير لا إصلاحه.
* خاتمة:
الإجهاض جريمة قتل متوفرة على جميع الأركان والشروط إن كان الجنين قد زُرع فيه الروح، فلا يجوز فعلها إلا إذا تعارضت حياة الجنين مع حياة الأم وكان التعارض حقيقيا، فحينها تُقدم حياة الأم لأنها حياة محققة، وتُهدر حياة الجنين لأن حياته مظنونة، فيُقدم المحقق على المظنون. في ما عدا هذه الحالة فإن الإجهاض لا يجوز إجماعا. بل رأينا أن مذهبنا المالكي (وبعض العلماء خارج المذهب) لا يجيز الإجهاض مطلقا سواء قبل نفخ الروح في الجنين أو بعده، إلا في حالة الضرورة السابقة.
وليس من الضرورات المبيحة للإجهاض الخوف من عار الزنا أو الخوف من فضيحة الاغتصاب… وليس من الضرورات عدم الرغبة في إنجاب… لأن كل ذلك لا يبرر القتل العمد.
والإجهاض يتعارض مع أهم بند من بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو حق كل إنسان في الحياة، فالإجهاض قتل لروح إنسان لم يستحق القتل ولا استوجبه.
والله الهادي إلى الصواب.
هامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) يُنظر في هذا الصدد ما جمعه وحققه أستاذنا عبد الله بنطاهر في مسألة الإجهاض.
2) يُنظر تفصيل القاعدة وتطبيقاتها في كتاب “الفروق” للقرافي.
3) رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم وغيرهم.
4) يُنظر ذلك في الموقع الرسمي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهذا رابطه:
http://www.un.org/ar/documents/udhr/
5) يُنظر “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لابن رشد الحفيد، (4/142).