خطابات الحقوق، جعجعة بلا طحين؛ البيـــــان الأخيـــــــر
هوية بريس – متابعة
السبت 21 مارس 2015
توصلنا في “هوية بريس”، ببيان للصحفي المعتقل منذ 16 ماي 2013، مصطفى الحسناوي، رمز إليه بأنه البيان الأخير، وعنونه بـ”خطابات الحقوق، جعجعة بلا طحين”، كتب فيه:
“أبـيـت لـيـلي كملسـوع تساوره***زرق الأفاعي وقد حدت أياديه
الجسم في ألم والروح في قلق***وا لقلب في فزع من خوف آتيه
الأبيات من قصيدة لمحمد عبده، نقلها عنه الشيخ رشيد رضا نظمها في سجنه سنة 1882م بعد القبض عليه عقب مشاركته في الثورة ضد الخِديوي توفيق، اقتبستها للتعبير عن ما عانيته طوال مدة إضرابي المفتوح عن الطعام، التي بلغت أربعين يوما من أجل حقوق ومطالب شرعية عادلة لم أستطع تحقيق أيا منها، لا بأس أن أذكر بها رغم أنني ما فتئت أفعل ذلك في كل مناسبة كانت تتاح لي.
يتعلق الأمر بحق إنساني تتغنى به الجهات الحقوقية والجهات الرسمية، هو الحق في التطبيب الذي حرمت منه بسبب رفضي لمساومات وضغوطات وابتزازات وتعريضي للوصم stigmatisation والتمييز، وأيضا لاستعادة مجموعة من الدفاتر الشخصية التي صادرتها الإدارة بحجة التأكد من خلوها من أي كتابات تتعلق بالسجن أو تفضح أسراره، ليتضح أن جهة أخرى هي التي طلبت تلك الدفاتر والكراريس وأن الإدارة أعطت لنفسها الحق خارج القانون وبعيدا عن المروءة والأخلاق تسليم أغراضي لجهة أخرى لا زالت الإدارة تصفها بالجهة العليا، لا بأس أيضا أن أعلن عن محتويات تلك الدفاتر التي تهتم بها الجهات العليا وتسعى للاستيلاء عليها وسرقتها بالطرق الملتوية مسخرة في ذلك إدارة مؤسسة المفروض أنها مستقلة وتشتغل في إطار القانون، يتعلق الأمر بـ:
– دفتر دونت به سيرتي الذاتية بدءا من الطفولة، أنجزت منها حوالي 80 في المائة.
– دفتر خاص بيوميات ومذكرات.
– دراسة في السيرة النبوية وهي دراسة مقارنة لمشاريع ومناهج وأدبيات الجماعات الإسلامية أنجزت منها حوالي 60 في المائة.
– دفتر به مجموعة من المقالات والدراسات والمناقشات لمجموعة من القضايا الفكرية والسياسية والعقدية الراهنة وبعضها مستوحى من نقاشات مع بعض المعتقلين.
– دفتر به محاولات إبداعية (أشعار، خواطر، قصص قصيرة). – دفتر به تقييدات ونقولات لمعلومات وفوائد عامة سواء تلك التي أستفيدها من الكتب التي أطالعها داخل السجن أو تلك التي أستفيدها من خلال متابعتي لبرامج الإذاعة أو التلفاز سواء كانت مادة إخبارية أو سياسية، رياضية أو فكرية أو فنية وتلك التي أستفيدها من السجناء من مختلف مستوياتهم.
– بالإضافة لأوراق ومسودات منفردة لمقالات ورسائل وأرقام هواتف ونسخ لبياناتي وشكاياتي التي سبق نشرها.
إن سرقة ما راكمته من كتابات على مدى سنة ونصف لدليل على أني اعتقلت بسبب أفكاري وكتاباتي ولما رأت الجهات المعنية أن تلك الكتابة لم تتوقف حتى داخل السجن لجأت إلى هذا العمل الدنيء.
بالعودة لأبيات محمد عبده التي نفث فيها همومه وشارك مع الناس فيها معاناته وصور فيها حاله أبلغ تصوير لم يكن في ذلك الزمان بإمكانه أن يبلغ صوته للرأي العام بالسرعة التي عليها حالنا الآن، ولم تكن هناك جمعيات المجتمع المدني ولا الجمعيات الحقوقية بالشكل والعدد الذي في زماننا ولم يكن الخديوي توفيق يدعي أنه الحامي لحقوق الإنسان ولحرية التعبير وأنه أنشأ لأجل ذلك مؤسسات حقوقية رسمية ورخص لأخرى غير رسمية وأن الصحافة والإعلام في عهد اشتد عودها واستوى ساقها وبلغت من الجرأة ونالت من الحرية ما لم يحصل في العهود السابقة وأن مؤسسة القضاء وجميع السلطات والمؤسسات الساهرة على تطبيق القانون مستقلة ونزيهة، لم يكن هناك نفاق أو تلبيس على الناس أو تزوير وقلب للحقائق، كان كل شيء واضحا. لا أنكر أننا نتمتع بحرية غير مسبوقة في بلادنا، لكنها حرية من نوع آخر، وضع لها المخزن قاعدة تقول للمواطن: “قل أو افعل ما تشاء، لن نكثرت لأي شيء”، ربما لأن هذا المخزن يعتبرونا كلابا وأنه هو القافلة التي تشق طريقها غير مكثرتة بالنباح، فهمت الآن لماذا هذه الحرية، لأنها كعدمها.
كل مطلب أو شكاية أو انتهاك أو حدث أو واقعة أو بيان لم أكن أجد صعوبة في إبلاغه للرأي العام في نفس اليوم وأحيانا في حينه وساعته.
معاناتي هذه من أجل مطالبي وحقوقي العادلة تابعها الجميع لحظة بلحظة، مستفيدا من تجربتي الصحفية وأسلوبي في الكتابة وعلاقاتي المتعددة، فكنت أصيغ أحيانا الخبر بنفسي وأختار العنوان المناسب، أسربه بطريقة أو بأخرى ليتم إرساله لأزيد من 800 بريد شخصي لفاعلين حقوقيين وإعلاميين وسياسيين وشخصيات رسمية ويعمم في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنابر الشريفة النزيهة والمستقلة، لكن أغلب من يصلهم الخبر أو البيان في بريدهم الشخصي أو يقرأونه في المنابر والمواقع من الحقوقيين والإعلاميين يتجاهلونه رغم أني أتحدث عن مطالب عادلة ومعاناة إنسانية لا علاقة لها لا بقضيتي ولا بلمفي ولا بقناعاتي ولا بأفكاري.
كنت أستغرب أن يكون موقف كثير من المنابر الإعلامية التي تدعي المصداقية والاستقلالية وخدمة الحقيقة وتقديس الخبر كموقف إعلام المخزن وأبواقه وأن يكون موقف كثير من الجهات الحقوقية التي ترفع شعارات أكبر منها مدعية الوقوف إلى جانب الحق الإنساني ومناهضة الظلم وإدانة الانتهاكات واستنكار المعاملة اللاإنسانية، أستنكر أن يكون موقفها كموقف الجهات الحقوقية الرسمية المتماهية في خطابها مع خطاب المخزن، وقد راسلت المجلس الوطني لحقوق الإنسان في معاناتي هاته ولم يكلف نفسه عناء إرسال لجنة لزيارتي والاستماع إلي.
لا عجب في كل ذلك، لأن اليد الطولى هي للأجهزة الأمنية وهي اليد التي تحرك كل العرائس (marionnette) الحقوقية والإعلامية والقانونية.
ولا أرى في هذه الظروف إلا تلك اليد تزداد طولا خصوصا بعد الموقف الفرنسي وهي بذلك تكسب نقطا إضافية وتوسع من صلاحياتها وتسرق كل الأضواء فلا يسع الأصوات الأخرى إلا أن تخبو أو تتماهى مع الصوت المهيمن ولا يسع الأيادي الأخرى إلا أن تصفق أو يتم قطعها، كل ذلك بإخراج مبهر يعتمد مؤثرات خاصة تقلب الباطل حقا والحق باطلا والظالم مصلحا والمظلوم مجرما.
لأجل كل ذلك، أعلن إيقاف إضرابي عن الطعام دون أن أتمكن من تحقيق أي مطلب من مطالبي أو نيل أي حق من حقوقي البسيطة العادلة والمشروعة وسيكون هذا آخر إضراب أخوضه لعدم جدوى هذه الوسائل الغبية في ظل منظومة فاسدة حتى النخاع تماما كما لا تجدي كل الوسائل والمساطر والقنوات الرسمية القضائية والقانونية والحقوقية الصورية التي لا تزن كرامة وإنسانية المواطن أي اهتمام، ولا عبرة بالشعارات والخطابات وليس الخبر كالعيان. وأختم كما بدأت بأبيات لمحمد عبده من نفس القصيدة:
وما ذنبي لـدى دهـري سوى شَمَمٍ***يأبى الدنايا وأفكار تضاهيه
أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني***إلا الثبات وحسبي من أصافيه
مصطفى الحسنـــاوي السجـن المركـزي، القنيطـرة”.