مشاهد العنف: الأثر والاستمداد
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الإثنين 23 مارس 2015
يعيش العالم المعاصر تقلبات كبيرة، وتجاذبات عظيمة، تولدت عن حب السيطرة التي استفحل أمرها عند الإنسان المعاصر، بدافع التقدم التكنلوجي، وتطور وسائل السيطرة والتهديد، من الأسلحة، والعلوم، وفكر الغالب وثقافته، حتى صارت بعض مجتمعاتنا تتنفس ثقافة الصراع، والقوة، والغلبة.
فصارت مشاهد العنف مغلفة بجلباب الإقصاء، وعدم الاعتراف بالآخر، بل ومحاولة تصفيته والإجهاز على مقدراته، ما دام العنف نوع استخدام للقوَّة بهدف تصفية الحسابات.
ونرى العالم اليوم يعج بالحروب الدامية، ويشتعل بإثارة النعرات الطائفية، والدعوات المذهبية. أما الأمم، والمجتمعات، والدول، فكثير منها لم يسلم من اعتداءات، ومضايقات، وربما جرت عليها الحروب والمَقْتَلات.
وأما الإعلام بمختلف أصنافه وضروبه، فقد اتخذ من مشاهد العنف سبيلا، ومن برامج الحيل والاعتداءات والكوارث ديدنا.
وأما الشوارع، فقد أضحت مسرحا للمعاركات والخصومات. وأما المدارس والجامعات، فصارت -في كثير من الأحيان- ميدانا للاحتجاجات والشعارات، وأما الأسر، فكثيرا ما ترفع فيها أصوات الشجارات، وصَرخات الملاسَنات، وأما المصالح العمومية، فقليلا ما تقضى فيها الحاجات بلا مناوشات أو مشاغبات.
دبت العصبية إلى الناس، حتى اجتاحت الاضطرابات النفسية أكثر من نصف سكان العالم، وصار %7من البشر يعانون الاكتئاب النفسي، و1% يعانون من الفصام، و3% من الوسواس القهري، وأصبح – اليوم – ثلث البشر مصابين بالقلق.
ويقدر عدد حالات الاكتئاب في العالم بقرابة 340 مليون حالة، تؤدى إلى ما يقرب من 800 ألف حالة انتحار كل عام. علما بأن نسبة أعباء الأمراض النفسية والعصبية تمثل 10.6% من مجموع الأمراض مجتمعة، متسببة في ضياع 28% من سنوات الحياة للمرضى الذين يعانون منها.
عالم قلق ومضطرب، خلت معظم ساحاته من الجرعات الإيمانية الكفيلة لزجر المعتدي، وردع المبتدي “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى“.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ” مسلم. وقال قتادة: “إن المؤمنين قوم رفقاء رحماء”.
فماذا يجري في واقع البشرية، الذي عاكس هذه الآداب، وتنكب هذه الأخلاق؟
ـ بعد أن استيقظ العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين على 18 حربا نظامية، ها هو -اليوم- صار يملك قرابةَ 30 ألف رأس نووي، وهي كفيلة بتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، بعد أن قتلت الحروب ما بين 1907 و2007 أزيد من 250 مليون شخص، وبعد أن سخروا لخدمة هذه الحروب 50 مليون شخص، كل حسب اختصاصه، من بينهم 500 ألف عالم، وفني، ومهندس، وخبير، يستثمرون 30% من النفقات العالمية في مجال البحوث والتنمية على التسلح والأنشطة العسكرية، وهم يشكلون قرابة 90% من علماء العالم، بينما توزع 10% الباقية على مختلف الميادين النافعة.
وتؤكد الدراسات، أنه بالإمكان وضع نهاية للجوع في العالم، لو خصصنا له نسبة 10% مما ينفق على الأسلحة، مما يقدر بـ1,5 ترليون دولار سنويا، في الوقت الذي ينفق فيه العالم على التعليم 1.1 ترليون دولار، وعلى الصحة والتغذية مجتمعتين 2,1 ترليون دولار.
لو سار ألف مدجج في حاجة***لم يقضها إلا الذي يترفــــق
ـ وإذا كانوا يحتجون بحروب المسلمين، فقد كانت بدافع الدعوة إلى الله، لا بدافع الاستعمار، واستنزاف الخيرات، مع أن مجموع غزوات وبعوث النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يزد قتلاها عن 386 شخصا، 203 من المشركين، و183 من المسلمين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية يقول: “والله لا تدْعوني قريشٌ إلى خُطَّة توصَل بها الأرحام، وتَعْظُم فيها الحُرُمات، إلا أعطيتهم إياها” البخاري.
ولا يزال عنف حرب الطرق يزداد كل يوم، حتى أضحى التهور في الطرقات يخلف كل سنة مليونا و300 ألف قتيل، أي: وفاة ما يقرب من 150 شخصا في الساعة، ويتسبّب في إصابة أو إعاقة زهاء 50 مليون آخرين.
وفي بلدنا تقع أزيد من 52 ألف حادثة سير سنويا، يموت بسببها أزيد من 4000 شخصًا.
وفي مجال التعليم، اشتهر مصطلح العنف المدرسي، الذي هو محط دراسة بعض الأكاديميات اليوم، وبدأت تتنامى المشاجرات داخل بعض المؤسسات، سواء بين التلاميذ أنفسهم، أم بين التلاميذ ومدرسيهم أو مسؤولي إدارتهم.
وتلعب المؤثرات الخارجية، والضغوطات النفسية التي يعيشها عناصر العملية التعليمية دورا مهما في تأجيج نسبة العنف داخل المؤسسات، فـ”إذا كانت البيئة خارج المدرسة عنيفة، فأن المدرسة ستكون عنيفة” كما عبر أحد المربين الغربيين.
ولقد أثبتت الدراسات، أن الأطفال الذين شهدوا عنف آبائهم، معرضون ليكونوا عنيفين ومعتدين على زوجاتهم بنسبة ثلاثة أضعاف من الذين لم يشهدوا العنف في طفولتهم. فانظر كيف تسري عدوى الخلافات الزوجية العلنية إلى النسل من حيث لا ندري.
وأكدت هذه الدراسات أن نسبة 85% من تلك الصراعات العدوانية للتلاميذ والطلاب، ترجع إلى كل من الاستفزاز، والسخرية، والتنشئة المنزلية، إذ إن 75% من العينة المدروسة، هم من ذوي العائلات ذات المشاكل الأسرية غير السليمة.
أما وسائل الإعلام، ومواقع التواصل، فقد استغلها أعداء البشرية استغلالا دقيقا، وخططوا من خلالها تخطيطا محكما، ليفسدوا العلاقات الاجتماعية والأخلاقية داخل الأسر. ولا زالت تتخذ من مادة العنف، والجريمة، والقتل، وحوادث الاعتداء، والتفجيرات، والاغتيالات.. مادة قوية في أخبارها وإعلامها، حتى بلغت نسبة هذه الأحداث 75% من المادة الإخبارية.
أما أطفالنا فصاروا عرضة للقصف الإلكتروني عبر الشبكية، التي جذبت الطفل بألوانها المثيرة، وصورها المغرية، وبرامجها الإلكترونية المتقنة، دون أن نعي أن 60% من أفلام الكرتون المستوردة، تمتزج بالعنف والمشاهد غير المرغوبة، في الوقت الذي تثبت الدراسات – أيضا – أن الأطفال يميلون لتقليد ما يشاهدونه بنسبة 81% للذكور، و35% للإناث.
فكيف السبيل إلى التخلص من تأثير مشاهد العنف حولنا؟
لقد أمر ديننا أن نتحلى بأعلى درجات الحلم والصبر والتؤدة، في أفعالنا، وعلاقاتنا، وخطاباتنا، مع إخواننا المسلمين، وحتى مع غير المسلمين، فـ”ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا كان الخرق في شيء قط إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق” – كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- (ص. الترغيب).
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة” (ص. الترمذي).
والله تعالى أوصى موسى وهارون -عليهما السلام- في تعاملهما مع فرعون باللين والحكمة فقال: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى“.
ولما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، أوصاهما بالرفق واللطف، والدعوة إلى الاجتماع لا إلى التفرق والتشرذم، فقال: “يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا” متفق عليه.
وقال أبو عون الأنصاري -رحمه الله-: “ما تكلم الناس بكلمة صعبة، إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجرى مجراها“.
حتى مع أطفالنا ومتعلمينا، وجب تغيير سلوكنا، والاقتناع بأن القسوة في معاملتهم لا تعود بكبير نفع. يقول أنس -رضي الله عنه-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله -صلى الله عليه وسلم-. فخرجت حتى أَمُرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي. قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله” رواه مسلم.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنتجنب دواعي القسوة بيننا، ولنحفظ أنفسنا من مشاهد العنف، في أسرنا، وتعليمنا، وطرقنا، وإعلامنا، وعلاقاتنا، ولننشر ثقافة الرفق والتراحم بيننا، عسى الله أن يرحمنا في الدنيا والآخرة.
سامح الـنـاس إن أســــاؤوا إلـيكـا***وتغافـــــل إذا تجنـوا عـلـيـكا
ما ترى كيف أنت تعصي ومــولا***ك يزيد الإنعــــام دأبـا لديكا