الثورة الدينية..! (محاولة سيسية للعدوان على تراث الأمة ورموز مجدها) (ح1)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الأربعاء 25 مارس 2015
بسم الله الذي له الحجة البالغة أظهر دينه وأتم نوره ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وللمعاندين الويل مما يصفون إن ربي على صراط مستقيم.
والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم وبعث بمكارم الأخلاق بياناً وتبياناً وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:
فإن الذي تَمورُ به أطراف الأرضِ من المور الفكري والهرج الدموي؛ وما بينهما من سجالٍ ونصال؛ لأصدقُ برهانٍ على صدق رسالة الإسلام الخالدة التي ما زالت تجعل الأكوان في تربص لا يستطيعون لحججها حِوَلاً؛ ومهما تنوعت وسائط مكرهم الكُبَّار فإن هذا الدين يقوى عوده ويعلو صوته لأنه دين متين “ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه“؛ كما قال رسولنا الكريم.
أي أن هذا الإسلام ذو أصول راسخة وأفكار ثابتة ومنطق سليمٍ حتى وإن اكتنف طرفاه عزائم ابن عمر أو رخص ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنه لاحب الوسطِ لازبُ المهيعِ؛ فهو متين غير رخو وشديد غير غليظ وعزيز غيرُ جافٍ ولا ذليل.
قام على البراهين التي تأبى الريب ولا تتحمل العِوج؛ فهو الدينُ القيم وهو “دين القِّيِّمة” الذي جعل ببينته أعداءه الكفار من متفرقة أهل الكتاب والمشركين منفكين؛ فمتانته تجعلهم في أمر مريج لا يجدون -إن لم يتبعوه- سبيلا لمغالبته إلا بصرف الناس عنه؛ فيكونون سواء في الإعراض عنه وينحرف عنه أهله كما انحرف أعداؤه:
قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].
وقال سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:108،109].
فهو دين كامل وشريعة عالية ومحجة بيضاء ونعمة ربانية مرضية خاتمة؛ وهذه كلها تجلياتٌ لمتانته وصلابته؛ بحيث لن يُقْدَرَ على خدشه ولا انتهاك حجاب حفظه؛ أفرغ عليه من زُبُر الأولين وزُبَر الميزان وحديد البينات: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97].
مما جعله نورا ونارا لمن استوقدها بصدق، وصيبا نافعا لا تضر رعوده ولا بروقه وصواعقه من اسمتطره للهداية لا حذر الموت؛ فمن أراد أن يشادد هذا الدين دين الإسلام؛ فليبشر بأنه سيهزم الجمع ويولون الدبر؛ وليطمئن بأنه سيقتنع ما لم يمنعه استكبار وسيبقى اليقين به يعذبه حتى يلقى الله وقد أركسه جحوده؛ فهو دين غالب غير مغلوب وبالغ غير مقطوع وصادق الوَعدِ غير مكذوب..
ولذا فنحن أهل الإسلام لا نخاف هذه الهيشات من الهجمات والرسومات، ولا من البطش والانقلابات؛ وفي كل يوم نزداد يقينا بأنهم لا يريدون كلمة سواءً ولا مناظرة تظهر من أولى الناس بإبراهيم الخليل؛ إنه هذا النبي الكريم “والذين آمنوا والله ولي المؤمنين“؛ لأنه وبكل يسر “ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما“؛ فالإسلام الحنيف هو الجامعة الكبرى وما عداه تهاويش دراويش..
وكل صور المعارضة لهذا الدين الحنيف والتحريف له عن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه الكريم، وأصول المنهج الذي استقام عليه الرعيل الأول؛ هي ثورات كاذبة مآلها الرفض لعبودية الإله بدءً باعتراض إبليس استكباراً وادعائه الحجة في ذلك، وانتهاء بكفريات القاديانيين الذين مهدوا للمستعمرين كل أسباب البيع الجزاف لبلاد المسلمين حينما قالوا بأن النبوة لم تنقطع وأن الجهاد باطل وأن الوالي يطاع أيا كان دينه لأن الله ورثه الأرض لصلاحه الذي لا نعلمه.
فديننا لا يمنع مسرح العقل من السياحة بالسؤال، والسباحة في أفلاك المعارف المنصفة قصد الترقي في اليقينيات حقا وعلما وعيناً؛ ولذلك ذكر الله سؤال الملائكة عن فعل من أفعاله سبحانه: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30].
رهباً من أن يعصى الله وهم يشهدون.
وذكر سؤال إبراهيم عن إحياء الموتى ليقوى اطمئنان قلبه الذي سبق وأن أراه ربه ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، وذكر سؤال موسى إمكان رؤيته سبحانه..
ومجادلات القرآن وأسئلته وأجوبته علم قائم الأركان في علوم القرآن؛ ولم يكن عيبا ولا منهيا عنه ولا محرماً؛ ولكن إذا انقلب طعناً في الدين؛ كقول الجاهلية: “إنما البيع مثل الربا“، وتسفيها لشريعة رب العالمين؛ كقول اليهود: “لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً“؛ ولو بتأويلات مصطنعة تعقباً على أحكام الله تعالى؛ كقول اليهود: “ليس علينا في الأميين سبيل“، وتقييدا لمطلقاته؛ كقول المشركين: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:138،139].
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103].
وكالذين يتكلمون في الحريات والمواريث والمساواة والدولة المدنية والأصالة والمعاصرة والاقتصاد الحر؛ بدعوى التجديد المرخص والسؤال المجرد البريء والاقتراح السليم النوايا!
فهذا كله عبث رفضه القرآن؛ إذ دافعه التعنت والميل العظيم؛ وسجّل تلاعب أهاليه في مواطن عدة؛ كقوله تعالى في الذين زعموا الإيمان ثم يتحاكمون إلى الطاغوت تحاكم المؤمنين به؛ فإذا جددت لهم الدعوة: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61].
ثم يدّعون حين يظهر بطلان مناهجهم وخراب أفكارهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62].
قال سبحانه بعد أن جلى فساد اعتبارهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63].
فهذه ألوان من الجذور التاريخية لأدعياء (الثورة الدينية)؛ هي في حقيقتها معارضات جاهلية واستكبارات إبليسية تؤول بالناس إلى الانسلاخ عن الدين بالكلية، أو أن يُعزل الدينُ كالكنائس والأديرة؛ ولا علاقة لها بالمعتزلة الذين كان فيهم علماء -على ضلالهم- يحفظون العلم ويتهيبون القرآن ويقدسون الثوابت ويقيمون لغة الشريعة؛ كالجاحظ وابن أبي الحديد شارح النهج؛ ممن لو رأوا مدعي عقلانية زماننا لأقاموا عليهم الحدود من غير استتابات..!
ولا علاقة لها بالعقل الصريح ولا النقل الصحيح لكثرة ما في كلامهم من تناقضات:
فهم يبشرون بوطن التسامح وهم من يؤجج الحروب، ويشيدون بالديمقراطية ثم يرفضون نتائجها، ويستكثرون بالشعوب وهم من يسفه اختياراتها ويفرض الانقلاب عليها، و يرفضون الإرهاب وهم قتلة بدم بارد ولسان صارخ، ويتقدمون للجماهير بغير مشاريع إلا سخطة الإسلاميين..
وحتى في مبدأي القومية والمواطنة لم يكونوا إلا تكفيريين مع مخالفيهم أكثر ممن يسمونهم بالتكفيريين؛ وغير ذلك مما سنبينه -بحول الله تعالى- في مقالات مفصلات نتتبع فيها أساطين معاصريهم وآخر أقزامهم؛ ذلك البحيري الذي يعرض بلاداته وبذاءاته على قنوات الانقلابيين منذ ثلاث سنوات، وفي الشهر الكريم؛ ردا يليق بمتانة الإسلام ونصاعة أصول السلف الكرام، بعيدا عن النهج العقيم الذي تتبناه إحدى معاول الهدم الأخرى: قناة البصيرة؛ التي شوهت السلفية والسلفيين ونحن من ضلالاتها براء إلى يوم الدين..
فالهدم لهذا الدين سواء كان بالطغيان السيسي أو بالدجل البحيري أو بالهبل الرضواني؛ كله هدم تحركه أصابع المكر الكبار والصنائع الاستخباراتية..
وهذه الدعوة التي بلغت أوجها في العصر الحديث بعد اختطاف الانقلابيين لأرض الكنانة واستخدام الترسانات الإعلامية والأمنية والمالية والتعليمية من أجل إرهاب الفكر الحر وقصد مسخ الهوية الإسلامية، بدعاوى التجديد وبث روح المواطنة وتصحيح القديم وامتداح القلق الثقافي وحرية الحيرة ونقد التراث ونقض الموروث وتنوير الفكر، ومحاربة الإرهاب ولو بمحاولة محو رموز الأمة من ذاكرتها؛ كصلاح الدين وطارق بن زياد!
كلها زخارف قول، وغرور فعل أخرق..
ولم يعد خافياً على أحد أنها هجمة في العمق الإسلامي لهذا الدين وتاريخه وحضارته وأعلامه؛ من الصحابة إلى البخاري إلى سيبويه وعموم المفسرين والفقهاء والمحدثين والمجاهدين؛ ويظنون أنها الفرصة المواتية للإجهاز عما يعتقدونه عقبة في مجتمعهم الأمثل؛ وازداد الأمر استفحالاً بعد خطبتي المولد والكنيسة؛ حيث صرح قائد الانقلاب السيسي بما لا يدع مجالا للشك في أن الحرب على الثوابت دخل حيز الإرهاب العملي؛ دعوة للبطش والسجن، بل والإعدام لكل من قاوم دعواتهم الاستئصالية التي وثقها التاريخ عنهم بالصوت والصورة، وأكدوا أنهم هم الإرهابيون حقاًّ والظلاميون صدقاً..
إنها الحرب باسم التنوير حرقاً للمصادر وقبراً للمراجع والأمهات؛ كصحيح البخاري وصحيح مسلم مما لم يفعله عتاة الملل بمللهم؛ حتى (مارتن لوثر) الذي يتخذونه إمامهم كان منصفاً في مواجهة الاستبداد “بإعدام آخر حاكم بأمعاء آخر قسيس”؛ فجمع بين المواجهتين.
وحتى شيخهم (سميث) في كتابه “ثروة الأمم”، وأصحاب المدرسة النفعية؛ كـ(بنتام) في كتابه “نبذة عن الحكم”؛ فالسيادة عندهم للألم واللذة؛ كل يجريها بحسبه هروباً وإقبالاً..
في حين نرى هؤلاء المرتزقة المتأخرون يرتمون في أحضان المستبدين استقواءً بهم وكفراً بمبادئ الحوار التي لطالما ادعوها استخفاء؛ فكان فرعون أنصف منهم إذ قبل المناظرة في “مكان سوى” في موعد مشهود ووقت ظاهر مريح ممدود: “يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى” ؛ وكان سحرته ألطف إذ طلبوا الأجر مقابل الغلبة وليس مقابل النباح والصياح في شتى القنوات، والمعارضون مقتولون أو في المعتقلات..
ومارسوا الشجاعة المزيَفة في المنطقة الأقل خطراً؛ فلم يجرؤوا على مجابهة الطغاة ولا مهاجمة رغبتهم في السلطة الجارفة؛ فأثاروا كما فعل علي عبد الرزاق قديما في أصول الحكم معارك في الأوساط الدينية؛ وبدل أن يقول للحاكم المستبد المنقلب إن الشروط لا تتوفر فيك وإنك غاصب؛ توجهوا إلى فكرة الخلافة وشعيرة الشورى ومبدأ الإمامة والإمارة فأبطلوها أصالةً، وعوض رمي السلطان الجائر بسهمٍ رموا الإسلام في أصوله بسهامٍ…
أي ثورة هذه التي يكون الخصم فيها هو الحَكَم، والتي تجعل عملتها سب الإمام البخاري ورميه بالفظائع شخصه وكتابه؛ ويتهم بالتحريف والكذب والإرهاب؟!
هذه حملة لتفتيت المجتمع وللتشكيك في دينه؛ بحيث يرغب عن الجميع فيصير بلا وطن ولا هوية ولا روح ولا جسد ولا دين ولا دولة؛
فتغلب المادة على الفكر ويستولي الشكل على الحقيقة؛ فيتم التحكم الكامل في الشعوب وكأنهم عبيد لأرباب السلطة والغلبة؛ كما هو مشروح في نواميس التاريخ وهو ظاهر الاستقرار الوهمي الذي تعيشه بلاد الغرب.
إن هذه الدعوة الغادرة كانت تتحفظ حذراً، وربما شعر بعضهم بخطيئة الزندقة حينما يدعو لتلك المبادئ الشاذة باسم الحرية؛ كما نرى كثيرا في بعض الصحافة السخيفة كالأحداث المغربية التي تواسي من سب رسولنا وتشمت بأهل غزة وبالرئيس المنتخب في مصر، أو بفتاوى الأئمة الأعلام كالشيخ القرضاوي؛ لكننا نرى كثيراً منهم بعد هذه النكبة السيسية قد ازداد جراءة وعداوة مستغلين للأوضاع السياسية المتقلبة التي لا نشك في أن الدائرة عليهم بإذن الله وسيرجع الحق لأهله والمياه في مجاريها..
وصارت عقدهم النفسية في الخوف من “النص الشرعي”، واسترواحهم بالغرب وتجاربه؛ ومقارنتهم بين فكره وبين مجتمعات المسلمين المتخلفة؛ هي السبب فيما يتخيلونه: “ثورة دينية”!
فقبلوا بأطروحات الغرب نموذجاً وحكماً ومرجعيةً؛ وهنا تكمن الصعوبة عندهم؛ لأنه لا يمكن للغرب أن يستوعب “معنى الوحي” وهو مجتمع مادي بحت، ولا أن ينشر “معنى الأمة” وهو يفزع للعنصرية والتمييز في كل امتحان، ولا أن يقدر “قيمة العلماء” وهو جغرافية بلا تاريخ إلا صفحات من الانحطاط والاقتتال.
وأما علوم الإسلام فهي السد المنيع الذي نواجه به ألاعيبهم، ومهما تطلبوا فيها ما يشيعون به باطلهم؛ فهو من تجزئة الكتاب إيمانا ببعضه وكفراً بالآخر: “ومن الأحزاب من ينكر بعضه“.
ومنهم من يحرفه عن مواضعه وينسى حظاًّ مما ذكر به؛ وبالأخص علم “أصول الفقه” الذي لشدته عليهم في ضبط معايير الفهم عند السلف والخلف؛ جعلوا اللمز به صنوا للظلامية والرجعية والإرهاب؛ فيقولون عن أهل الحق: “الأصولية والأصوليون”؛ حتى يشمئز الناس من “عنوان هذا العلم الشريف”، لارتباطه إعلاميا بذاك المعنى المخيف؛ فيرغب الناس عن تعلمه فيخلوا الجو لهؤلاء العبثيين أكثر وأكثر.
والمقصود أنهم لن يجدوا في أصول الفقه ما يروج به باطلهم ولكنهم قد يستغلون بعض القواعد دون ضمها لمتمماتها؛ كادعائهم تغير الفتوى بتغير الظروف، أو توقيف العمل بالنصوص، أو تأريخية النص وسياق الزمان والمكان..
كما أنهم يسطون على السنة في حجية الآحاد وعدالة الصحابة ونحو ذلك من الحيل التي تعود على الدين بالإنكار أو الإبطال..
كما أنهم ينتقون من الفقه بعض القضايا التي تشكل حلقة من العقد؛ فيخيلون الدين حدودا فقط، وأنه جهاد وجزية وردة؛ فلا يتجاوزونها لفهم المنظومة الكاملة التي تعطي الصورة الساطعة التي لن يستشكلها عاقل بعد ذلك؛ كما قلت لبعضهم لما أنكر حديث “بعثت بالسيف” و”أمرت أن أقاتل” ونحوه؛ فقلت له بكل يسر: وهل وجدت دولة بلا وزارة دفاع ولا سلاح حربية؟!
يقول الشاطبي في الموافقات: “ومدار الغلط في هذا الفصل، إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض؛ فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها، وجزئياتها المرتبة عليها“..
إلى أن قال:
“فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا؛ كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة.
وشأن متبعي المتشابهات: أخذ دليل ما -أي دليل كان- عفوًا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيا” اهـ.
يتبع بحول الله تعالى..