لمحة كالبرق عن السلفية الحق
د. رشيد نافع
هوية بريس – الأحد 12 أبريل 2015
قال ابن منظور رحمه الله “والسلف من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها: “فإنه نعم السلف أنا لك” رواه مسلم.
اصطلاحاً: قال القلشانى: السلف الصالح، وهو الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، الحافظون لسنته، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وانتخبهم لإقامة دينه، ورضيهم أئمة للأمة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، وأفرغوا في نصح الأمة ونفعهم، وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} (التوبة:100).
وقال السمعاني رحمه الله في الأنساب (3/273): “السلفي؛ بفتح السين واللام وفي آخرها فاء: هذه النسبة إلى السلف، وانتحال مذاهبهم على ما سمعت منهم”.
وقال الإمام الذهبي قال في ترجمة: الحافظ أحمد بن محمد المعروف بـ أبي طاهر السلفي: “السلفي بفتحتين وهو من كان على مذهب السلف” “سير أعلام النبلاء” (21/6).
فلفظ السلفية أو السلفي لا يطلق عند علماء السنة والجماعة إلا على سبيل المدح.
والسلفية رسم شرعي أصيل يرادف {أهل السنة والجماعة} و{أهل السنة } و{أهل الجماعة}، و{أهل الأثر}، و{أهل الحديث}، و{الفرقة الناجية}، و{الطائفة المنصورة}، و{أهل الاتباع}.
قال ابن القيم رحمه الله عنهم: “هم فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام”.
ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم، فقد دأب علماء المسلمين من سلف هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان على توريث علومهم لتلامذتهم، الذين يتبوأون من بعدهم منازلهم، وتصبح لهم الريادة والإمامة في الأمة، ولا يتصدر هؤلاء التلاميذ حتى يروا إقرار مشايخهم لهم بالعلم، وإذنهم لهم بالتصدر والإفتاء والتدريس فهؤلاء يؤخذ عنهم العلم والتلقي، فلا يجدي الأخذ عن الكتب فقط، بل الاقتصار في التلقي على الأخذ من الكتب بلية من البلايا، وكذا اجتماع الشباب والطلبة على التدارس دون أخذ عن شيخ.
والسلفيون يحبون علماءهم ويجلونهم ويتأدبون معهم ويدافعون عنهم ويحسنون الظن بهم ويأخذون عنهم، وينشرون محامدهم، إلا أنهم بشر غير معصومين، بل يجوز عليهم في الجملة الخطأ والنسيان إلا أن ذلك لا ينقص من أقدارهم، ولا يُسوِّغ ترك الأخذ عنهم.
قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير: “فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقيا ذكيا نحويا لغويا زكيا حييا سلفيا”، وقد حكى الإجماع على صحة الانتساب إلى السلف شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- في الفتاوى: في رده على قول العز بن عبد السلام: “.. والآخر يتستر بمذهب السلف”، بقوله: (ولا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً، فإن كان موافقاً له باطناً وظاهراً، فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً، وإن كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق ، فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم).
والسلف بمعنى من سبق منهم الصالحون ومنهم الطالحون، والنسبة إليه سلفي، والسلف الصالح بالنسبة لنا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والنسبة إليهم لا تعني إلا أن المنسوب إليهم سائر على نهجهم وطريقتهم، وعلى ذلك فالسلفية ليست جماعة من الجماعات، كما أنها ليست فترة زمنية من الفترات مرت وانتهت، وإنما السلفية تعني متابعة السلف الصالح في تعاملهم مع كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في فهم الدين والعمل به والدعوة إليه، وهم أهل السنة والجماعة، مما يعني أن السلفية منهج علمي وعملي شامل ومتكامل تجاه النصوص الشرعية، وليست مجرد موقف علمي، وقد حث الله تبارك وتعالى على اتباع السلف الصالح في قوله: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” [التوبة:100]، كما قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم“، فهي بذلك منهج قابل للتكرار على اتساع الزمان والمكان.
لقد كان التزام المسلمين بالمنهج السلفي في التعامل مع نصوص الشريعة من حيث الفهم والعمل، ضمانة ثبات الدين عندهم وعدم تحريفه في أذهانهم، مصداقا لقوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” [الحجر:9]، كما مكَّن هذا الالتزام من التعامل مع النوازل والمستجدات بالطريقة نفسها التي تعامل بها السلف الصالح معها، مما يعني وحدة المنهج التي تؤلف بين المسلمين فتجعل منهم نسيجا متجانسا، ولا يعني هذا عدم الاختلاف بين أصحاب المنهج السلفي في الفهم مطلقا، فذلك أمر غير مقدور كما أنه ليس مطلوبا، وإنما يكون الخلاف في هذه الحالة خلافا منضبطا أي وفق أطر وقواعد معلومة، تنأى بالاختلاف في الفهم والاستنباط عن أن يكون تفرقا في الدين، أو تفلتا وخروجا على النصوص، كما لا يعني العصمة في الفهم والعمل، بحيث لا تكون هناك أخطاء علمية أو عملية، فذلك أيضا لم يُضمن لأحد غير الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ومن أدبيات المنهج السلفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال: “ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم“، وتبعه في ذلك مجاهد فقال: “ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم“، وقد ورد نحو هذا عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، وقد ورد نحو ذلك أيضا عن كوكبة كبيرة من أهل العلم في جميع المذاهب.
غير أن المناوئين للمنهج السلفي يروجون بعض المفاهيم المغلوطة عنه، ويخلطونها ببعض التحليلات التي تعتمد على تلك المفاهيم، فمن ذلك دعواهم :أن المنهج السلفي منهج إقصائي حاد وعنيف يلغي الآخر المسلم ولا يعترف به، مما يترتب عليه تقسيم البلاد وتفتيت الجماعة، وتهديد الوحدة الوطنية والعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي وهو يؤدي في النهاية إلى الاحتراب الداخلي، وهم يدعون لأجل ذلك إلى إقصاء المنهج السلفي، وإلى التمييع في متابعة الكتاب والسنة والسلف الصالح بزعم التمكين للتعددية الثقافية والمذهبية، وهذا بلا شك غير صحيح بل أصحاب المنهج السلفي هم أهل اتِّباع السنة وأهل الجماعة والاجتماع، فهم حريصون على الجماعة يذمون التفرق ويصبرون من المخالف على الأذى.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم علي الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، وقد طبق ذلك رحمه الله عمليا وموقفه العملي في ذلك مع المعتزلة الذين عذبوه وسجنوه معروف مشهور”، وهذا مالك بن أنس رحمه الله تعالى لما اسشاره هارون الرشيد في حمل الناس على موطئه قال له: “لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال”.
ومواقف أصحاب المنهج السلفي في ذلك كثيرة مشهورة فكيف يقال عنهم إنهم إقصائيون؟ وقد سُمي السلف الصالح بأهل السنة والجماعة من حرصهم على الالتزام بالسنة ومجانبة الابتداع، وعلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وبهذا يظهر أن هذه مواقف أصيلة في المنهج السلفي وليست تنازلات مؤقتة فرضتها ظروف قاهرة، والشيء الغريب في ذلك أن الذين يرمون الاتجاه السلفي بهذه الفرية هم من يعلنون ويطالبون بإقصاء السلفيين، بل الأغرب من ذلك أن من قبل من هؤلاء بالحل الديمقراطي وأن يكون قرار الشعب هو الفاصل، تجده يقول: ولكن كيف نفعل ذلك من غير أن يصل أصحاب المنهج السلفي إلى الحكم؟ فحتى النظام الانتخابي الذي ارتضوه يسعون إلى صياغته ليكون قائما على الإقصاء.
ومن ذلك حديثهم أن أصحاب المنهج السلفي لا يستطيعون العيش بدون معارك داخلية مع العلمانيين والروافض وغيرهم، والشيء الغريب أن أصحاب هذه الأقوال هم من يقومون بمعارك داخلية عنيفة وإقصائية مع من يختلفون معهم، لكنهم لا يقبلون أن يرد عليهم أحد، فهم ينكرون على غيرهم ما هم غائصون فيه إلى الأذقان، ولكن بفارق مهم هو أنهم لا مرجعية لهم في إنكارهم على السلفيين، فمن المعلوم من دين الإسلام وعند كل المسلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما أمرت به الشريعة وجاءت به الرسالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات ثلاثة باليد واللسان والقلب.
ولا شك أن كل من كان لديه علم صحيح فعليه أن يقوم بالبيان في هذا الأمر، فهل المطلوب من السلفيين أن يكفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغلقوا أفواههم على ألسنتهم حتى يقال عنهم إنهم منفتحون؟
إن هذا الاعتراض في حقيقته هو اعتراض على شريعة الإسلام نفسه وليس على السلفيين فحسب، إن الأمر والنهي أمر قد مارسه المسلمون في كل عصورهم، وكان ضمانة مهمة من ضمانات أمن المجتمعات الإسلامية، وإن الدعوة اليوم إلى إهماله أو تهميشه بحجة السماح بالتعددية الثقافية ونحو ذلك هي دعوة إلى إفساد المجتمعات وتخريبها، وتلك مهمة كثير من التيارات المناوئة للمنهج السلفي الحق.