توالت الفتن وامتد شعاعها، وداع صيتها وأظلمت أجوائها، ولا تكفي الكلمات في توصيفها، هذه الفتن التي قيل أنها إذا جاءت عرفها العالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل، لكن لم تعد تنطبق هذه القاعدة اليوم في نظري لشدة سواد ليل الفتن واحلولاكه، بل لم تزدد مع بعض العلماء.. إلا فتونا وغموضا وضاعت خيوط الحل والنجاة، مع توالي الآراء وتنافر المواقف وتناقضها بين حدث وآخر، فما المخرج إذن ونحن أمام ركام من التحليلات والتحليلات المضادة، والتسريبات والتسريبات المضادة، وتصفيات الحسابات ونبش الأحقاد، وما أن ينقشع شعاع نور الخلاص من هنا حتى تعلوه سدول ليل المحن والتيه من هناك، الكل يبحث ضمن هذا الركام عن الملاذ والمخرج الذي صعب الوقوف عليه أمام خيارات كثيرة كلها تدعى المخرج من الفتنة.
إما أن تترجل وتخرج من عالم الأخبار والمواقع والقنوات..، وتصبح خارج التغطية لا تدري ما يدور حولك، سيهنأ بالك لكن سيصلك لهيب الأحداث يوما ما بلا شك، وإما أن تبقى متابعا بدون توقف لما تلفظه أسلاك وأقمار الاعلام الذي جمع الحابل والنابل والغث والسمين، فيتأزم قلبك حيث تتوارى الحقيقة مع سدنة الكذب والفجور، وتدلسها خطط المصلحيين والصائدين في الماء العكر من ساسة وإعلاميين ورجال أعمال، وبعض المحسوبين على العلم للأسف، وغير هؤلاء من شرائح شتى ضاع بين مصالحها الشخصية المواطن العادي الذي يتوق إلى السلامة والكرامة والأمن الروحي والجسدي، حيث نخشى أن يأتي اليوم الذي تمنع فيه المساجد ومناسك الحج والسمت الإسلامي وكل مظاهر التدين لرب العالمين.
مع كل هذا الزخم من الأحداث المتوالية والتي لا تخطر على بال، وأقول دائما أن القادم من أمر الله لا يخطر على بال أيضا، ليس لنا إلى الفرار إلى الله راجين منه أن يكشف الغمة ويرفع عنا المقت والبلاء، وأن يزيح عن الحقيقة سحب التدليس والتلبيس.
إننا في لحظة ينبغي أن نبرأ من حولنا وقوتنا وقدرتنا على التحليل والاستنتاج والاستشراف، ونلجأ إلى الله وإلى حول الله وقوته، ولا شك أن ما يجري على الأرض هو من قدر الله الذي يهيئنا به لأمر عظيم جلل، وأن الألم وإن اعتصر أفئدتنا فلا ينبغي أن يفطر الأكباد إلا على من خرج من هذه الدنيا بلا دين، أو يحمل فيه رقبته دماء مغدورة، وظلم نفوس بريئة، وقد خاب من حمل ظلما.
لا شك أننا اليوم في أمس الحاجة للوحي أن يصف لنا الحالة ويعطينا الحل الأنجع لما يجري لمن أراد السلامة والنجاة في دينه ودنياه، لكن ومن شدة الفتنة ووقها نجد أن شرع ربنا تنازعته الأفهام، وحتى الأهواء، وتناثرت النصوص بين فرق شتى لا يربطها ناظم، حتى القتلة راحوا يستغيثون بنصوص الوحي يلوون أعناقها لعلهم يقنعون أنفسهم ومن وراءهم بصواب ما يفعلون، فما العمل إذن، هل الصمت حكمة اليوم؟ وهل هو من ذهب؟ أم أن الكلام ببصيرة نافذة ـ ومن يمتلكها وهي الفتن التي تجعل اللبيب حيران ـ هو المطلوب، كيف يسلم من تكلم بما أداه إليه اجتهاده وكيف ينجو من سكت لعدم وضوح الرؤية لديه، إنها طامة نزلت بالأمة الله أعلم بما يأتي بعدها،حيث لا تدري ما تفعل، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم” … وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِهِ جُعِلَ عَافيتُها في أَوَّلِها، وسَيُصِيبُ آخِرَهَا بلاءٌ وأُمُورٌ تُنكِرُونَهَا، وتجيءُ فِتَنٌ يُرقِّقُ بَعضُها بَعْضاً، وتجيء الفِتْنَةُ فَيقُولُ المؤمِنُ: هذِهِ مُهْلِكَتي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وتجيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذِهِ هذِهِ…” نعم إنها فتن بعضها يبرد بعض واللاحق منها ينسيك السابق فما القادم إذن،؟ اللهم لطفك يا رب.
حارت العقول وتاهت الفهوم وطاشت القلوب، ولم نرى بعد إلا القليل مما هو آت، لكن أفضل للمسلم الذي يرغب في السلامة أن يسكت وإن تكلم أن يتكلم بخير، وأن لا يتعجل ويتسرع، فعند الله تجتمع الخصوم ولعل لنا في حديث رسول الله عزاء وتوجيه فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِرضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: ” إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ : الْزَمْ بَيْتَكَ وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ”.
فترقبوا من أمر الله ما لا يخطر على بال، مما يغير مجرى الأحداث التي ظن ساسة اليوم أنهم يتحكمون في مجراها ويرسون قواعدها ويوجهونها كيف شاؤوا، فإن الله هو رب الكون ومدبره وقضى ما قضى أن لا يكون إلا ما قضى، فاللهم جعل في قضائك اللطف يا لطيف.