ردّة عن العربية، فهل من أبي بكر لها؟
د. محمد بولوز
هوية بريس – الإثنين 06 أبريل 2015
تشتد محنة اللغة العربية الفصحى في بلادنا يوما بعد آخر، ويتراجع أمرها بين قومنا من ستين سنة بعد “الاستقلال”، يعطى لها معسول الكلام في الشعارات والدستور، ويأبى بعض العاقين إلا تتبع أثرها بالمحو والتهميش والإقصاء في المؤسسات والمرافق العامة والمناهج التعليمية والتربوية، وقد عقدت عشرات الندوات والمؤتمرات والملتقيات، وصدر كم كبير من التوصيات والبلاغات والبيانات في شأن اعتماد العربية لغة رسمية حقا وصدقا، والمطالبة باتخاذها لغة للتدريس في مختلف المراحل والمستويات بما فيها التعليم العالي والجامعي، ولم ير الناس شيئا من ذلك.
وكلما جاءت خطوة من بعض الغيورين، كلما أعقبتها خطوات نكوصية من العاقين، فقد أقدم الدكتور عز الدين العراقي رحمه الله على تعريب المواد العلمية في التعليم التأهيلي وكانت خطوة تاريخية تحسب له بإذن الله في ميزان حسناته وفي ميزان حسنات كل من ساهم فيها من قريب أو بعيد، ثم تحرك اللوبي العاق للوقوف أمام إكمال الخطوة بتعريب لغة تدريس العلوم التجريبية والتقنية والاقتصادية وغيرها في التعليم العالي والجامعي، وكان إيذانا بإفشال الخطوة الأولى، لأن منطق الأشياء يفرض الاستمرار في الإصلاح اللغوي إلى منتهاه، فمن تلقى تعليمه في المواد العلمية أو العلومية بتعبير بعض المختصين من حقه أن يتابع تعليمه بنفس اللغة العربية مع لغة أخرى أكثر نفعا وانفتاحا، ليستفيد ما عند الآخرين ويزيد عليه، وحتى يكون تكافؤ الفرص واحدا أمام أبناء الوطن جميعا، وإلا فبقاء التعليم الجامعي في المواد العلومية باللغة الفرنسية يعطي تميزا وتفوقا لمن درس تلك العلوم بنفس هذه اللغة في المستويات الدنيا،
وأي عاقل ولو كان من عشاق ومحبي العربية لن يختار لأولاده ومن يحب لهم الخير إلا أن تكون لهم نفس اللغة في مختلف المستويات، ولا يليق تسمية ذلك نفاقا أو ازدواجية كما يحلو لبعض العاقين نعته وتسميته، حيث يدفع الناس دفعا إلى خيارات هي في عمقها إكراهات، فها هم يدللون على تبرير إعادة فرنسة المواد العلومية في التعليم الثانوي التأهيلي بالإقبال الكبير على الباكالوريا المسماة زورا وبهتانا “دولية”، وإنما هو فخ مكشوف بطعم مفضوح، يختار نخبة التلاميذ باعتماد أعلى المعدلات ويختار أحسن الأساتذة للتدريس في تلك الفصول، فمن الذي سيضيع هذه “الفرصة” حيث النخبة والتنافسية والظروف الملائمة والتأهيل للانسجام مع لغة التدريس في الجامعة، وبعدها حسن الاندماج في الحياة العملية وسوق الشغل حيث طغيان اللوبي الفرنكفوني، وكل ذلك بالمجان بعد أن أدى الأب وولي الأمر مصاريف باهضة في التعليم الخصوصي الأساسي والثانوي الإعدادي.
فهذه الدارجة تتقدم لتنتقل من خطاب الشارع والأسرة والسوق الشعبي والعلاقات دون الرسمية، إلى الخطاب والكلام على المستوى الرسمي بدءا من رئيس الحكومة وعدد من الوزراء والندوات واللقاءات والحوارات والبرامج الإعلامية والثقافية والترفيهية والمسلسلات المدبلجة واللوحات الإشهارية وأحيانا بالحرف اللاتيني وبخلط متعمد مثل إشهار لمؤسسة يقول(lprix srhiir…chat ktiiir) وأمثال هذا الهراء وهذه الإهانة للغتنا الوطنية كثير.
وهذه الأمازيغية حققت طفرة مهمة في الدستور والإعلام والتعليم والبحث العلمي والأكاديمي وغير ذلك رغم سجنها في حرف “تيفيناغ” الغريب وما يسمى باللغة المعيارية وإلا كان اكتساحها سيكون أوسع وأشد.
وأما الفرنسية فهي عندنا “صاحبة” الدار رغم أنها ليست لنا بأم ولا جدة، ولا تفيدنا كثيرا في الانفتاح إذا قورنت بما هو أقوى منها كالإنجليزية، جثمت على صدورنا وبقيت تركة ثقيلة من عهد الحماية ومصيبة من مصائب الاستعمار وليس غنيمة كما زعم البعض، حرر المقاومون الأرض وتركوا لنا مهمة تحرير العقول واللسان، فما وفينا العهد وخنا الأمانة، فاتخذ بعضنا الفرنسية خليلة في سفاح “حضاري” وبقيت اللغة المفضلة لكثير من أصحاب القرار المالي و”السيادي” وهي في تمكن مستمر منذ هجومها علينا و إلى الآن.
والعربية الفصحى تبدو غريبة مهيضة الجناح تطارد باستمرار من مختلف الدروب والمجالات، ولولا تعلقها بأهداب الدين لتم الإجهاز عليها والتخلص منها من زمان، إنها تعاني اليتم والإهمال وكأنها كما يقال: “مصحف في بيت زنديق”.
والسؤال الذي يجب أن يكون صريحا اليوم في ظل منطق الحكامة الجيدة ومنهجية الإنصاف والمصالحة وربط المسؤولية بالمحاسبة، من المسؤول عن عرقلة التعريب وتقدم العربية ببلادنا؟ من الذي يعطل ترسيم العربية في كافة مناحي الحياة كما نصت مختلف الدساتير من فجر “الاستقلال” إلى اليوم؟ من الذي يعطل ما جاء في ميثاق التربية والتكوين حيث نص في مرتكزاته أن من مقاصده تخريج مواطنين وصفوا بأنهم “متمكنون من التواصل باللغة العربية، لغة البلاد الرسمية، تعبيرا وكتابة، متفتحون على اللغات الأكثر انتشارا في العالم” وأنه منذ الابتدائي نريد “تنمية مهارات الفهم والتعبير باللغة العربية الضرورية لتعلم مختلف المواد “، وأنه “توضع رهن إشارة الجاليات المغربية في الخارج الراغبة في ذلك، الأطر والمرجعيات التعليمية اللازمة لتمكين أبنائها من تعلم اللغة العربية والقيم الدينية والخلقية والوطنية، وتاريخ المغرب وجغرافيته وحضارته”.
وخصص الميثاق الدعامة التاسعة لتحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها، فأين التحسين وأين الاستعمال؟ وأين جعلها إلزامية لكل الأطفال المغاربة، في كل المؤسسات التربوية العاملة بالمغرب كما تنص عبارة الميثاق؟ وأين فتح “شعب للبحث العلمي المتطور والتعليم العالي باللغة العربية”، وما قيل بأنه “يتم تدريجيا، خلال العشرية الوطنية للتربية والتكوين، فتح شعب اختيارية للتعليم العلمي والتقني والبيداغوجي على مستوى الجامعات باللغة العربية”؟ والعشرية قد مضت وجاءت بعدها عشرية وها نحن في الانتظار؟ وأين تنمية النسق اللساني العربي و”تشجيع حركة رفيعة المستوى للإنتاج والترجمة بهدف استيعاب مكتسبات التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي بلغة عربية واضحة” وأين “أكاديمية اللغة العربية” التي حدد موسم بدايتها في مادة 113 من الميثاق بـ”السنة الأكاديمية 2000-2001″؟
فمن يكذب على الشعب، ومن يسرق إرادته ويهربها، ويسوف باستمرار ويؤجل إلى أجل غير مسمى حريته في أن يدرس أبناءه بلغته هو، والتي يرتضيها وليس بلغة غيره، فالأصل في اللغة الرسمية أنها كالأم، فهي هبة ربانية وعطاء من رب حكيم، ولا أحد يختار أمه، ولا أحد ممن لم تمسخ فطرته يكره أمه أو يرغب في استبدالها، والحال أن أمنا العربية راقية ومستوعبة ومتطورة وجميلة.
إن حرقة السؤال تتوجه للجميع من شركاء هذا الوطن، سؤال همه تصحيح الوضع وتدارك الأخطاء وليس التنقيص والإدانة، سؤال موجه لكل من يملك شيئا من المسؤولية ولا يفعل حتى يفعل، وإنها مسؤولية تعظم بعظم الموقع والوسع والطاقة والاستطاعة، وكذلك يكون حساب الوطن والتاريخ والوقوف بين يدي من لا تخفى عنده خافية، ولا يعقل أن نتوجه بالسؤال فيمن يعرقل العربية إلى فرنسا، فمن الطبيعي أن تحرص على مصالحها اللغوية والثقافية والاقتصادية داخل بلادها وخارجها، وكلما وجدت غنائم باردة من مغفلين فلا يعقل دعوتها إلى الزهد فيها؟
وإنما السؤال موجه من محب غيور، إلى الذات و”أنا” الوطنية والحضارية، لمن لا يزال في قلبه ذرة من الانتماء لوطننا وحضارتنا، ومن الطبيعي أن نتوجه بالسؤال أولا إلى الملكية التنفيذية ولو كانت برلمانية أو رمزية لما كان للسؤال من معنى، الملكية التنفيذية باعتبارها الرابح الأول من كل النجاحات في هذا الوطن ولا نريدها إلا أن تكون ناجحة ونحن معها على الدوام، ويؤسفنا أن نقول وبكل الاحترام الواجب كما يفرضه الشرع وينص عليه الدستور، أن الملكية التنفيذية هي المسؤول الأول عن الإخفاقات ما لم تتحرك بما أتاها الله من نفوذ وسلطان، ومن بين ذلك إخفاق تعريب التعليم في مختلف مستوياته وتعريب الحياة العامة، فلا يخفى دور الملكية في النظام المغربي، إذا توجهت إرادتها الحقيقية إلى أمر، نرى ونلمس ونلاحظ على الأغلب الأعم توفيقا وتعبئة ونجاحا، وإذا تأخرت عن أمر نرى تلكؤا وتباطؤا وعرقلة وفشلا،
ولعل قدوة الأجيال المعاصرة بخصوص الملكية تتجلى في محمد الخامس رحمه الله، كانت فرنسا تجثم على صدر المغرب كله أرضا وقرارا ولغة وسياسة واقتصادا وغيره، وكان الوضع الأريح للملك أن يجاري رغبة فرنسا ولوبياتها من القواد والبشوات والمنتفعين في البقاء على الدوام في الوطن وأن يعيش هو في قصره متمتعا بما لذ وطاب ومبتعدا عن كل ما يصدع الرؤوس ويزلزل النفوس، فيعيش بذلك صغيرا ويموت صغيرا، لكنه رحمه الله اختار أن يعيش كبيرا ويموت كبيرا، فانحاز إلى الغالبية العظمى من الشعب ومصلحة الوطن ومستقبل المغاربة ولو على حساب راحته واستقراره، فأحبه الناس وكانت ملحمة ثورة الملك والشعب، فانزاحت فرنسا بكلكلها العسكري وبقيت آثارها الاقتصادية والثقافية واللغوية وغيرها ليتم ويكمل المتعاقبون على الملكية وبتناغم مع الأغلبية الأصيلة في الشعب المغربي معركة الاستقلال والتحرير المستمر حتى يندحر آخر جندي خفي أو عميل متستر، ويعود علم الإسلام والعربية والعدالة الاجتماعية والطمأنينة والسكينة مرفرفا على ربوع الوطن.
ولا شك أن سؤال فشل التعريب أو الرغبة في إفشاله يوجه بعد الملكية إلى الحكومات المتعاقبة ويوجه إلى الحكومة الحالية بفعل الصلاحيات الواسعة التي منحها الدستور الجديد، فهي لا تحتاج إلى قرارات أو إشارات جديدة إنما تقوم فقط بتفعيل ما هو موجود في الدساتير من ستين سنة ولا يرى النور، وبإخراج ما تعطل من بنود الميثاق الذي حدث حوله توافق وطني كبير، وكما سجل الدكتور عز الدين العراقي رحمه الله اسمه في سجل الفخر التاريخي بتعريب المواد العلومية في التعليم الثانوي.
لماذا لا يفعل الدكتور لحسن الداودي وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر الخطوة ذاتها في التعليم العلي والجامعة المغربية، فحل الأزمة والخروج من عنق الزجاجة بخصوص لغة التدريس يقع في معظمه على عاتق هذه الوزارة، تمهيدا وتشجيعا ومبادرة وتفعيلا، وأما التعلل بالدفع بالأنجليزية إلى الأمام في التعليم العالي كلغة أوسع انتشارا في التفتح العلمي، فلن ينفع العربية شيئا وإن كانت الخطوة في حد ذاتها إيجابية على الأقل في زحزحة الفرنسية قليلا عن صدورنا ومستقبل أبنائنا، كما أن التعلل بعدم وجود مانع لا من الدستور ولا من القانون للتدريس بالعربية والبحث فيها في التعليم العالي وأن للأساتذة ووحدات البحث والمختبرات أن يبادروا ويشرعوا في التعريب فأمر غير واقعي من جهة ما ألفه الأساتذة والباحثون مما تعلموه ودرجوا عليه لسنوات وصعوبة تغيير المألوف لما يحتاجه الأمر من جهود وخصوصا في البدايات، إذ لا بد من مبادرة رسمية تهم التقنين والقرار والتشجيع والتكوين والمتابعة، ولا يعرف الناس لغة الخشب من حكاية استقلال الجامعة ونحو ذلك من العبارات فأين استقلال الشعب أولا وأين طموحاته ورغباته الكبرى قبل أن نتحدث عن استقلال هذه المؤسسة أو تلك؟ والناس في الانتخابات لا يعرفون رؤساء الجامعات وإنما يعرفون الحكومة والوزراء.
فالمسؤولية التاريخية والوطنية قائمة، وما يغني الناس أن نعتني فقط بمعاشهم وغازهم ووقودهم وتقاعدهم.. إذا غفلنا قيمهم وهويتهم ولغتهم.. فلسنا كائنات معلوفة يهمها السمن والمرعى والكلأ، وإنما نحن آدميون قال فينا ربنا “ولقد كرمنا بني آدم“، ومما أكرمنا به القرآن والبيان والعربية عندنا تاج اللسان والبيان.
وإنها أيضا مسؤولية البرلمان معارضة وأغلبية، فأين حزب الاستقلال، والذي من المفروض أن يتابع الإلحاح على إتمام ما بدأه مشكورا في التعريب، وأن يجعل القضية مركزية في انشغاله واهتمامه وسيحصد بسبب ذلك تعاطف الكثيرين عوض تضييع الأوقات في المعارك الهامشية والتنابز بالألقاب.
وأين حزب العدالة والتنمية في هذه المعركة، لماذا بقي صوته باهتا منخفضا، فأغلب الأصوات التي حصلنا عليها تنتمي في الغالب الأعم إلى الفئات المتوسطة والانشغال بالمعاش اليومي ليس هما مؤرقا لهذه الفئة فهي مستورة على كل حال، وإنما محركها بالأساس المبادئ والأصول والثوابت والديموقراطية ومقاومة الفساد والاستبداد، والعربية والتعريب تقع في صلب عنايتها، فماذا تربح هذه الفئة إذا هي ضاعت منها الهوية والأصالة واللغة العربية، بعد أن مست جيوبها بعض الإجراءات المتخذة في الإصلاح؟
وإذا تعللت الحكومة بالتدرج والإكراهات والعفاريت والتماسيح، وعجزت عن نفع العربية بشيء، فلا أقل من الصمود وبقاء العربية كما كانت قبل تسلم قيادة التسيير الحكومي. ويكون شعار المخلصين جميعا في هذا الوطن وصراخهم في وجه الردة اللغوية الحالية: “أتنقص العربية وأنا حي؟” كما صرخ أبو بكر رضي الله عنه من قبل “أينقص الدين وأنا حي؟”.
فعن عمر رضي الله عنه أنه ذُكرَ عندَهُ أبو بَكرٍ يوما فبَكى، وقالَ: وددتُ أنَّ عمَلي كلَّهُ مثلُ عملِهِ يومًا واحدًا من أيَّامِهِ وليلةً واحدةً مِن لياليهِ أم ليلتُهُ فليلةٌ سارَ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ إلى الغار فلمَّا انتهَيا إليْهِ قالَ: واللَّهِ لا تدخلُهُ حتَّى أدخلَ قبلَكَ فإن كانَ فيهِ شيءٌ أصابَني دونَكَ، فدخلَ فَكسحَهُ ووجدَ في جانبِهِ ثقبًا فشقَّ إزاره وسدَّها بِهِ وبقي منْها اثنان فألقَمهُما رجليْهِ، ثمَّ قالَ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ادخُل فدخلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ووضعَ رأسه في حِجرِهِ ونامَ، فلُدِغَ أبو بَكرٍ في رجلِهِ منَ الجحر ولم يتحرَّك مخافةَ أن ينتبِهَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، فسقَطت دموعُهُ على وجْه رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ: مالك يا أبا بَكرٍ؟ قالَ: لُدِغتُ فداكَ أبي وأمِّي، فتفلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، فذَهبَ ما يجدُهُ، ثمَّ انتقضَ عليْهِ، وَكانَ سببَ موتِهِ؛ وأمَّا يومُهُ فلمَّا قُبضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ارتدَّتِ العربُ وقالوا: لا نؤدِّي زَكاةً. فقالَ: لو مَنعوني عقالًا لجاهدتُهم عليْهِ. فقلتُ: يا خَليفةُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ تألَّفِ النَّاسَ وارفُق بِهم. فقالَ لي: أجبَّارٌ في الجاهليَّةِ وخوَّارٌ في الإسلام؟ إنَّهُ قدِ انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدِّينُ أينقصُ وأنا حيٌّ؟ (أورده ابن حجر العسقلاني في تخريج مشكاة المصابيح الصفحة 5/397 وقال: وصله البيهقي).
فهذه الصيحة البكرية المزلزلة “أينقص الدين وأنا حي” أريدها أن تكون صيحة كل غيور في هذا الوطن على لغة الضاد، ليس غيرة قتال كما فعل الصديق ولكن غيرة فاعلة بما يناسب زماننا ووسائل زماننا، وهكذا أرى أن يتحمل كل واحد مسؤوليته التاريخية اتجاه هذه اللغة العربية العظيمة، ملكا وحكومة وبرلمانا ومؤسسات دستورية وأحزابا ومنظمات وهيئات مجتمع مدني وحركات إسلامية ودعوية وتربوية ومجالس علمية وخطباء ووعاظ وأسرا وشعبا، مسؤولية تتجاوز مجرد الكلام والشعار إلى القرار الشجاع والتنزيل المتبصر والإلحاح في المطالبة والسؤال ولو لأقرب الأقربين والمسيرات والوقفات وجمع التوقيعات وأخذ المبادرات في تعريب المحيط وترسيخ لغة القرآن في الوثيقة والإدارة والتواصل والتنشئة الاجتماعية والثقافة والإعلام والفن وتدريس المواد العلومية في التعليم العالي بها والبحث بها ومناقشة البحوث بها حتى قبل قرار الوزير ما دام لا شيء يمنع من ذلك كما فعل بنيخلف رحمه الله في معهد الإحصاء.
إنها معركة استقلال مستمرة حتى التحرير الشامل والكامل للإنسان المغربي، معركة ستفرز حتما وطنيين وخونة، وإنها قضية حضارية وتاريخية ومجتمعية ومستقبلية سيكتب لكل من أسدى معروفا فيها خيره وأجره وثوابه ولكل من عرقل ومكر وأقصى وثبط وأهمل نصيبه من العار والوزر التاريخي والحضاري، من بعد ما حملها إلينا الأجداد عربا وأمازيغ غضة طرية قوية ومعبرة.
إن العربية لا تستجدي أحدا فهي شرف وتاج على الرؤوس، وهي سفينة ماضية ركبها من ركبها وتخلف عنها من تخلف، فهي لغة الدين والقرآن ولغة حضارتنا السامقة المستوعبة لكل ما قبلها من التراث الإنساني اليوناني والفارسي والهندي وغيره، وهي سادس لغة عالمية الآن في الأمم المتحدة، وهي ماضية في تألقها وتقدمها في الدنيا، وهي ليست لغة العرب وحدهم وإنما هي اللغة المحببة لكل من آمن بهذا الدين وهم فوق المليار، شرفت بشرف الدين وعزت بعزته، وكما سيدخل هذا الدين كل بيت من حجر أو وبر فستدخل معه العربية ولو في صيغة الله أكبر والسلام والفاتحة ويأتي بعد ذلك ما بعدها، إذ لا يتصور فقه حقيقي في الدين من غير عربية والمبتدئ فيها مبتدئ في فهم الدين، ولا يضر المعرض عنها إلا نفسه تابعا لغيره في تقليد معيب، أو غارقا في محلية ضيقة لا يرى فيها أبعد من أنفه. والله ناصر مناصر العربية وهازم بإذن الله كاره لغة محمد وصحبه وكتابه.