مُهمَّةُ المِنبرِ بَينَ التشريفِ والتكلِيف!
محمد القاسمي الريبوز
هوية بريس – الجمعة 10 أبريل 2015
الخطابة مهنة الأنبياء والمرسلين، والعظماء من أتباعهم والصالحين، وارتقاء المنبر مسؤولية لا وصف لها، وخاصة في وقتنا الحاضر، إذ تُعد من المسؤوليات الجسيمة والخطيرة، خاصة وأنها تؤدي مقاصد وغايات لا حصر لها، من أهمها: تبصرة الناس بالطريق المستقيم، وتنقية أذهانهم مما علقها من بدع ومنكرات جمة، وتنقية الشريعة الإسلامية من الزيف والأوهام والتحريف، ومقارعة أمواج التغريب والتدليس، والكشف عن مخططات أعداء الإسلام داخل البلاد وخارجها، ومعالجة واقع الناس ومستجدات حياتهم، وهداية الناس إلى رب الناس؛
وهذا يتطلب من صاحب هذه المهمة أن يتصف بمواصفات، وقدرات، ومهارات لا يستهان بها، سواء تعلق الأمر بالمواصفات الخِلقية أو الخلقية، أو المواصفات العلمية المكتسبة، فالخطيب طبيب بيئته، والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومن أهم هذه المواصفات:
1- الإخلاص في القول والعمل: كل عمل لا يتوخى منه وجه الله عز وجل، وطلب مرضاته فهو مردود على صاحبه، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ قوله تعالى: “فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا” (الكهف:110)، وقوله تعالى: “ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن” (النساء:125)، وقوله تعالى: “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين” (البينة:5)، والدعوة إلى الله على بصيرة من أفضل العبادات، وأسمى القربات.
2- تحديد الهدف: فالداعية المجد هو من يحدد هدفه في هذه الحياة، فإن مقدار نجاحه في حياته الدعوية -على كل المستويات- يتحدد بالأهداف التي قام بتحقيقها، ووضوح السبيل الذي سلكه، وكلما كانت هذه الأهداف سامية كان أكثر نجاحًا، وكلما كان السبيل واضحاً كان أكثر صلاحاً وإصلاحاً.
وعلى الداعي إلى الله تعالى أن يجعل لكل وقت من حياته هدف-ا، ولكل عمل غاية، وأن يضبط حياته كلها على هذا الأساس.
3- القدوة: الدعوة بالقدوة أبلغ وأجدى من الدعوة بالكلمة المجردة، ومن لا يستطيع أن يصلح نفسه لا يمكنه أن يصلح غيره، والمريض إذا وجد دواء فهو به أولى من غيره.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف الآيات:1-2).
4- الثقافة الشاملة: واجب على الخطيب أن يمتلك قدرا كافيا من الثقافة الدينية، من علوم اللغة، والفقه وأصوله، وعلوم القرآن الكريم، بالإضافة إلى استيعابه لمقاصد الشريعة الإسلامية، وفقه واقعه، وفقه الموازنة، لأن الخطيب طبيب بيئته، ومعالج لأسقامها، والحكيم من يضع الأمور حيث يجب أن تكون، ولا ننسى استيعاب النصوص الشرعية استيعابا دقيقا، حتى يتمكن من استحضار الأدلة المناسبة في أوقاتها المناسب، من غير تحريف ولا تصحيف، لأن النصوص الشرعية وخاصة القرآن الكريم لا تروى بالمعانى، لأن ألفاظها توقيفية، فيجب احترامها، وحفظها يكون عن طريق التلقي والمشافهة المباشرة.
5- الأمانة العلمية: الأمانة العلمية عهدة بين المعلم والمتعلم، فيجب على القائم بمهام الخطابة والدعوة إلى الله أن يتحرى الدقة والمسؤولية العلمية، وهذا من أخلاق العالم والمتعلم على حد سواء، سواء كان علمًا شرعيًّا أو علما حياتيًّا، فقد كان علماء المسلمين حريصين أشد الحرص على تحري الدقة، والأمانة العلمية فيما ينقلونه عن غيرهم، حتى ولو كان النقل عن مجهول، وكان ذلك واضحًا في كل كتبهم ومصنفاتهم.
6- الاستعانةُ بالله: فالإنسان ضعيف بطبعه، حيث إذا وُكِل إلي نفسه ضاع، وإذا وَكل أمره إلي الله تعالي واستعان به على طلب العلم فإن الله تعالي يعينه، وقد حث الله عز وجل على ذلك في كتابة الكريم، فقال تعالى: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” (الطلاق:3).
7- الإحساس بالمسؤولية: إن الخطابة مسؤولية عُظمى، وأمانة جليلة، فإن هؤلاء الناس الذين أخرجهم الله من بيوتهم، وجاء بهم إلى بيته، ليستمعون إليك في خطبتك فهم أمانة في عنقك، وهذه العبادة وهي الخطابة والصلاة حتى قبل أن ترقى المنبر، في محافظتك على أوقاتها، وصفة أدائها، كل ذلك ستحاسب عليه بين يدي الله عز وجل.
8- التدريب: فقد أصبح فن الخطابة اليوم يدرس في أرقى الجامعات والمعاهد العالمية لأهميته، كما أن العلوم الشرعية قد أصبحت تخصصات متنوعة، فهناك معاهد مخصصة لإعداد الدعاة والقادة والخطباء، وكليات للدعوة والإرشاد، مع مجموعة من الدورات والورشات التكوينية المستمرة، تستهدف بالأساس الفئة العاملة في الحقل الديني، بهدف الرقي بكفاءاتهم المهنية المختلفة.
9- جودة النطق وفصاحة اللسان: عُرِفتِ الخطابة بأنها: القابلية على صياغة الكلام بأسلوب يمَكن الخطيب من التأثير على نفس المخاطب، والاهتمام بالأداء والإلقاء المحكم، وصياغة الكلام بأسلوب جامع لقواعد اللغة، من نحو وبلاغة، وامتلاك أصول المعالجة، المنطقية والعلمية.
10- عدم الغرور والإعجاب بالنفس: الإعجاب بالنفس آفة نفسية، وحالة مرضية، تجعل صاحبها يطل على غيره من برجه العالي، فيكون ذلك حاجزا يفصل بين الخطيب وجماهيره، كما أنه يمحق الأعمال وإن كانت كالجبال.
11- مراعاة الفوارق: إن الناس طوائف وجماعات شتى، وثقافات متباينة وانتماءات متكاثرة، وعقليات متفاوتة، وعادات وتقاليد عديدة، ومن ظن من الدعاة والخطباء أنه يستطيع أن يهمل كل هذه الاعتبارات، ويختزل طريقة الدعوة إلى الناس أجمعين في طريقة يظنها جديرة بذلك، مهملاً عقول الناس وطاقاتهم واستيعابهم وفهمهم فهو مخطئ، فالداعي إلى الله حكيم حليم عاقل، هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها.
12- التجديد والإبداع: الإبداع والابتكار هو الذي يميز الخطيب المبدع عن غيره، ويمثل الابتكار والإبداع في العمل الدعوي ذلك النجاح والتفوق، نظرا لأنه الأساس في تحقيق رغبات الفئة المستهدفة، وتطلعاتهم للجديد والمفيد، سيما وأن هذه الحاجات والمتطلبات متغيرة بتغيير الزمان والمكان، والتجديد كما يكون في الخطاب، يكون في الوسائل أيضا.
13- تجنب الخلاف: إن من أعظم أبواب الفتن التي نعيشها اليوم هي: تتبع الخلافات الفقهية والاستدلال بشواذ الآراء وما لا يعتبر من الأقوال، حتى عطلت الأحكام باسم الخلاف، وانتهكت الحرمات باسم الخلاف، وانكسرت عزائم المتعبدين، فكسلوا عن الطاعات، وانشغلوا بفضول المباحات، واجترأوا على المكروهات، وهي باب المحرمات، فالداعي المثالي هو الذي يجمع ولا يفرق، يبني ولا يهدم، يجمع الأمة على كلمة سواء، قال تعالى: “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم” (آل عمران:105).
14- قوة البديهة: سرعة البديهة من أهم نقاط قوة شخصيّة الخطيب المتميز، فسريعي البديهة دائماً ما يستطيعون الخروج من المواقف المحرجة، سواء كانت محرجة لهم أو لغيرهم، فإن سرعة البديهة التي يتبعها رد فعل سريع أنجت العديد من النّاس من بعض المواقف الخطيرة، هذا بالطبع إلى جانب قوة الحديث وجودته، وتأثير سرعة البديهة على العلاقات الاجتماعيّة، وتأثيرها على الأعمال وشتى نواحي الحياة، لذا فإن سرعة البديهة يمكن أن تطوّر حياتك إلى الأفضل دائماً.
15- التحكم في المشاعر: فالكلمة لها ما بعدها، وهي كـ”البرصة”، إما أن ترفعك عاليا، وإما تهوي بك فيما لا يحمد عقباه، فيجب أن يكون العقل هو القائد وليس العواطف الجياشة المجردة عن التعقل، التي عمرها قصير.
16- الابتسامة: الابتسامة وطلاقة الوجه تجعل الخطيب محبوبا عند الناس، قريبا إلى قلوبهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة حسنة.
17- الشجاعة: الخطابة شبيهة بالجهاد في سبيل الله، فالمجاهد يقاوم الظلم، ويحمي الأعراض، ويذود عن الأوطان، فكذلك الخطيب، يحارب الفساد، ويقاوم الظلم، ويقوم الاعوجاج، وهو ملاذ الأمة وآمالها في كل مواقفها ومشاكلها المدلهمة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، فيبتعد عن الإرضاءات والمجاملات، ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
18- التكرار: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بحديث أعاده ثلاثا إفادة للسامع، وتوضيحا للفكرة، وخاصة ختم الخطيب لخطبته بخلاصة شاملة لكل محاورها الأساسية، وبه تتم الفائدة، فعن أنس رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا” رواه البخاري.
19- معالجة المواضيع المهمة: صاحب الهمة العالية دائما يتكلم في الأمور التي ينبني عليها مصير الأمة ومستقبلها، فالخطيب المتميز هو الذي يتجاوز ثقافة عذاب القبر وأهوال القيامة إلى معالجة مشاكل الأمة وقضاياها المصيرية.
20- حسن المظهر: الخطيب محط أنظار الجميع، فيجب عليه ألا يهمل منظره الخارجي أيضا، من نظافة البدن والثياب، وحسن اختياره للزي المناسب، وخاصة المتعلق بهويته وثقافته الدينية والوطنية.
21- البعد عن التضليل والدعايات: حتى يحافظ على مصداقية كلمته وشخصيته بين الناس، فلا يستغل منصبه الديني لمآرب رخيصة تبعده عن الهدف الأسمى.
22- مخاطبة العاطفة الدينية: نجد القرآن الكريم في كثير من آياته يخاطب المسلم من خلال عاطفته الإيمانية، ومشاعره الوجدانية، حتى تتحرك فطرته، ويستجيب وجدانه لما يسمع، فنجد معانيها مصوغة بشكل محكم بديع، تصلح لأن يخاطب بها الناس على اختلاف بيئاتهم وتفاوتهم في الثقافة والعلوم، بحيث تؤدي الغرض الذي سيقت من أجله، فيتأثر كل سامع لها ويفهم منها مقصدها، على اختلاف ثقافة السامعين وعقولهم.
23- تحين الفرص: إن الخطيب الموفق هو من جعل الدعوة هما من جملة الهموم التي يحملها بين جنبيه، ومع كثرة التفكير فيه فلا بد وأن يستغل كل فرصة تمكنه من تحقيقه في واقع الناس، وإن فرص الدعوة كثيرة ولله الحمد، فلا بد من اغتنامها وعدم تفويتها، ونعني بهذه الفرص الأحوال التي تقبل فيها قلوب الناس على الخير، ويضعف فيها داعي الشر، ويتأهب الناس فيها لسماع الحق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على اغتنام مثل هذه الفرص، فإن لها من الآثار الحميدة على الفرد والمجتمع ما قد لا يكون في حسبان الداعية نفسه.
24- الموهبة: الخطابة موهبة إلهية، ومنحة ربانية، وليست مهنة يحسنها الجميع، فالشروط التي ذكرناها أنفا لابد وأن تعززها موهبة تجعلها سهلة مرنة، أما التكلف والتصنع فلا يجدي في مثله هذه المهام العظيمة، لأن الخطيب نائب عن الأنبياء والمرسلين، الذين اصطفاهم الله تعالى من بين أفضل خلقه.
ليس من السهل أن تقف أمام جمهور واسع وتدلي برأيك بشجاعة وجرأة وتنجح في سلب الألباب وخطف العيون والسيطرة عليها طوال فترة الكلام!
وفي الختام لا ننسى أن ننوه بأهمية التقنيات الحديثة في الدعوة إلى الله تعالى، وخاصة الإنترنت، إذ إن هذه الوسائل قد انتشرت انتشاراً واسعاً، فقربت المسافات، ووفرت الكثير من الجهود، وصار الداعية من خلالها يستطيع الوصول إلى شريحة كبيرة من المدعوين، وأنها تنقل الدعوة بطريقة جديدة وشيقة، وأن استخدام تلك التقنيات في الدعوة بديل عن الاستخدامات الأخرى قليلة النفع.
لكن من آفات هذه التقنيات الحديثة، أن يتحول الخطيب إلى مستهلك، وناقل لما يكتبه أو ينتجه غيره، من غثه وسمينه، فيبتعد عن الأهم، وهو الإبداع ومسايرة المستجدات، ومعالجة المشاكل المنتشرة في بيئته التي ينتمي إليها، فيتساوى مع غيره، فيحرم نفسه من المصادر المعرفية الأصلية، فيغيب دوره ويقل أجره.
لائحة المراجع:
الكتـــــــــــاب | المؤلـــــــــف |
الشامل في فقه الخطيب والخطبة | سعود بن إبراهيم الشريم |
صفات خطيب الجمعــــــة | علي مدني الخطيب |
دراسات في الدعوة والداعيــة | محمد الغزالي |
كيف تكون خطيبــــــــــــا | محمد عمارة |
فن الخَطابـــــــــــــة | علي محفوظ |
خصائص الخُطبة والخَطيب | محمد نذير مكتبي |