«الواقعية» في خطاب الإصلاح التربوي المغربي
إلياس الهاني
هوية بريس – الأحد 12 أبريل 2015
أضحى قطاع التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي يشكل حجر الأساس في المشاريع الإنمائية التي تقوم بها الدول بغرض الوصول إلى جاهزية مريحة لدخول معترك العولمة، فقد كان لبعض الدول السبق في الوعي بضرورة تركيز الرهان على هذا القطاع، مثل ماليزيا وتركيا وفنلندا وغيرها.
وما دام الكل يجمع على موقع الصدارة الذي يحتله هذا القطاع في برامج الدول التي تحترم نفسها، والتي غذت تتحكم في مصير الأمم والدول؛ ذلك أن النهوض الحضاري والتقدم وتحقيق التنمية رهين بجودة هذا القطاع ومدى فاعليته وواقعيته.
تبرز هذه التحديات التي تجعل من دراسة المنظومة التعليمية بالمغرب بين واقعها وتطلعات المستقبل هدفا استراتيجيا على عدة مستويات من أهمها مدى حضور الواقعية في خطاب الإصلاح التربوي؟
وهكذا فإن فهم ومعرفة وإدراك الواقع الزماني والمكاني بإمكاناته وتحدياته أمور منهجية ضرورية لإعادة فهم مكمن الخلل الذي أصاب قطاع التربية والتعليم.
فكثيرة هي «القرارات التي تتخذ دونما رعاية لنتائج الدراسات والتقارير والمخططات والمواثيق المتفق عليها وحتى غير المتفق عليها، بل ودون أن تحترم البرامج الانتخابية للأحزاب ذاتها والتي ساهمت، بشكل أو بآخر في الأزمة الحالية، قرارات تنسجم مع مزاج هذا الوزير/المسؤول أو ذاك وتجاري الضغوط والظروف و الإمكانيات المتوفرة والتدبير اليومي وتصريف الأعمال و”قضي بالموجود”، قرارات مركزية فوقية متسرعة، لا تستند إلى دراسات وبحوث جادة ولا إلى استشارات ومشاركة فعلية ومسؤولة وتفتقد للرؤية المستقبلية، ولا تشخص الأسباب الحقيقية للداء، فلا تصيب بالتالي العمق. إنها قرارات تثير الضجيج بل والاضطراب وحالة التخبط التي تعاني منها المنظومة، تنقصها الإرادة السياسية لإصلاح المدرسة العمومية وينقصها العمل المتأني والمدروس والمندرج ضمن إستراتيجية استشرافية شاملة، تجعلنا نشك في بعض الأحيان في مصداقية وزارة التربية ونشك حتى في ضرورة وجودها أصلا وفي مصداقية الحكومة ككل، الأمر الذي يعمق من مشاعر فقدان الثقة لدى المواطنين ولدى جميع المرتبطين منهم بشكل مباشر أو غير مباشر، بالمنظومة التربوية وخاصة بالمدرسة العمومية، وفي قدرتها على المواكبة والتطور وعلى المساهمة الفعالة في التربية والتعليم وتأهيل الكفاءات وتنمية البلاد. ومن عواقبها الوخيمة على المدى القريب أنه سيكون من الصعب، بعد الآن، إقناع الفاعلين التربويين(المدرسين والمشرفين والإداريين وأيضا أولياء الأمور والتلاميذ وجمعياتهم…)، بأي إصلاح بيداغوجي ممكن وبأي تجديد تربوي محتمل. ومن عواقبها على المدى البعيد خلق نوع من فقدان الثقة في النفس وفي قدرتنا على الإصلاح والتطور والإبداع في جميع المجالات وليس فقط في قطاع التعليم وترسيخ مشاعر الفشل و”خطاب الأزمة” القاتل»1.
فـ«كثيرة هي التجارب الإصلاحية التي شهدتها المنظومة التعليمية في بلادنا، والتي كان الانشغال فيها منكبا على اختلالات غير قليلة، يتعلق بعضها بالبنيات الأساسية، وبأهلية المؤسسات والمنشات، ويهم بعضها الآخر متطلبات تحسين جودة التعليم، والرفع من كفاءات أطر القطاع، وتطوير أساليب تدريس اللغات، والزيادة في نسب الاستجابة لإرادة تعميم التمدرس…الخ، ولكن جل تلك التجارب، حتى لا نقول جميعها، لم ينتبه إلى اللبنة الأساس في العمل التربوي»2،ألا وهي ما مدى انعكاس الواقع على المقاربات الفكرية\القيمية والبيداغوجية في خطابها التربوي الإصلاحي؟؟
فلا تكاد الصور السوداوية تفارق الوضع التعليمي بالمغرب؛ حيث رسم تقرير صدر عن معهد اليونسكو للإحصاءات سنة 2011 إلى أن المغرب يحتل مراتب متأخرة في أغلب المؤشرات مقارنة مع دول عربية و إفريقية عديدة وكشف عن أرقام صادمة حول الواقع التعليمي بالمغرب ما أفرز لنا عدة تحديات خطيرة كشفها لنا تقرير التنمية البشرية خلال 50 سنة: “…و مع بداية الثمانينيات، بدأت المنظومة التربوية، في التراجع، لتدخل بعد ذلك في أزمة طويلة؛ من بين مؤشراتها: الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية، وضعف قيم المواطنة، ومحدودية الفكر النقدي، وبطالة حاملي الشهادات، وضعف التكوينات الأساسية( القراءة، الحساب، اللغات، التواصل)…”.
وعندما وضعت وزارة التربية الوطنية مخططا استعجاليا لتسريع إصلاح منظومة التربية والتكوين ورصدت له إمكانيات مالية مهمة، كانت تستهدف النهوض بالتعليم في جميع أسلاكه عن طريق الاهتمام بالبنية التحتية للمدارس وبالموارد البشرية، فيما سمي بـ”البرنامج الاستعجالي” وهو نسخة معدلة عن برنامج إصلاحي بدأ منذ خمس عشرة سنة من الآن، الذي سمي بـ”الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، والذي جاء كثمرة لمجموعة من التقارير الوطنية والدولية والتي نبهت إلى الوضع المأساوي لتعليمنا قياسا لعدة مؤشرات كالهدر المدرسي والانقطاع والتكرار وضعف التعلمات في الكفايات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب.
فقد جاء فيه: “…فالميثاق منظومة إصلاحية تضم مجموعة من المكونات والآليات والمعايير الصالحة لتغيير النظام التعليمي والتربوي وتجديده على جميع الأصعدة والمستويات قصد خلق مؤسسة تعليمية مؤهلة وقادرة على المنافسة والانفتاح على المحيط السوسيواقتصادي، ومواكبة كل التطورات الواقعية الموضوعية المستجدة، والتأقلم مع كل التطورات العلمية والتكنولوجية ولاسيما في مجالات: الاتصال والإعلام والاقتصاد… كما يعتبر الميثاق الوطني مشروعا إصلاحيا كبيرا وأول أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية وعشرية وطنية(2000-2009) لتحقيق كافة الغايات والأهداف المرسومة من إخراج البلد من شرنقة التخلف والأزمات والركود والرداءة إلى بلد متطور حداثي منفتح تسوده آليات الديمقراطية والجودة و القدرة على المنافسة والمواكبة الحقيقية…”، وعلى الرغم من هذه المجالات والدعامات الإصلاحية الطموحة التي ينص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فإن الواقع يعطينا انطباعا مخالفا لما جاء به الميثاق؛ فبعيد انقضاء عشرية الإصلاح، ظهرت حقائق مطابقة للواقع، عندما صنف البنك الدولي المغرب في مرتبة عربية وإسلامية متأخرة، أي المرتبة 11 من مجموع 14 دولة، إذ تفوقنا فقط على موريطانيا والصومال وجيبوتي!!
لا يمكن تشخيص سبب بعينه أو مجموعة من الأسباب بجرة قلم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقطاع معقد تتداخل فيه اعتبارات كثيرة كقطاع التربية والتعليم، لكن يمكن ملامسة بعض الجوانب دون غيرها باعتبار الإجماع حول أهميتها.
فإذا رجعنا إلى نص “البرنامج الاستعجالي”سنجد أن الأهداف الإستراتيجية المحددة لمستويات التعليم، ورفع جودة التعليم بمختلف أبعادها سنجد أنها من المحال أن تتحقق في ثلاث سنوات التي حددها البرنامج الاستعجالي لأنها أهداف أغلبها بعيد المدى لا علاقة لها بالواقع العملي والتنفيذي ولا صلة لها بجوهر الإصلاح كما يظهر لنا ذلك جليا من خلال الواقع العملي وواقع المنتديات التربوية الإصلاحية التي تسهر الوزارة المعنية على تفعيلها مركزيا وجهويا ومحليا، وعلى صعيد المؤسسات ولكن بدون أهداف تذكر( مشروع الإصلاح- مشروع المؤسسة- مفهوم الجودة والارتقاء- الشراكة التربوية….)، كما أن هذه المنتديات الإصلاحية النظرية تتغير مفاهيمها الإصلاحية من سنة إلى أخرى بشكل عشوائي وارتجالي سريع دون التأكد منها تطبيقيا وعمليا. وحتى إن خرجت هذه المنتديات- التي تشتغل على هامش الميثاق الوطني- بقرارات ومذكرات ومنشورات وزارية ومطبوعات فإنها تبقى حبرا على ورق لانعدام الموارد المادية والمالية والبشرية وتعقيد المساطير الإدارية والقوانين التشريعية والتنظيمية كما يبدو واضحا في تطبيق مشروع المؤسسة والشراكة التربوية وتحقيق الجودة البيداغوجية.
فالجهود التي تضعها وزارة المعنية لتحسين التعليم وجودته وإصلاحه غير كاملة وغير كافية؛ مما أنتج مخرجات ضعيفة وإفرازات عقيمة أحيانا.
إن إصلاح النظام التربوي وما يتبعه هو التحدي الأكبر لمغرب اليوم، والرهان الرابح لبلوغ التنمية المنشودة؛ لان إصلاح هذا القطاع الهام والأكبر هو أساس الاستثمار الأمثل في رأس المال البشري، الذي يشكل الثروة الوطنية الحقيقية، والإستراتيجية المتينة لمواجهة تحديات عصر العولمة وقيم السوق والمجتمع العالمي المفتوح والتنافسية والسباق نحو امتلاك الخبرات والعلوم والتقنيات، باعتبارها النواة الصلبة لتأسيس مجتمع العلم واقتصاد المعرفة، والمدخل الأساسي للرقي والوصول إلى أقصى غايات التميز ودرجات الجودة، التي هي من أهم أسباب البقاء في حلبة السباق والتدافع، كما انه لابد لمؤسساتنا التربوية والتعليمية أن تواكب في مسيرتها حركات التجديد المنبثقة من الحضارة الإسلامية بقيمها العالمية، وان تترجم شعارات الجودة والتميز إلى أساليب عمل لتلتحق بركب التقدم.
فقد أصبحت تلاحقنا العديد من التساؤلات التي تحتاج إلى جواب مقنع قد يكون مدخلا ضروريا للإصلاح التربوي المغربي.
وعلى ما تقدم فان قضية الإصلاح التربوي لم تعد قضية درس ومناقشة بقدر ما هي انعكاس قضية إرادة، ومتى توافرت الإرادة، إرادة الإصلاح، والصدق مع النفس، فإن طريق الإصلاح سيكون معبدا. وخير المداخل الإجرائية إلى الإصلاح هو البدء بتقويم الواقع كميا ونوعيا وفقا لمعايير موضوعية علمية ورصد المتحقق وغير المتحقق، أي لا بد من خارطة طريق للإصلاح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المنهاج المندمج أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنومة التربية والتكوين لمحمد الدريج – منشورات مجلة علوم التربية – الطبعة الأولى 2015-1436 ص5.
[2] إصلاح المنظومة التعليمية: الطفل أولا للدكتور أحمد أمزيان – بدون ذكر الطبعة- ص9.