خروج الدولة على المذهب.. تكييف شرعي أم إكراه علماني؟
ذ. إبراهيم الطالب (مدير أسبوعية السبيل)
هوية بريس – الخميس 16 أبريل 2015
بعد كل جدل مجتمعي بين مَن يدافع عن أحكام الشريعة من العلماء والتيارات الإسلامية والمؤسسات العلمية، وبين التيارات والأحزاب والمنظمات العلمانية، يتم اللجوء من طرف مؤسسة إمارة المؤمنين إلى إحداث صيغة توافقية لقرارات حاسمة في موضوع الجدل بين الفريقين، حفاظا على الاستقرار والسلم الاجتماعي، أو تفاديا لتنامي الصراع بين مرجعيتين متناقضتين متحاربتين، وذلك من خلال المؤسسات التي تعمل على تدبير اختصاصات إمارة المؤمنين، المتمثلة أساسا في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى.
إلا أن المتتبع للصيغة التوافقية يلحظ بوضوح أن المؤسسات الساهرة على تصريف اختصاصات إمارة المؤمنين، أصبحت تلجأ في كل نازلة إلى الاستنجاد بالمذاهب الفقهية الأخرى، في خروج صارخ على الأصول المعتمدة عند فقهاء المذهب المالكي التي دأب علماؤنا على تخريج الفروع الفقهية عليها، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات منطقية ووجيهة من قبيل:
ما هي الأسباب التي تدفع هذه المؤسسات الرسمية إلى الخروج على المذهب؟
هل الأمر يرجع إلى قصور المذهب المالكي عن متابعة المستجدات والتطورات المجتمعية؟ أم أن هذه المستجدات والتطورات المجتمعية تصادم أصول المذهب؟
هل يمكن أن نعتبر هذا الخروج على المذهب، آليةً تعتمدها الدولة للخروج من المأزق الذي تفرضه التيارات “الحداثية” ومن ورائها المنظمات الدولية التي تفرض عولمة النموذج الغربي المتمثل في النظرة العلمانية الأحادية الغربية المضمنة في الاتفاقيات الدولية التي تُدَّعى لها صفة الكونية؟
ثم لماذا يتم الخروج على المذهب إلى اللامذهبية كما هو الحال في تقييد تعدد الزوجات؟
ولماذا كلما خرجت تلك المؤسسات على المذهب المالكي اختارت من الاجتهادات المذهبية الأخرى أو من اجتهادات العلماء ما يوافق مطالب العلمانيين ويرضيهم؟
وهل نعتبر ما تقوم به المؤسسات الدينية اجتهادا، أم هو تكييف سياسي لقضايا دينية، يُتحايل فيه على الثوابت المذهبية والدينية؟
فإذا رجعنا إلى القضايا التي تمثل دوائر الصراع بين العلمانيين والمسلمين -وليس “الإسلاميين”-، نجد أن الخروج على المذهب دائما ما تكون نتيجتُه تلبيةَ مطالبِ العلمانيين والرضوخ للاتفاقيات الدولية، بل حتى التحفظات التي كانت توضع على بعض بنود تلك الاتفاقيات يتمَّ رفعُها تدريجيا.
ففي قضية الرفع من سن الزواج تم اعتماد سن 18 للذكر والأنثى، تماشيا مع مبدأ المساواة واحتراما للمادة الأولى من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، وهو عين مطالب العلمانيين.
وكذلك الأمر بالنسبة لإلغاء الولي، تم نسخ المادة 11 من قانون الأحوال الشخصية، بالمادة 24 من مدونة الأسرة الجديدة، لتصبح “الولاية حق للمرأة تمارسه الرشيدة حسب اختيارها ومصلحتها”، وكذلك بالمادة 25 التي أعطت “للرشيدة أن تعقد زواجها بنفسها، أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها”، وهو عين مطالب العلمانيين وما تنص عليه مواثيق حقوق الإنسان بمفهومها الغربي.
الأمر نفسه وقع بالنسبة لرفع التحفظات عن اتفاقية “سيداو” المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فقد دأبت الدولة بعد مصادقتها على الاتفاقية المذكورة على التأكيد على تحفظها على المواد 2 و9 و15 و16 و29، وتذييله بشرح الأسباب، التي غالبا ما كانت تُلخصها في كون تلك الفصول مخالفة للشريعة الإسلامية ولقانون الأحوال الشخصية.
ولأن رفع التحفظات بالكامل يطال أحكام الإرث ويعرضها للإبطال، الذي لا يزال ضمن مطالب العلمانيين، فقد اضطر المجلس العلمي الأعلى بتاريخ 18 دجنبر 2008، إلى إصدار بلاغ بخصوص رفع التحفظات أكد فيه: “لم يثر لدى العلماء، ولا يجوز أن يثير لدى المجتمع أي تساؤل حول تمسك المغرب بثوابته الدينية وأحكام الشرع الواردة في القرآن الكريم والتي لا مجال للاجتهاد فيها، مثل أحكام الإرث وغيرها من الأحكام القطعية”.
فكيف يمكن ألا تثير كل هذه “الاجتهادات” لدى المجتمع أي تساؤل حول تمسك المغرب بثوابته الدينية وأحكام الشرع الواردة في القرآن؟
وهل بعد هذا الخروج الصارخ عن المذهب المالكي في أهم القضايا المتعلقة بالأسرة والمجتمع، يبقى معه هذا المذهب من ثوابت المغرب الدينية؟
لا يمكن أن نتجاهل الامتعاض الذي يشعر به المغربي والتخوف الذي ينتابه، عندما يرى تآكل ما تبقى من أحكام الشريعة الإسلامية في منظومة القوانين المغربية، خصوصا إذا استحضرنا أن دستور 2011 قد أقر بسمو المواثيق والاتفاقيات الدولية.
ويبقى التخوف قويا ووجيها، حتى وإن كان هذا السمو قد قُيد في حالة مخالفة بنود المعاهدات الدولية للدستور المغربي، بمراجعة دستورية، حيث اشترط أن المصادقة على الالتزام بالمعاهدات المذكورة، إذا صرحت المحكمة الدستورية بمخالفة بعض بنودها للدستور، لا يقع إلا بعد مراجعة الدستور.
فإذا كان الدستور ليس مقدسا ويمكن تغييره وتبديله، وإذا كانت الثوابت الدينية المغربية، قد أثبتت عدم قدرتها على احتفاظها بثباتها أمام الضغوط العلمانية الداخلية والخارجية، وإذا كانت كل اجتهادات المؤسسات الدينية في المغرب توافق مطالب العلمانيين، وإذا كان مجرد رفع مطلب تطبيق الشريعة يدخلك في خانة التطرف عند الغرب وعند العلمانيين، فإذا كانت الحالة كما وصفنا، فكيف يمكن أن نفهم دلالات كلمات بلاغ المجلس العلمي الأعلى: “لا يجوز أن يثير -رفع التحفظات- لدى المجتمع أي تساؤل حول تمسك المغرب بثوابته الدينية وأحكام الشرع الواردة في القرآن الكريم”.
صراحة من الناحية التشريعية لا يمكن الحديث عن التمسك بالثوابت الدينية وأحكام الشرع، فالقوانين تبيح القمار والربا وغيرها، وحتى ما تمنعه كشرب الخمر والزنا والمخادنة والردة وزعزعة عقيدة المسلمين، تبيحه من خلال التساهل الكبير من ناحية تنفيذ القوانين، حتى أصبح العلمانيون يحتجون بالتطور المجتمعي للمطالبة بإلغاء كل القوانين المخالفة للتصور العلماني للحياة والكون والإنسان.
هذا التناقض يمكن أن نَتلمَّس بيانه في ثنايا كلمات وزير الأوقاف الذي صرح أكثر من مرة وبأساليب مختلفة، أن إمارة المؤمنين تقف برزخا بين الديني والسياسي، فعند كل احتكاك بين الديني والسياسي، يقوم وزير الأوقاف بتصريف الخلاف، من خلال آلية الخروج عن المذهب باسم الانفتاح على باقي مذاهب أهل السنة تارة، وباسم المصالح المرسلة تارة أخرى، لكن في كل “اجتهاد”/خروج، تكون النتيجة مرضية للطرف العلماني، وعلى حساب ما تبقى من أحكام الشريعة في القانون المغربي.
فما السبب يا ترى؟
وزير الأوقاف بعد تنصيبه، جاء بمشروع قال عنه إنه يتساوق فيه الديني مع السياسي، وحدد وظيفة لمؤسسة إمارة المؤمنين وهي لعب دور البرزخ أي الحاجز بين الديني والسياسي، وقام باحتكار الفتوى لصالح هيئة المجلس العلمي الأعلى، علما أنه لا يمكن للأشخاص أن يحيلوا عليها استفتاءاتهم، بل يقتصر الأمر على المؤسسات، فإذا أضفنا إلى هذا كله، انعدام إمكانية تحريك الدعوى العمومية في حالة المخالفات القانونية المتعلقة: بزعزعة عقيدة المسلمين، وممارسة الزنا، والدعارة في العلب والمراقص الليلية، وبيع الخمور للمسلمين في الأسواق العمومية وغيرها، والتي دائماً ما تقابل شكايات المواطنين بشأنها بالحفظ، لأن القانون المغربي سلط عليها إرادة وكلاء الملك، فإن ارتأوا تحريك الدعوى العامة فعلوا وهذا ما لا يقع إلا في حالات نادرة لا تكاد تذكر، وإن رأوا حفظ الشكاية أمروا بذلك وهو الغالب الأعم.
إذاً كيف والحالة هذه، يمكن أن نتحدث عن حفظ الثوابت الدينية؟
لذا، فمن حقنا أن نُسائل مشروع السيد الوزير بعد مضي أكثر من عقد من الزمن، هل نجح في الحفاظ على الثوابت الدينية وعلى أحكام الشريعة أم لا؟
للأسف، الظاهر من خلال ما أسلفنا، أن مؤسسات التوفيق تحاول في كل المحطات إرضاء المطالب العلمانية على حساب مذهب البلاد وأحكام الشريعة، ومن المنتظر أن ملف الإجهاض سيعرف النتيجة نفسها، هذا الملف الذي انتهت اليوم المدة التي حددها بلاغ الديوان الملكي بشأن جمع المعطيات حوله، بحيث من المنتظر أن توسع دائرة عمليات الإجهاض المقنن لتشمل الحمل الناتج عن زنا المحارم والاغتصاب وحمل المريضة عقليا، الأمر الذي يتعارض كليا مع المذهب المالكي.
في الحقيقة، نقدر حجم الضغوط الدولية التي تمارس على المغرب حتى يذعن لمقتضيات الاتفاقيات الدولية، مهما خالفت ثوابته الدينية والوطنية، خصوصا، أن هناك من المنظمات العلمانية النسوية والحقوقية، مَن تطالب بالتماهي المطلق لكل التشريعات الوطنية مع مقتضيات الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وتضرب عرض الحائط بكل الثوابت الدينية والوطنية.
ونقدر أن هناك مصالح وطنية استراتيجية، وتمويلات أجنبية لا يمكن أن يحصلها المغرب -من وجهة نظر من يدبر ملفاتها- إلا بالرضوخ لمطالب الساهرين من خلال المنظمات الدولية على التمكين لعالمية النظرة “الكونية” الغربية، وأن هؤلاء لا يفترون عن متابعة ومراقبة كل ما يخالف مقومات هذه النظرة في التشريعات الوطنية والقرارات الحكومية لبلداننا، من خلال المنظمات النسوية والحقوقية المغربية التي تمثلهم ولا تمثل المغاربة.
لكن يبقى التساؤل الأهم معلقا: إلى أي مدى ستسترسل المؤسسات الدينية في الخضوع للتطور الاجتماعي المفروض من طرف العَلمانية الدولية، التي تدعم كل الانحرافات الفكرية والسلوكية في بلادنا؟
أليس من الواجب عليها أن تقوم بتقويم تلك الانحرافات، بالتمكين لمقومات هويتنا وعلى رأسها الدين الإسلامي، في منظومة القوانين الوطنية، بوصفه دين الدولة؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.