هل تحقق حلم «هرتزل» أخيرا؟
هوية بريس – شريف عبد العزيز
السبت 18 أبريل 2015
“اتفاق قناة البحرين يحقق حلم هرتزل”
بهذه العبارة الترجيداية الموحية بالانتصار التاريخي، صدّرت الصحف الإسرائيلية صفحاتها الأولى إثر توقيع الجانبين الأردني والإسرائيلي اتفاقية البدء بتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع ربط البحرين (الأحمر والميت) عبر خط أنابيب يصل طوله إلى 180 كم؛
حتى أن وزير الطاقة والموارد المائية “سيلفان شالوم” الذي مثّل الجانب الإسرائيلي في مراسم التوقيع، قد عبّر عن لحظة التوقيع بقوله: “أقف هنا منفعلاً في لحظة توقيع الاتفاقية التاريخية على إطلاق مشروع ناقل البحرين، إننا نحقق اليوم رؤية مؤسس دولة إسرائيل بنيامين زئيف هرتزل، الذي تنبه أواخر القرن التاسع عشر لضرورة إحياء البحر الميت”.
وكان شالوم قد وصف الاتفاقية بأنها “الأهم” بين الأردن ودولة الاحتلال منذ توقيع اتفاقية وادي عربة في 26 أكتوبر من عام 1994.
الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين؛ ما هو إلا كائن هجين جرى استيراده بالكلية من الخارج، ليكون بقعة توتر دائمة في قلب العالم الإسلامي الخصم التاريخي والأيديولوجي للعالم الغربي الصليبي، فمن ينظر بعين البصيرة إلى هذا الكيان الطفيلي يري أنه مستورد بالكامل، شعب شتات جرى جلبه من شتى دول العالم، حفنة من أوروبا الشرقية والغربية، وحفنة من أمريكا، وحفنة من أفريقيا، شكلوا في النهاية شعب متنافر العرقيات، متباين الثقافات، لا يجمعهم إلا اعتناق الفكرة الصهيونية، واقتصاد قام على أكتاف المعونات التي لا تنتهي من أمريكا وأوروبا وسفهاء العرب، وسلاح جرى تصديره من أكبر مصانع العالم في أمريكا وروسيا ليحفظ التفوق الإسرائيلي على كل دول المنطقة مجتمعة، بالجملة فالكيان الصهيوني قد استورد كل شيء إلا شيئا واحدا ظل يمثل هاجسا مؤرقا للساسة الصهاينة على مر السنين، ألا وهو هاجس المياه.
ليس مشروع الربط بين البحر الميت والبحر الأحمر وليد اللحظة؛ فقد كان ضمن الخطط الإسرائيلية منذ الأزل، وهو بالأساس فكرة بريطانية بحتة في عهود الاستعمار في القرن التاسع عشر لإيجاد بديل عن قناة السويس الفرنسية حينها، ثم تلقفتها بعد ذلك الصهيونية العالمية بقيادة مؤسس الدولة العبرية تيودور هرتزل الذي تحمس لها وعرضها في كتابه “أرض الميعاد” الصادر عام 1902، ثم جرت لاحقا محاولة تنفيذها إبان رئاسة مناحيم بيجن، تحديدا عام 1981، إلا أن العمل بها قد توقف عام 1985 لأسباب غامضة.
الصهاينة أدركوا منذ اللحظة الأولى أن مشروع قناة لن يتم تمريره بسهولة في العمق الأكثر توترا في العالم لمعوقات كثيرة، لذلك جرى تسويق هذا المشروع بخبث ومكر صهيوني قديم، وعبر وسائط عديدة خلال العقدين الماضيين. وتم إلباس فكرة المشروع أكثر من زي بأكثر من لون، في البداية ارتدت الفكرة زيا أخضر وعرضت كقضية علمية بيئية في مؤتمر الأرض بجوهانسبرغ في سبتمبر 2002، على أساس أنه إنقاذ بيئي للبحر الميت الذي ينخفض منسوب مياهه مترًا واحدًا كل عام، ومن المتوقع جفافه بالكامل في العام 2050 (وهي مقولة تسوقها دائمًا تل أبيب بينما تؤكد بعض الدراسات العلمية زيفها)، في حين أن السبب الفعلي لجفاف البحر الميت هو تحويل إسرائيل لمجرى مياه النهر الأردني -الرافد الأساسي للبحر- واستيلاؤها على مياهه العذبة عن طريق سد دجانيا الذي يسحب المياه المتوجهة إلى البحر الميت ويرسلها لإسرائيل، مما سيتسبب أيضًا في جفاف بحيرة طبرية نفسها (أهم مورد مائي إسرائيلي).
حينها رفضت المجموعة العربية المشروع بشدة باعتباره يخالف كل الثوابت التي تمنع التعاون مع إسرائيل، ثم تم لاحقا صبغها باللون الإنساني ونوقشت في مؤتمر المياه بكيوتو، اليابان في مارس 2003، على أساس أن حل مشكلة العوز المائي في المنطقة يعد مطلبا إنسانيا ملحا، على أنه إنقاذ للأردن إحدى أفقر عشر دول مائيًا في العالم بحصة مائية سنوية للفرد تبلغ مائة وستين مترًا مكعبًا مقابل ستة آلاف متر مكعب عالميًا، وزيادة لحصة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من المياه المحلاة، ثم اصطبغت بعد ذلك بالصبغة الاقتصادية، وطرحت في المنتدى الاقتصادي العالمي بعمان في يوليو 2003 على أنها فرصة جيدة لبدء شراكة اقتصادية بين أطراف النزاع في المنطقة، وأخيرا بالصبغة السياسية عندما نوقشت في المؤتمر الدولي لإدارة الطلب على المياه عمان، يونيو في 2004 باعتبارها مشكلة سياسية مائية. وهذا التنقل والتلون من البيئة إلى الإنسانية إلى الاقتصاد إلى السياسة يؤكد على مدى أهمية هذا المشروع بالنسبة للكيان الصهيوني، ودوره المحوري في النقلة الاستراتيجية الكبرى التي يخطط لها الصهاينة منذ مطلع الألفية الثالثة.
المشروع لا يخلو من فوائد عديدة للجانب والأردني والفلسطيني، فبالنسبة للأردن سوف يسهم هذا المشروع في تخليصها من مشاكل عديدة تمثل عبئا على البلاد وأهمها ندرة مصادر المياه العذبة، والنقص الحاد في إنتاج الطاقة الكهربائية وانخفاض مستوى المياه الجوفية في المناطق المشاطئة للبحر الميت، حيث سيتم استغلال المياه المنقولة في إنتاج الطاقة وفي الزراعة كمياه شرب بعد تحليتها.
وبالنسبة للفلسطينيين فهم في فقر مائي مدقع بسبب استيلاء إسرائيل على معظم مواردها المائية وبسبب تمنعها عن تنفيذ الاتفاقات الثنائية بينهما لتقاسم المياه، لذا فإنهم سيفيدون من حصة لا بأس بها من المياه المحلاة من هذا المشروع.
غير أن هذا المشروع يحقق للكيان الصهيوني مكاسب أنية واستراتيجية بالغة الخطورة على المنطقة بأسرها من أبرزها:
1ـ تعزيز القدرات النووية الإسرائيلية؛ فتل أبيب والتي تضع في برنامجها النووي إنشاء أربعة مفاعلات أخرى للاستخدامات المدنية والعسكرية على حد السواء في حاجة لرافد ضخم من المياه لتبريد هذه المفاعلات، لذلك فمن المتوقع أن تكون المفاعلات على طول القناة مع استخدام المياه المستجلبة من البحر الأحمر في تبريدها.
2ـ توسيع الرقعة الزراعية التي ستروَى بالمياه المحلاة مما يساهم في زراعة أراضي النقب، مما سيؤدي تلقائيًا لتوسيع رقعة الاستيطان الإسرائيلي فيها ورفع معدلات الهجرة إليها مع إقامة مستعمرات صهيونية ضخمة جديدة وتحقيق الهدف الإسرائيلي الأهم (تكثيف الاستيطان) بجلب أعداد كبيرة من الخارج، لمعادلة الخلل في الميزان الديمغرافي في المنطقة.
3ـ تعزيز مصادر الطاقة الإسرائيلية بهذا الشكل سيقود إلى تقوية الاقتصاد الإسرائيلي أضعاف ما هو عليه الآن، وسيقضى على مشاكل الكيان المزمنة من البطالة وارتفاع معدلات التضخم، والعجز في الموازنة، مع توسع تام في الصناعات الاستراتيجية وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، مما يؤدي لتثبيت الجذور الإسرائيلية في المنطقة ككيان يحاول الحفاظ على صلابته وزيادتها باستمرار.
4ـ الأهم، إعادة ترسيم الحدود بين فلسطين (ممثلة في مناطق السلطة) والأردن، حيث ستشكل أنابيب نقل المياه خطوطًا فاصلة بعمق 100 متر فضلًا عن أنها كلها ستكون في الجانب الأردني، مع إمكانية تشريع حماية إسرائيلية مفهومة في سياق مشروع ضخم كهذا ونشر نقاط أمنية صهيونية، والأهم هو وضع عائق بالغ الضخامة أمام أي مشروع مستقبلي لإقامة دولة فلسطينية، كما ستشكل هذه القناة حاجزًا مهمًا للغاية يمنع أي هجوم مستقبلي عربي على إسرائيل من الشرق، وهو أمر قد يبدو مستبعدًا تبعًا للعلاقات العربية الإسرائيلية الحالية لكنه لا يبدو بهذه الغرابة بالنسبة لإسرائيل التي تضع كل سيناريوهات الأمن القومي أمامها وتتعامل معها بمنتهى الجدية.
5ـ تنافسيا، إسرائيل تخطط بعد الانتهاء من المرحلة الأولى للمشروع في الانتقال لمرحلة القناة الموصلة بين البحر الميت والبحر المتوسط لمنافسة قناة السويس، بل وإنشاء محور اقتصادي على غرار مشروع محور قناة السويس الذي كان يخطط الرئيس المصري محمد مرسي لإنشائه قبل الاطاحة به.
عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية المصرية د. “جمال يوسف ” طرح سيناريو متشائما بخصوص المشروع، واصفا قناة البحرين بأنها “قنبلة إسرائيل الأخطر في المنطقة العربية وتمثل مستعمرات جديدة لإسرائيل على ضفتيها، ولا تقتصر المسألة على الجانبين الأردني والضفة الغربية”.
وبين يوسف في حواره مع إحدى الفضائيات المصرية، أن مشروع القناة سيرفع المياه إلى 116 متر لترتفع بذلك عن منسوب البحر الميت بـ516 متر، ثم تنحدر المياه لعمل مولدات كهربائية لتوليد الطاقة، لافتًا إلى أن دولة الاحتلال تحلم بنقل القناة لتصل إلى البحر المتوسط لمنافسة قناة السويس.
وبعيدا عن الأخطار الاستراتيجية التي يمثلها هذا المشروع على المنطقة والعالم العربي والإسلامي والقضية الفلسطينية وقضايا التطبيع والهيمنة وتمدد النفوذ الإسرائيلي المتوقع في دول الطوق، فالمشروع في حد ذاته يحمل أخطارا شديدة، فالتغيير العنيف والمتسارع على هذا المستوى البيئي الكبير سيصاحبه جانب من خطر غير محدود! فإن من أخطار القناة تغيير المنسوب المائي والإخلال به بين البحر الأحمر والمحيط الهندي نتيجة سحب المياه المتوالي سنويًا، ثم الأهم وهو رفع مستوى مياه البحر الميت مما سينتج عنه بحسب خبراء إغراق أراضي أردنية متاخمة للبحر والصناعات المتاخمة لشواطئ البحر الميت بمساحة تقترب من الكيلومتر المربع؛ مما يُنتِج تهجيرًا قسريًا للسكان هناك.
ومن ناحية أخرى فإن البحر الميت هو منطقة زلزالية نشطة، مع حجم المياه المتدفق من البحر الأحمر وارتفاع منسوب البحر الميت سيزيد الضغط على القاع مما سيؤدي احتمالا إلى نشاط زلزالي مرتفع في منطقة البحر الأكثر ملوحة والأردن عمومًا.
ومن ناحية ثالثة فإن نسبة التركيز الملحي في البحر الأكثر ملوحة في العالم ستقل بكل تأكيد تبعًا لكميات المياه المتدفقة عليه، مما يضر بصناعات البوتاسيوم الأردنية شديدة الأهمية للزراعة والصناعة على سواء.
أما أخطر ما يحمله مشروع القناة، فهو دخول التعاون المؤسساتي العربي الإسرائيلي لمرحلة جديدة كجزء من الخطط الإسرائيلية، حيث تلقائيًا ستنشأ شبكة اقتصادية قوية ما بين شركات إسرائيل المختصة في مجال الزراعة والري والصناعات الهندسية والكهرباء وما بين الشركات الأردنية والمجتمع الأردني عمومًا، مع تغلغل في بنية الدولة الأردنية وبعض المفاصل الاقتصادية المهمة فيها عن طريق الاقتصاد الإسرائيلي، إضافة لعقود توريد الغاز الإسرائيلي لكل من الأردن ومصر والتي سيقوم الصهاينة بموجبها بتوريد كميات ضخمة من الغاز الطبيعي لمصر والأردن بحيث يكون الكيان الصهيوني هو المورد الأكبر والأهم لكلا البلدين الذين يمثلان العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وهذا معناه سيطرة الصهاينة على أهم مفاصل الاقتصاد للبلدين ودخول المنطقة عصر دولة إسرائيل الكبرى ولكن بالمفهوم الاستراتيجي وليس الجغرافي.
(المصدر: مفكرة الإسلام).