الإسلام أكثر تسامحا في العلاقات الجنسية من القانون الوضعي
أحمد الشقيري الديني
هوية بريس – السبت 18 أبريل 2015
نعم الإسلام شدد النكير على مقترف الزنا، وهي علاقة جنسية خارج غطاء الشرعية الزوجية، وقرنها بالقتل والشرك، وتوعّد المصر عليها بالخلود في النار؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً؛ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيما).
لكن حكمها في الدنيا مختلف، كما سنبينه إن شاء الله.
جاء في مقال أخينا الدكتور محمد بولوز على هامش النقاش الدائر حول مشروع القانون الجنائي الذي وضعته وزارة العدل والحريات في تجريم الزنا ما يلي:
(أما بخصوص الراشدين ممن يزنون بإرادتهم، فالعقوبة في مشروع قانوننا الجنائي مخففة جدا، وهم في الشرع يستحقون الإعدام إذا كانوا محصنين، أو جلد مائة وتغريب عام إذا كانوا غير ذلك، كما سبق بيانه، فقد جاء في المادة 490: “كل اتصال جنسي غير شرعي بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة زوجية، تكون جريمة الفساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم أو إحدى هاتين العقوبتين. يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم إذا ارتكبت هذه الجريمة بمقابل كيفما كان نوعه..).
والحقيقة أن هذه المقارنة غير صحيحة، وتعطي انطباعا أن الإسلام يستسهل الإعدام أو الجلد في جرائم شائعة مثل جريمة الزنا، خصوصا في مجتمعات انتشرت فيها دواعيه، مثل الاختلاط والعري وتأخر سن الزواج لأسباب اقتصادية معروفة، وأخونا الدكتور محمد بولوز فقيه يعرف الشروط المعقدة التي وضعها الشارع من أجل إنزال هذه العقوبة الخطيرة، وأنا أذكر هنا بأهم هذه الشروط:
اشترط الفقهاء في حد الزنا أن يشهد عليه أربعة رجال من المسلمين أحرار عدول، يصفون الزنا، وهذا إجماع، لا خلاف فيه بين أهل العلم لقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم)، وقوله سبحانه: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)، واشترط مالك وأبو حنيفة أن يأتي الشهود في مجلس واحد، وقد حدّ سيدنا عمر في خلافته ثلاثة رجال عدول شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا فجلدهم ثمانين جلدة لغياب الشاهد الرابع.
قال مالك وأبو حنيفة: إذا جاء الشهود متفرقين فهم قذفة.
واشترطوا أيضا أن يصف الشهود الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر. وهذا قول معاوية بن أبي سفيان، والزهري، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، لما روي في قصة ماعز: لما أقرّ عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا، قال له: أنكتّها؟ قال نعم، فقال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم..
ولا يخفى ما في هذا من التشديد والاحتياط في تنزيل حكم الجلد أو الرجم على مقترفي هذه الجريمة، ما لا نجده في القانون الوضعي.
وأما مقاصد الإسلام من هذا التشديد في إثبات هذه الجريمة فمتعددة، نذكر منها:
أولا: الستر، فقد تظافرت النصوص على أن الستر من أعظم مقاصد الإسلام،وفي قصة ماعز ما يدل على ذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن سعد، أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه، قال: كان ماعز بن مالك في حجر أبي، فأصاب جارية في الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك. وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم علي كتاب الله؛ فأعرض عنه النبي، فعاد.. حتى أتاه الرابعة، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم علي كتاب الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنك قد قلتها أربع مرات، فبمن؟“ قال: بفلانة.
قال: فأمر به أن يرجم، قال: فأخرج به إلى الحرة، فلما وجد مس الحجارة، جزع، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد أعجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به، فقتله، قال: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: “هلا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه“.
قلت: وفيه دليل على أن هذا من تصرفات النبي بالإمامة، كما سنبيّنه أكثر في آخر المقال.
قال هشام: فحدثني يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين رآه: “والله يا هزال، لو كنت سترته بثوبك، كان خيرا مما صنعت به“.
قال ابن حجر في الفتح: قال الباجي: المعنى: خيرا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة، أي لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار.
قال ابن حجر: وقال ابن العربي: هذا كله في غير المجاهر فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره.
ثانيا: ومن مقاصد التشديد في شروط تنزيل هذا الحد، عدم إشاعة الفاحشة بين المومنين، فإنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم كما ورد في الحديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم).. وهذا يجليه المقصد الثالث.
ثالثا: إتاحة الفرصة للعاصي أن يتوب ويقيم بيتا وأسرة، لأن إثبات عقوبة الزنا كما هي في القانون الوضعي الجنائي، خصوصا في حق الفتيات، يفسد عليهن مستقبلهن، بتشويه سمعتهن، وغالبا ما يرفضهن المجتمع والأسرة، فتتلقفهنّ شبكات الدعارة، ويضيع مستقبلهن، بينما الإسلام يتيح الفرصة للعاصي المتستر بمعصيته أن يتوب، ويحرّم على الناس تتبع عورته، وتسوّر البيوت على أهلها.
رابعا: عدم إتاحة الفرصة للخصوم أن يلصقوا التهم جزافا بالناس، وهذا من أعظم مقاصد التشديد في إثبات هذه العقوبة في الإسلام؛ وقد رأينا كيف تتم تصفية الحسابات السياسية وتفجير البيوت من خلال إشاعة فاحشة الزنا عن الخصوم السياسيين في العصر الحديث، وتتبع عورات القادة السياسيين.
والغريب أن دعاة إلغاء “عقوبة الإعدام” يبرّرون دعوتهم تلك بأن هذه العقوبة يتم توظيفها ضد الخصوم السياسيين، وهذا حق (يراد به باطل) كما نراه اليوم في مصر، عقوبات بالإعدام بالجملة ضد أنصار الشرعية؛ لكن كيف يغفل هؤلاء عن توظيف عقوبة الزنا دون احترام شروط الشريعة من طرف الدولة ضد خصومها السياسيين في حالات عدة؟
لكن ربّ سائل يقول: هذا في حق المتستر بجريمته، فكيف بمن اعترف وطلب إقامة الحد عليه من أجل التطهير، كما حصل من ماعز والغامدية؟
قلنا هذا محل اجتهاد، والذي ترجحه النصوص أن الأمر يبقى في يد الحاكم، إن شاء أقام الحد وإن شاء عفى، أو أنزل عقوبة زجرية في حق المعترف، والله أعلم، والدليل ما يلي:
عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: (زعم أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ وَهِيَ تَعْمَدُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا وَفَرَّ صَاحِبُهَا، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا قَوْمٌ ذُو عِدَّةٍ فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ فَأَدْرَكُوا الَّذِي اسْتَغَاثَتْ بِهِ، وَسَبَقَهُمُ الآخَرُ فَذَهَبَ، فَجَاءُوا بِهِ يَقُودُونَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَغَثْتُكِ وَقَدْ ذَهَبَ الآخَرُ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَهُ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ أَغِيثُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكُنِي هَؤُلاءِ فَأَخَذُونِي، قَالَتْ: كَذَبَ، هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: لا تَرْجُمُوهُ وَارْجُمُونِي، أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ بِهَا الْفِعْلَ، فَاعْتَرَفَ.. فَاجْتَمَعَ ثَلاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَالَّذِي أَجَابَهَا، وَالْمَرْأَةُ، فقال صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَنْتِ (للمرأة) فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ، وَقَالَ لِلَّذِي أَجَابَهَا قَوْلا حَسَنًا.
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْجُمُ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، لأَنَّهُ قَدْ تَابَ إِلَى اللَّهِ، تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، أَوْ أَهْلُ يَثْرِبَ، لَقُبِلَ مِنْهُمْ). والحديث صحيح.
وهذه الرواية تدل على أن حكم رجم المحصن من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة كما قلنا سابقا، والله أعلم.
و في هذا الحديث فائدة هامة، و هي أن الحد يسقط عمن تاب توبة صحيحة، و إليه ذهب ابن القيم في بحث له في “الإعلام”.