الإجهاض في المغرب… تقنين أم انسلاخ؟!
حاتم الكوراجي
هوية بريس – السبت 09 ماي 2015
في النقاش المجتمعي الحاصل بين العلمانيين من جهة والإسلاميين1 من جهة أخرى حول ما يسمى الإجهاض -قتل الأجنة- يحرص الحداثيون والعلمانيون على تحويره وجعله محصورا في الإطار الذي أعدوه سابقا لا يخرج عنه ومحاولة فرض حدود وجزئيات تتسق مع النظرة العلمانية للموضوع وبوعي أو بغير وعي يصبح هذا الإطار المرجعي مفروضا لا يخرج النقاش عنه ولا يجاوزه.
أول ذلك فرض مصطلحات ذات دلالة معينة تخدم وجهة النظر العلمانية فمصطلح “الإجهاض” يربط العملية برمتها بالحامل دون اعتبار لما هو داخلي -الجنين- أو خارجي -المجتمع- وفي تجلي أخطر فصل الممارسة الشخصية عن مصدرية الوحي، فيبدو الأمر محصورا في قرار تتخذه المرأة الحامل في الغالب بأمر يتعلق بها خاصة، لذلك يحرص الإجهاضيون -قتلة الأجنة- في مظاهراتهم البائسة التي يقودها الجنسانيون والقواعد من النساء رئيسات الجمعيات النسائية على رفع لافتات من قبيل “هذا جسدي… وهذا حقي“.
بهذه الطريقة يتم إهمال حضور الجنين كليا وما يتعلق به من حقوق ومصيره وإحساسه ومعاناته، والعجيب أن نفس هؤلاء يقفون وقفاتهم “النضالية” للمطالبة بتوقيف أحكام الإعدام -وهي لا تنفذ أصالة- لعتاة المجرمين المتورطين في جرائم القتل وغيرها، في حين يطالبون بتقنين وإباحة قتل الأجنة من غير ذنب!! إنها الحرية والديموقراطية التي يبشرنا بها هؤلاء.
واستعمال هذا اللفظ -الإجهاض- والتسليم به يعد أول خسارة ممهدة لخسارة النقاش كليا والأولى تغييره واستعمال لفظ آخر يتسم بالشمولية ويراعي حقوق الجنين الكاملة النابعة من الوحي باعتباره ذاتا مستقلة وإن حواه بطن الأم، ومن جهة أخرى مسؤولية المجتمع اتجاه هذا الجنين التي أوجبها الله لحمايته وحفظ حقوقه. والتوصيف الحق الذي ينبغي أن يستبدل به لفظ الإجهاض هو -قتل الأجنة- ذلك أن العملية المسماة بإجهاض الحمل وإن كان القرار فيها للأم والمنفذ الطبيب تعد عملية قتل حقيقة لا ينقصها عنصر من عناصر جريمة القتل، فهي إزهاق لروح انسان عمد عدوان بغير حق ولغير ضرورة.
مرجعيتنا ومرجعيتهم
مما لا ينبغي إغفاله البتة ونحن نخوض مثل هذه النقاشات أن نستحضر دائما المرجعيات المختلفة التي يعتمد عليها كل فريق، ومن أعظم الآفات التي قد تقضي على الطرح الشرعي المستمد من مشكاة الوحي أن يتم إغفال مرجعيته بالكامل ومحاولة إذابته في بوتقة أخرى موافقة لما عليه أو يفرضه الخصم، فيصار إلى الاتفاق في المرجعية مع الاختلاف في الموقف، فيفرغ الموقف من بعده القيمي الشرعي ويصير نقاشا علمانيا-علمانيا لا إسلاميا-علمانيا؛ فقضية المرجعية قضية مصيرية بالغة المركزية في حس المسلم ووجدانه قال الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومماتي ومحياي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، وهي السد المنيع والجهاز المناعي لجسد الأمة إذ يصيبها الاعتلال والنقص بقدر ضعفه وهزاله، وما خرج المسلمون من كثير مما وقع بهم من عظائم -مما لو وقعت لغيرهم لباد- إلا باستحضار مرجعيتهم الإسلامية في عملية ممانعة الدخلاء سواء على مستوى الفكر أو القوة المادية، فعلى صخرة المرجعية انكسر كبرياء التتار وخرج الصليبيون يجرون أذيال الخيبة (خلال الحروب الصليبية كانت مرجعية المسلمين واضحة مسطرة، يشرف على تسطير معالمها هيئة قائمة من العلماء الأفذاذ المصلحين، ويقوم على حمايتها جمع من الأمراء المأتمرين بالشريعة إجمالا. ولأجل ذلك خرج الصليبيون من بلاد الإسلام يجرون أذيال الخيبة، وبقي المسلمون محافظين على مرجعيتهم النهائية سالمة من كل خدش)2.
فالسبب الأساسي لمعارضة إباحة “قتل الأجنة” كون الفعل معارضا للشرع من جهة أنه جريمة قتل وعدوان3.
بينما يرتبط موضوع الإجهاض في عرف العلمانيين ارتباطا وثيقا وفرعا عما يصطلحون عليه الحرية الجنسية، فهو عرض مرتبط بهذا الأصل، إذ منعه سيؤدي ضرورة إلى التضييق على الحرية الجنسية التي تعد من مقدسات الحضارة الغربية الحداثية، فلا بأس إذن من التضحية بحياة الجنين مقابل نزوة شاب عابرة أو علاقة آنية مدفوعة الأجر سبقا، ولم لا علاقة جنسية محارمية، فإن ذلك لم يعد مستشنعا طردا على أصول الحداثيين ومنظومتهم الأخلاقية.
يراد لنا اليوم أن ننتقل من أصل الاختلاف وهو حاكمية الوحي أم حاكمية الحداثة إلى بنيات الطريق والاشتغال بالفروع التي لا شك أنها سترهق فريقا منا وتستغرق وقته بغير طائل وتعلمن خطاب فريق آخر سينتقل من تقرير مصدرية الشريعة وهيمنتها إلى الدفاع عنها وتقرير عدم تناقضها مع القيم الغربية، لنتحول من نقاش أفقي إلى آخر عمودي يلقي فيه طرف التهم ويكيل الاتهامات ويهتم الآخر بدفعها لننتهي بعد استدراج طويل إلى علمنة الطرح لنتحدث عن الديموقراطية الإسلامية، والإشتراكية الإسلامية، والحداثة الإسلامية، والفن الإسلامي، أو مصارعة رجل القشة التي لن تنتهي…
فتقرير أصل ما ينطلق منه الإجهاضيون -قتلة الأجنة- أولوية ملحة وهو المنظومة الغربية الحداثية للقيم والأخلاق وتحديدا الحرية الجنسية فيما يتصل بموضوعنا هذا.
فإن التصور الحداثي العلماني للأخلاق والحريات يعطي المصدرية حصرا (للقيم والقواعد التي يرغب فيها بالذات أولئك الذين هي موجهة اليهم)4، كما يذهب إليه تودورف في تأصيله للتصور العلماني لمصدرية القيم والقواعد الاخلاقية وحد المخالفة التي تستلزم العقوبة.
فميزان الأخلاق والحريات عندهم هو ما يقوم على اساس التعارف المجتمعي وتصوراته -وإن كان هذا المبدأ عند التحقق في العرف كصنم العجوة فيحلون لأنفسهم ما لا يجيزونه لغيرهم- ولو كانت هذه القيم والقواعد مخالفة للفطرة والدين فيكفي -مثلا- أن يتعارف المجتمع ويتفق على إباحة زواج الشواذ أو زواج المحارم أو حتى الزواج من الحيوانات والدواب ليصير ذلك كله مشروعا لا غبار عليه والإجهاضيون من بني جلدتنا لعدم يقينهم بإمكانية تقبل المجتمع المسلم لهذه المرجعية المتحللة يلجأون إلى الالتفاف عليها من خلال محاولة الاستغراق فيما يتفرع عنها كالإجهاض وما يعرف بـ”الامهات العازبات” أو صياغة عمومات من قبيل ”حقوق الإنسان الكونية” و”حقوق المرأة” وغير ذلك، وقد يصرح بعضهم على استحياء بحقيقة دعواه إلا أنها غالبا ما تنقمع لشدة معارضة المجتمع المسلم.
غير أنه من الملفت جدا توجه بعض الحداثيين إلى تزيين طرحهم ببعض التأويلات التراثية إما تلاعبا أو تدخلا بإعمال طرق تأويلية ملتوية للنص الشرعي، وقد تبدو هذه الطريقة في نظر كثير من العلمانيين الحداثيين العرب أو الغربيين أكثر نجاعة وأقرب تأثيرا من تلكم التي يستشف منها معاداة للدين والوحي سواء كانت ظاهرة أم خفية، وهنا ينبغي التنبيه أن أي إدخال لمثل هذه الاجتهادات في النقاشات الشرعية وأخذها بعين الاعتبار ثم الرد الشرعي عليها يعد مزلقا وإنما يرد عليا كونها طرحا علمانيا خالصا ينطلق من أصوله العلمانية مع تغيير بسيط، وهو استعمال النص الشرعي الذي لم يكن حاكما ومنطلقا و”الحقيقة أن الفرق الأساسي هو التحول من “الاستهداف المباشر للشريعة” إلى “إعادة تفسير التراث” من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة، أو بشكل آخر القفز من الإشكالية الأنطولوجية إلى الإشكالية الإبستمولوجية”5.
الجاهليون أم قتلة الأجنة… أيهم أرحم؟
ساد في العصر الجاهلي ظاهرة مجتمعية ارتبطت بمفهوم العار والضرورة المعيشية حيث كان الوأد عملا منتشرا في الجزيرة العربية ومقبولا مجتمعيا والطريقة المشهورة لتنفيذ هذه الجريمة البشعة كانت عن طريق وضع الطفل في حفرة ثم القاء التراب عليه.
لا شك أن بشاعة هذا المنظر مجمع عليها بين أهل الفطر السوية وبالنظر إلى الطرق المتبعة اليوم لقتل الأجنة قد يبدو الوأد مغرقا في الرحمة إذ أن الوفاة تتم بشكل اسرع وأرحم مما عليه قتل الأجنة.
الطريقة الشائعة اليوم لقتل الأجنة خصوصا في الشهور الأولى هي ما يسمى الشفط وهو إما يدوي أو إلى حيث يعمد إلى إدخال أداة حادة إلى الرحم لتقوم بشفط الجنين إلى الخارج العملية شبيهة جدا بوضع جنين في آلة طحن العصير يتم ذلك رغم الأبحاث التي تكاد تؤكد أن الجنين يشعر بالألم بعد أسبوعه الرابع عشر، وهي المدة التي يعمد فيها إلى الإجهاض إذ غالبا ما تظهر أعراض الحمل بجلاء في هذه الفترة كلما زاد عمر الجنين كلما زادت الطريقة بشاعة وسادية منقطعة النظير في بعض البلدان يشيع ما يسمى “التوسيع والإخلاء”، حيث يتم توسيع الرحم واستخراج الجنين قطعة قطعة.
الحقن المميتة أحد أكثر الأساليب شيوعا في فرنسا حيث يعمد إلى حقن الجنين بحقنة مميتة في قلبه ثم استخراجه لاحقا، واللافت هنا أن نسبة معدل نجاح هذه الحقن يصل إلى 87 في المئة، أي أنه يتم أحيانا استخراج الجنين حيا، فقد ذكرت المجلة البريطانية الطبية أن 10 في المئة من الأطفال ينجون من الإجهاض في الأسبوع الثالث والعشرين فإما أن يعاد حقنه مرة أخرى وهو خارج بطن أمه أو يترك حتى يموت اختناقا أو تأثرا بالجروح التي سببتها الآلات في حالة أخرى ليلقى بعد ذلك مع النفايات البيولوجية للمستشفيات. هكذا يريد قتلة الأجنة المحليين أن يستوردوا إلينا هذا الإجرام الموغل في السادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) هذا اللفظ مجرد استعارة للدلالة على فئة من المسلمين المشتغلين بالقضايا العامة ومحاولة ردها لإطار الوحي وإلا فلا ينبغي ترسيخ الرؤية التي تعزل الإسلامي عن المسلمين بزيادة اعتقاد أو نقاء وطهورية مزعومة بل التمييز يحصر في مجال الاشتغال وأولوية الاهتمام.
2) “العلمنة من الداخل” الشيخ البشير المراكشي (ص:34).
3) قال ابن تيمية رحمه الله: “إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد، الذي قال الله فيه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير:8،9). وقال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)، والأدلة في هذا الباب كثيرة وافية.
للاستزادة ينظر الرابط التالي: http://www.saaid.net/bahoth/72.htm
4) نقلا عن كتاب “العلمنة من الداخل” (ص:248).
5) إبراهيم السكران “مآلات الخطاب المدني”.