إلجام سَوْرة النفس بتجرع الغضب وكظم الغيظ (ح1)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الثلاثاء 12 ماي 2015
إن المتأمل في واقع الناس -اليوم-، يسترعي انتباهه مدى درجة العنف التي تتولد عن فعل الغضب، وشدة التوتر، والعجز عن كظم الغيظ.
حروبٌ طاحنة على مستوى الدول والأمم، تزيد عن سبع وأربعين حربا، أودت إلى الآن بحياة أكثر من مليونين ونصف من البشر، وجرائمُ اعتداء مستفحلة، زادت عن 400 ألف جريمة ترتكب في العالم يوميا، وتوتراتٌ مؤسفة بين الإخوان والجيران، وتصدعاتٌ بين المتبايعِين، والأجراء والمستأجرين، واختلافاتٌ داخل المدارس والجامعات بين المتعلمين والمدرسين، هذا يلكُم هذا، وهذا يحمل السيف في وجه هذا.. كسورٌ، ورضوض، وجراح، ومستعجلات، حتى اقترح أحدهم وضع بدلة واقية خاصة للمدرسين لحمايتهم من غضب بعض المتعلمين، وسمى الآخر هذه الأيام التي نعيشها بموسم التنكيل بالأساتذة.. فلماذا كل هذا الغضب، الذي لم تعد تضبطه نوازع من حسن الأخلاق، أو تتحكم فيه مكابح من جميل الآداب؟.
الغضب -كما عرفه الجرجاني-: “تغير يحصل عند غليان دم القلب، ليحصل عنه التشفي للصدر”. والغضوب: الحية الخبيثة، لشدتها.
أما الغيظ فهو أشد من الغضب وأصعب، فهو غضب شديد باعث على الانتقام والإيقاع بالخصم. قال المناوي في التعاريف: “الغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه”.
ولذلك حظي الكُظَّم للغيط بتنويه خاص في كتاب الله تعالى. قال تعالى: “سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”. قال ابن كثير -رحمه الله-: [“والكاظمين الغيظ“: أي” لا يُعمِلون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرَّهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل]. وقال البغوي: [“والكاظمين الغيظ“: أي: الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه”].
فحقيقة كظم الغيظ، هي حبسه ورده في الجوف، مع القدرة على الإيقاع بالمعتدي. قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “ومن كظم غيظا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة” صحيح الجامع.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما يباعدني من غضب الله -عز وجل-؟” قال: “لا تغضب” رواه أحمد، وهو صحيح الترغيب.
ولقد جاء رجل يستنصح النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: “أوصني”. فقال له -صلى الله عليه وسلم-: “لا تغضب“، فردد مرارا قال: “لا تغضب” رواه البخاري، وبوب عليه: “باب الحذر من الغضب”.
قال ابن التين: “جمع -صلى الله عليه وسلم- في قوله: “لا تغضب” خير الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الغَضَب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين”.
وقال الباجي: “معنى ذلك -والله أعلم- أنَّ الغَضَب يفسد كثيرًا من الدين، لأنَّه يؤدي إلى أن يُؤذِي ويُؤذَى، وأن يأتي في وقت غضبه من القول والفعل ما يأثم به، ويُؤثِم غيرَه.. والغَضَب -أيضًا- يمنعه كثيرًا من منافع دنياه”.
وقال ابن رجب: “فهذا يدلُّ على أنَّ الغَضَب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير”.
ولذلك كان الغضب والغيظ وسيلتين مهمتين لاختبار صبر الإنسان وحِلمه، وهل هو على شيء، أم صيحة في فراغ، ونفخة في رماد؟
فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” لَيْسَ الشَّدِيدُ (أي: الحقيقي) بِالصُّرَعَةِ (أي: الذي يغلب الرجال ويصرعهم)، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ” متفق عليه.
وعن المغيرة بن عبد الله الجعفي قال: جلسنا إلى رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقال له: خصفة بن خصفة، فجعل ينظر إلى رجل سمين، فقلت له: ما تنظر إليه؟ فقال: ذكرت حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعته يقول: هل تدرون ما الشديد؟ قلنا: الرجل يصرع الرجل. قال: “إن الشديد كل الشديد، الذي يملك نفسه عند الغضب. تدرون ما الرقوب؟” قلنا: الرجل الذي لا يولد له. قال: “إن الرقوب الرجل الذي له الولد، لم يقدم منهم شيئا“. ثم قال: “تدرون ما الصعلوك؟” قلنا: الرجل الذي لا مال له. قال: “إن الصعلوك كل الصعلوك، الذي له المال لم يقدم منه شيئا” صحيح الترغيب، وبعضه في صحيح مسلم.
وهذا معناه أن القوي على وجه الحقيقة هو من يستطيع مغالبة نفسه، ومقارعة هواه، فلا يضعف أمامهما، ولا يستسلم لنزغاتهما. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: “ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد”.
عن عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ (حبل مضفور من جلد)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أَقَتَلْتَهُ؟”. قَالَ: نَعَمْ، قَتَلْتُهُ. قَالَ: “كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟”. قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَحْتَطبُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ” مسلم.
ولم أرَ في الأعداءِ حين اختبرتهـم***عدوًّا لعقلِ المرءِ أعدَى مِن الغَضَبِ
ولقد استُفز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرات عديدة، اختبارا لحلمه، وتثبتا من نبوته، فكان الأسوة الحسنة، والقدوة الرسالية.
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قسم النبي – صلى الله عليه وسلم- قَسْما (غنائم حنين) فقال رجل: “إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله”. قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: “يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر” متفق عليه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه -أيضا- قال: “كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه، فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” متفق عليه.
وقد يقع في بيته -صلى الله عليه وسلم- ما هو مظنة الغضب، ولكن يغلِب حلمُه غضبه، ووقارُه غيظه، فيعفو ويصفح، منبسط الوجه، منشرح المحيَّا.
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ (وهو في بيت عائشة)، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ (حجر ملء الكف)، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: “كُلُوا، غَارَتْ أُمُّكُمْ” مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَحْفَةَ عَائِشَةَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ” رواه البخاري واللفظ للنسائي.
وإذا غضبتَ فكن وقورا كاظما***للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تصبر ساعــــة***يرضى بها عنك الإله وترفــع
ولقد ائتسى الصحابة الكرام ومن بعدهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كظم الغيظ، وعدم إسلاس القياد للنفس والشيطان.
فهذا أبو مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلاما لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي: “اعلم أبا مسعود“، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني، إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: “اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود“. قال: فألقيتُ السوط من يدي. فقال: “اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك منكَ على هذا الغلام“. قال: فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا” رواه مسلم.
وسبَّ رجل ابن عباس -رضي الله عنه-، فلمَّا فرغ قال: “يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟” فنكس الرجل رأسه واستحيى.
وقال أبو ذر -رضي الله عنه- لغلامه: “لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟” قال: “أردت أن أغيظك”. قال: “لأجمعنَّ مع الغيظ أجرًا، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى”.
وأسمع عمرَ بنَ عبد العزيز رجلٌ كلامًا، فقال له عمر: “أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزِّ السلطان، فأنالَ منك اليوم ما تناله مني غدًا؟ انصرف رحمك الله”.
ومن عجب أن ابن عون كان لا يغضب، فإذا أغضبه رجل قال له: “بارك الله فيك”.
لما عفوتُ ولم أحقد على أحــد***أرحت نفسي من همّ العداوات
فهلا اجتهدنا في الاقتداء بهؤلاء، وصرنا على طريقتهم في حفظ أنفسنا، وحفظ ألسنتنا، وحفظ أعصابنا من التلف والأمراض، فتحمل بعضنا بعضا، ولان بعضنا لبعض، حتى إذا أغضبنا أحد قلنا له: بارك الله فيك؟