مسؤولية العلماء
د. رشيد نافع
هوية بريس – الإثنين 18 ماي 2015
إن الدور المنتظر من العلماء عظيم وكبير، فهم ورثة الأنبياء كما أخبـر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟
قال: لا. قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا.
قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وحسنه الحافظ ابن حجر وتلميذه السخاوي وابن القيم والشيخ الألباني رحمهم الله أجمعين.
فأين العلماء الذين هم مصابيح الهدى في الأرض، والذين يملؤونها نوراً وهدى، وضياء وتقوى، وفضائل أعمال ومكارم أخلاق، أين العلماء الذين هم في نشر نور العلوم وتعميم ضياء الإيمان، كنجوم السماء، التي تحيط الأرض بضيائها وأنوارها، ولا تنقطع عن إرسال إشعاعها في ظلمات الليالي لحظة واحدة؟ أين ورثة الأنبياء الذين ورثوا عن سيدنا نوح صبره على تبليغ رسالة الله وتحمله إيذاء قومه له وإعراضهم عنه، قرابة ألف سنة؟ أين ورثة الأنبياء الذين ورثوا عن سيدنا إبراهيم شجاعته وصموده أمام النمرود، وتضحيته بالحياة، واستهانته بالموت في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه؟ أين ورثة الأنبياء الذين ورثوا عن سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه الذين ورثوا دعوته وجهاده، وصبره وحلمه ومشيه في الأسواق، وإلى النوادي والمجتمعات، معلنا منادياً بالدعوة إلى التوحيد وإلى دينه القويم مقتحماً في ذلك الأخطار غير مبال بالهزء والاستنكار؟
إن علماء هذه الأمة بمنزلة أنبياء بني إسرائيل، فهم المجددون والموجهون، وهم حفظة الدين وحماة الشريعة، فيجب عليهم أن يقوموا بواجبهم خاصة في هذا الزمـان الـذي تحتاجهم الأمة فيه حاجة ماسة، فـي ظـل التـداعيات والتحـديات والاضـطراب والفـتن والمستجدات. ولقد جاءت النصوص القرآنية الكريمة، التي تؤكد هذه المسؤولية، وتوضـح حجـم الأمانة الملقاة على عواتقهم، وبتأمل التحديات المتقدمة آنفاً، يمكن تلخيص أهم وأبرز ملامح هذه المسؤولية في الآتي:
أولا- تثبيت الأمة على الدين وإرجاعها إلى الأصول والثوابت والمحكمات الـشرعية التـي لا يختلف عليها مسلمان، ولا تقبل الجدل والنقاش، وهذا يستلزم نشر العلم الـشرعي لتحقيـق البلاغ المبين، وتوضيح الحق للعالمين، وهي مهمة عظمى لا يقوم بها إلا العلماء الربانيون، المخلصون الصادقون، ورثة الأنبياء والمرسلين، فهي مهمة الرسل قبلهم، كما قـال تعـالى: “كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكـم ما لم تكونوا تعلمون“.
وكما أن مهمة الرسل تثبيت أتباعهم المؤمنين بتلاوة ما يتنـزل علـيهم مـن الـوحي العظيم، فتنقل هذه المهمة إلى ورثتهم من العلماء، قال تعالى: “قل نزله روح القـدس مـن ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا” (النحل).
ومن المعلوم أن هذا الدين القويم له أسس وقواعد بني عليها، وفيه ثوابـت ومحكمـات لا تتغير مهما تغير الزمان، وإليها ترجع أحكام الدين وتفصيلاته، قال عز وجل: “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات” (آل عمران).
وهنا تأتي مهمة العلماء، وهنا يتجلى إعجاز هذا الدين، حيث جعل الله فيـه عوامل البقاء والحفظ والدوام، رغم كل التحديات، وأهم هذه العوامل هو تلك الثوابت والمحكمات، التي من تمسك بها والتف حولها مهما كانت الظـروف والفـتن عـصمه الله مـن الزيـغ والانحراف والضلال، قال صلى الله عليه وسلم: “تركت فـيكم شـيئين لـن تـضلوا بعـدهما: كتـاب الله وسنتي” رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع.
وفي ظل التداعيات والمتغيرات المعاصرة، ومـع كثـرة الأحـداث والمـستجدات، وتوالي الفتن والأزمات، يقع الخلل وتضطرب المفاهيم وتتزعزع الثوابت وتحدث الحيرة لدى عامة الناس، وهذا حال الفتن التي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أنها تدع الحليم حيراناً، وقال فـي شأن تغير القلوب بسببها: “بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يـصبح الرجـل مؤمنـا، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا” رواه مسلم، ولا يعصم الناس ويحفظ لهم توازنهم ويثبت أفئدتهم -بعد توفيق الله- إلا أهل العلـم، ويكون ذلك بإرجاع الناس إلى أصول دينهم ومحكمات شريعتهم التي ضمن الله لهـا الحفـظ والبقاء بقوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر).
ثانيا- الدفاع عن الإسلام والتصدي للهجمات الموجهـة للـدين وكـشف شـبهات المنـافقين والمغرضـين، وتوضيح الحقائق للملبس عليهم من المسلمين، ذلك أن في أزمنة الفتن وبسبب تفشي الجهل وانشغال الكثيرين عن العلم الشرعي الأصيل، يعمد خصوم الإسلام إلـى إثـارة الشكوك والشبهات، ولبس الحق بالباطل وإحداث البلبلة في الصف المسلم، وهـذه الـشبهات تجد رواجاً لدى بعض المسلمين وقد يتأثر بها سلبياً، وهنا يأتي دور العلمـاء فـي القيـام لله دفاعاً عن دينه وتفنيداً للشبهات والأقاويل، وفق منهج القرآن الكريم الذي تعقب كثيـراً مـن شبهات المشركين والمنافقين بالأجوبة الصريحة والحجج الدامغة، ومثال الشبهات التي تثـار قديما وحديثا؛ دعوى أن أحكام الشريعة الإسلامية لا تناسب العصر، وأن للبشر الحـق فـي تشريع الأحكام وسن القوانين والنظم دون الرجوع إلى حكم الله وشرعه.
ولقد جاءت النصوص القرآنية للتصدي لهذه الشبهة، وبيـان أن الـذي يملـك حـق التشريع هو الله وحده، قال تعالى: “ألا له الخلق والأمر” (الأعراف)، فهو خالق الخلق وهو أعلم بحالهم، وبما يصلحهم في دينهم ودنياهم، قال تعالى: “ألا يعلم من خلـق وهـو اللطيـف الخبير“، وقال سبحانه: “قل أأنتم أعلم أم الله“، كما جاءت آيات أخرى في التأكيـد على عالمية رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها لجميـع الأزمنة والأمكنة، ولجميـع الـشعوب والأجناس كقوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“، وقوله: “وما أرسـلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا”، ومقتضى تلك العالمية وذلك العموم أن تشمل هـذه الرسـالة جميع ما يحتاجه البشر بمختلف أصنافهم واتجاهاتهم، فجاء التأكيد على ذلك في آيات أخـرى كقوله تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء“، وقوله: “ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكـل شيء“.
وهذا يعني أنه ما من شيء يحتاجه البشر، وفيه صلاح دينهم واستقامة دنيـاهم، إلا وأصله موضح في الوحي المنزل، الذي عصم من التحريف والتبديل، كما عصم من الخلـل والاختلاف، ولو ترك الأمر لعقول البشر، لحصل التباين والتضارب، كمـا قـال سـبحانه: “أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا“، وقال جـل وعلا: “ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن“، إلى غير ذلك من النصوص في معالجة هذه الشبهة وغيرها.
ثالثا- فضح الأعداء وبيان حقيقة العداوة ودرجاتها:
وهذا أمر مهم للغاية في ظل الفتن المعاصرة، إذ أن من سمات هذه المرحلـة كثـرة الاختلاف وتباين الآراء، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وكثيراً ما يؤدي الخلاف في الـرأي إلى أنواع من العداوة والخصومة، وتأتي خطورة الأمر حين ينـشغل المـسلمون بخلافـاتهم الجزئية عن العداوة الحقيقية والخلاف الأعظم مع العدو الأكبر والخصم المشترك. ولقد وجه القرآن الكريم إلى كشف زيف الأعداء وفضحهم، كما قال تعالى: “وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين“.
رابعا- السعي إلى وحدة المسلمين وجمع شتاتهم:
وهو متعلق بما سبق من حيث أن هذه الوحدة لا تتحقق إلا بالاتفاق على أصول وثوابت يقرها الجميع، ومن حيث تأكيد مفهوم الأخوة الإسلامية وتوضيح حقيقة العداوة ومن هم الخـصوم الذين ينبغي أن نتوحد ضدهم، ونصرف جهودنا لمواجهتهم، وهذه الوحدة مطلب شرعي أمر الله به في كتابه ونهى عن ضده، فقد قال سبحانه وتعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا“، وقال سبحانه: “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينـات وأولئك لهم عذاب عظيم“، وقال أيضا: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا“.
وتأتي مسؤولية العلماء في بيان أهمية هذه الوحدة والـدعوة إليها والحث عليها، وتحديد الخطوات العملية لتحقيقها، وتذليل الصعوبات وعلاج المـشكلات التي تواجهها، وجمع طوائف المسلمين ذوي العقيدة الواحدة ليكونوا صفاً واحداً، وتنسيق جهودهم في تحقيق المصالح الشرعية لصلاح دينهم ودنياهم.
خامسا- بث روح التفاؤل بين المسلمين، وإشعارهم بعزة الإسلام، وتذكيرهم بوعد الله سبحانه ونصر دينه وإعلاء كلمته: وهو أمر في غاية الأهمية، فلابد من الـتخلص مـن الهزيمة النفسية التي لحقت بكثير من المسلمين بسبب الأحوال العصيبة التي يعيشها فئام منهم، ومـن ثم التأكيد على أن العاقبة للمتقين، فمهما طال الأمد واشتد الكرب وعظم الخطب، واسـود الليل، فإنه لابد من طلوع الفجر، وانتصار الحق وإزهاق الباطل، فهذه سنة الله فـي هـذا الكون، ونصوص الوحي المنزل، تؤكد هذا وتؤيده، فقد أخبرنا سبحانه بأنه سيتم نـوره ويظهر دينه ويعز جنده المؤمنين، فقال عز وجل: “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون“.
والحمد لله رب العالمين.