النحلة الجميلة
د. أحمد خليل خير الله
هوية بريس – الخميس 21 ماي 2015
“الفرق بين العظمة والمستوى المتواضع يكمن -في الغالب- في نظرة الفرد للخطأ” نيلسون بوزويل.
المؤمن كالنحلة رحلة إبحار في مثال نبوي ينهض بخيال عقل الأمة الجمعي يحتاج منا إلى مزيد من الغوص في معانيه وتطبيقاته ونقله من السطور إلى الصدور، ومن التدبر إلى التدبير..
يقول “صلى الله عليه وسلم”: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِد)..
فلم تكسر ولم تفسد…
كلمة وقعت تأتي على معنيين..
الأول يعنى الوقوف على الغصن المقصود لأخذ الرحيق.
والثاني وقفت على شيء بالخطأ ولن تستفيد منه في شيء.
وما جذبني هو المشهد الجمالي والاختيار النبوي لمفردة “وقعت”..
وكأني أرى وقوع المؤمن ولكن في شموخ وعزة بل وفي جمال..
المؤمن أينما حل أو رحل مضطر أو مبادر الجمال لم يفارقه..
الجمال في لحظات الانكسار جرعة أمل جديدة قدوتنا فيها النحلة..
النحلة تقول لنا.. تقول لي ولك
كن جميلاً..
حتى في وقوعك..
حتى في انكسارك..
كن جميلاً..
حتى أثناء وقوعك لا تكسر ولا تفسد، لا تضع على المشكلة مشكلة وتصنع من الأزمة أزمات..
طالما وقعت فعقلية النحلة تقول لك كن جميلاً ولو بعد هزيمتك..
فالاستدلال على خطوات الاستكمال أول نصوصها حرصك على الجمال..
كن جميلاً!
فحرصك على الجمال عبادة:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُبْغِضُ الْبُؤْسَ وَالتَّبَاؤُسَ“.
لم أرَ شيئاً يقتل الإبداع ويهدر الطاقة ويضيع المجهود مثل البؤس والتبؤس!
فمن الناس من وقع فكانت وقعته أول سطر في ملحمة مجده وبداية قصته، لأنه خلع البؤس والتبؤس ولم يحملهما كعدسات ينظر بها إلى وقعته..
ومن الناس من وقع فاتخذ هذه الواقعة وطناً وكانت بداية النهاية لأنه اتخذ البؤس والتبؤس عدسات للنظر إلى وقعته..
كل إخفاق، فرصة جديدة لصناعة لوحة من الجمال تطلق شعاعاً يقول أن قرار الإنجاز والإبهار قد اتخذ في خضم الانهيار..
ألم تشاهد لوحة الجمال التي رسمتها ريشة سيدنا كعب بن مالك “رضي الله عنه” في خضم محنته..
بحق كان جميلاً..!!
كان كالنحلة لم يكسر ولم يفسد، لم يخرج بعدو واحد، لم يستخدم موهبته الشعرية في هجاء فرد واحد حتى على سبيل التعريض، لم يكسر ولم يفسد.
هكذا أهل الإنجاز سلام على المجتمع حتى في انكسارهم..
ألم ترى إلى لوحة الجمال التي رسمتها ريشة البيت الصديق في حادثة الأفك؟؟
روى ابن جرير الطبري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثم وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11)، في عائشة وفي من قال لها ما قال، قال أبو بكر – رضي الله عنه – وكان ينفق على مسطح لقربته وحاجته والله لا انفق على مسطح شيئاً أبداً ولا أنفعه بنفع أبداً، بعد الذي قال لعائشة ما قال وأدخل عليها ما أدخل، قالت فأنزل الله في ذلك (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ… وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية. فقال أبو بكر -رضي الله عنه- والله أني أحب أن يغفر الله لي فأرجع إلى مسطح -رضي الله عنه- نفقته التي كان ينفقها عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
فلم يكسر ولم يفسد…
كن جميلا كالنحلة..
تأمل حالها حين وقعت فلم تكسر ولم تفسد..
لم تقل أنا ومن بعدي الطوفان فتتخذ الكسر والإفساد منهجاً وطريقاً..
النحلة مثال عملي على جمال من نوع جديد..
النحلة رسمت لوحة هدوء وسكينة بعد وقعة أليمة..
وطالما وقعت فستحولها إلى انتصار بعده قيام..
وإذا رأى المنتصر مشهد الجمال في انكسار من هزمه تذهب فرحة الانتصار من قلبه..
النحلة ترسل لنا رسالة تقول لابد أن تكون جميلاً حتى عند إخفاقك..
دعوة لدفع قدر الله بقدر الله..
دعوة للأمل الجميل..
لفشل عابر يتحول إلى مطار دائم لإقلاع طائرات النجاح والإنجاز..
بالله..
توقف عن الكلام السلبي..
عن البؤس والتبؤس..
عن عيش دور الضحية..
عن تمثيل دور اختاره لك آخرون..
هذا هو حال الدنيا فلما التعجب والحزن، وكأنها أتت بجديد مختلف..
يقول أهل العرفان: لا تستغرب الأكدار ما دمت في هذه الدار.
يقول عنها ابن القيم “رحمه الله” في نونيته:
طبعت على كدر فكيف تنالها***صفو أهذا قط في الإمكان
ولم أرى وقوعاً يتبعه جمالاً مثل ما حدث ما الكريم ابن الكريم يوسف “عليه السلام”..
فبعد سنين السجن وبعد ألم الانتظار في السجن..
ترى كيف سيتعامل مع المجتمع الذي آذاه وعرضه للسجن والحبس؟؟
هل يكون هو مفسر الأحلام على الواقع أم يكون رجل الانتقام على الواقع؟؟
وكأن أحدهم يطل برأسه عبر الزمان والمكان يقول ليوسف “عليه السلام” حان وقت تصفية الحسابات..
لا تفسر لهم الرؤيا..
دع هذه الدولة الكافرة تدخل في مجاعة..
لا تساعدهم لا تعرض خدماتك..
اتركهم وشأنهم هؤلاء الظلمة هم السبب في كل ما أنت فيه..
يا نبي الله طالما وقعنا إذاً لابد أن نكسر و نفسد..
ولكنه لم يفعل “عليه السلام” فكان كالنحلة، نعم وقع ولكنه لم يفسد ولم يكسر..
بعد أن مكنه الملك من غير طلب منه فهو الذي آتى به (قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين)..
فلما حدث التمكين وقال له الملك أنت لدينا اليوم مستأمن ممكن اختار يوسف “عليه السلام” من بين الوظائف الذي يناسبه (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم).
وقوع وانكسار تبعه لوحة جمال..
رجل أوقعه المجتمع فقام من وقعته لينقذ المجتمع
لذا لا عجب حين يقول لإخوته الذي كانوا سبباً رئيساً في وقعته الأولى في البئر والتي تبعها وقعة العبودية في القصر، لا عجب حين لا يكسر ولا يفسد في التعامل معهم فيقول لهم: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين)..
كان جميلاً في وقوعه “عليه السلام” عاملهم بالرحمة والجمال..
فأهل المهام العظام لا يجدون وقتاً للانتقام..
كل مجتمع يبحث عن من يفسر له أحلامه، يبحث عن يوسف كل زمان، يبحث عن مفسر حلم لا عن منتقم..
عقلية النحلة الجميلة حتى في وقوعها رسالة من كائن صغير صاحب معنى كبير يقول:
كن جميلا حتى في وقوعك وانكسارك..
عقلية النحل إدارة وإرادة وجزء من الحل..