تجريم الإساءة إلى الله والأنبياء والأديان
أحمد الشقيري الديني
هوية بريس – السبت 23 ماي 2015
هل الله بحاجة لمن يدافع عنه؟
وكذا الأنبياء والملائكة والأديان، أليس الله من أرسلهم وأنزل كتبهم، وهو سبحانه القادر على محق أعدائهم وأعدائه والمسيئين إليهم؟
في نقدهم لمشروع القانون الجنائي الذي تقدمت به وزارة العدل والحريات من أجل فتح نقاش حول بنوده وإغنائها، يرى العلمانيون أن ما تنص عليه هذه الوثيقة التي تعد في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد الدستور، في بعض بنودها، تضييقا على الحريات أو مصادرة لها، ومنها البند الذي ينص على تجريم الإساءة للذات الأقدس المتصفة بصفات الكمال (الله) أو للأنبياء وعموم الأديان السماوية.
في هذا السياق يقول الأستاذ صلاح بوسريف:
(في الإسلام، الله «قادِرٌ»، و«يعلَم ما في الصُّدُور»، ولا أحدَ يَمْكُر عليه، لأنَّه هو «خَيْرُ الماكِرِينَ». فهو خالِق البَشَر، وهو رَبُّهُم الذي لا إلَهَ إلاَّ هُو، فكيف يمكن أن ننظر إلى الإنسان باعتباره مُسِيئاً إلى الله، وما الدَّلِيل الذي نُقِيمُه عليه، لِنَتَوَلَّى، نحن البشر، مُعاقَبَة الإنسان، لأنَّه، هكذا، «أساء إلى الله»؟ أَلَيْسَ هذا نَفْيٌ لِسُلطَة الله على عِبادِه، ولِوَعيدِه الذي أثْبَتَه النَّصّ، وأكَّدَ عليه، واعْتَبَر اللَّه، أيضاً «غفور رحيم»؟ ثم، ما الدَّاعي لتحويل الله، إلى عاجِزٍ عن «الانتقام»، وفق ما يؤَكِّدُه النَّصّ، ليتحوَّل، من اقْتَرَحُوا هذه الصيغة، وغيرها، إلى ناطقين باسم الله، وأوْصِياء، ليس على الدِّين، وحْدَه، بل على مَصْدَر الدِّين نفسِه، أي على الله؟)
وإذا كان يبدو كلام الأستاذ في ظاهره منطقيا ومنسجما مع المرجعية نفسها التي ينطلق منها دعاة “التجريم”، فإنه عند التحقيق سيتهافت أمام قطعيات العقيدة التي يدين بها المسلمون، كما سنبينه بعد إبداء جملة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أننا في عصر الإرهاب العابر للقارات، ومنه الإرهاب الديني الذي يتوسل بالعنف ضد المخالف، فهو عاجز عن المنازلة الفكرية وتقديم البراهين والحجج في نقد الرأي الآخر؛ هذا الآخر الذي يلجأ أحيانا لمنطق الاستفزاز والاستهزاء والتهكم على قطعيات الدين ورموزه وأشخاصه باسم الحداثة والإبداع وكسر الطابوهات، وهذا بالطبع يستفز المومنين بتلك القطعيات، فيلجأ بعضهم -وهم قلة- للعنف والتكفير والتفجير، وهذا فيه ترويع للمجتمع وإدخاله في متاهات الصراع الديني أو الطائفي أو المذهبي، فجاء هذا القانون لمنع هذا الاحتراب داخل المجتمع، وقد بيّن وزير العدل والحريات هذا القصد حين صرّح أن أحداث “شارلي إيبدو” كانت وراء اقتراح هذه القوانين الجنائية.
الملاحظة الثانية: هذا القانون لا يستهدف الملحد أو المنكر للنبوة أو المشكك في نسبة القرآن إلى الله، أو الناقد لسياسة الخلفاء، بما فيهم الراشدون، إذا كان في نقاش أكاديمي جاد، بعيدا عن الاستهزاء والنيل الرخيص من الرموز الدينية، لأن استهداف مثل هذا النقاش لا يمكن تصنيفه إلا في خانة مصادرة الرأي الآخر، ودفن للشبهات في رؤوس أصحابها، وليس هذا من مقاصد الإسلام، الإسلام دين الحجة والبرهان، قال تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، ومن الواجب على العلماء والمفكرين الإسلاميين الدخول في سجال فكري عميق مع الملاحدة دون مصادرة حقهم في طرح شبهاتهم..
وقد عرف التاريخ الإسلامي منذ الصدر الأول نقاشات فكرية عميقة مع النصارى واليهود والفلاسفة وذوي الثقافات الوافدة بعد توسع الفتوحات الإسلامية، ونشأت مذاهب وفرق كلامية، منها من ينكر بعض صفات الخالق سبحانه، ومنها من يعتبر بعضها مخلوقة، ومنها من يميّز بين الذات والصفات، ومنها من ينكر القدر، ومنها من ينسب لله العجز أو أنه لا يعلم الجزئيات حتى تقع، وهذا كله إلحاد في أسماء الله وصفاته، وكتب الكلام والفلسفة مليئة بالسجالات الفكرية، والحوار بالدليل والبرهان ورد شبهات الملحدين، بينما اللجوء للعنف كان استثناء من القاعدة.
فهل يعقل أن نلجأ في عصرنا هذا، وهو عصر المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان والتعددية، إلى التضييق على الفكر المخالف؟
أما أن يأتي من يسب الله والرسول والملائكة أو يستهزئ بهم، ويسمي ذلك إبداعا أو نقدا مسرحيا أو رسما كاريكاتوريا، أو يسب الصحابة ويتهمهم بالخيانة والردة، أو يقذف أمهات المومنين: عائشة وحفصة.. فهذا مجرم، وليس مفكرا ولا ناقدا ولا باحثا عن الحقيقة ولا فيلسوفا، ولابد أن يكون للقانون الجنائي موقفا صارما معه حتى لا يأتي من يفتئت على السلطة فينتقم منه تكفيرا وتفجيرا.
لا أحد يقدر على الإساءة إلى الله:
الإساءة إلى معتقدات المومنين، ليست إساءة إلى الله حتى نطالب الناهي عن هذا المنكر بالكف عن ذلك زعما أن الله قادر على الدفاع عن نفسه، وليس في حاجة إلى من يدافع عنه، كما يزعم الأستاذ صلاح بوسريف، بل هي إساءة إلى المجتمع الذي يحتضن هذه المعتقدات ويعتبرها مقدسات.
قال تعالى: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، قال الإمام أبو جعفر الطبري عند تأويلها: “وَكَذَلِكَ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ، لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ عَاصٍ، وَلَا يَتَحَيَّفُ خَزَائِنَهُ ظُلْمُ ظَالِمٍ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مُطِيعٍ، وَلَا يَزِيدُ فِي مِلْكِهِ عَدْلُ عَادِلٍ، بَلْ نَفْسَهُ يَظْلِمُ الظَّالِمُ، وَحَظَّهَا يَبْخَسُ الْعَاصِيَ، وَإِيَّاهَا يَنْفَعُ الْمُطِيعُ، وَحَظَّهَا يُصِيبُ الْعَادِلُ”؛
وهذا أصل كبير من أصول العقيدة، دلت عليه نصوص كثيرة، منها قوله تعالى في هذه الآيات البينات:
(ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)؛
(وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد)؛
(إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر)؛
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)؛
(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ،وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، إنهم لن يضروا الله شيئا).
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه: (يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا؛ يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
وجاء في خطبة الحاجة عن ابن مسعود: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا) رواه أبو داوود بسند صحيح.
والحاصل أن الله في غنى عمّن يدافع عنه والمعاصي لا تضره، بل تضر المتلبس بها، في حين الناس في حاجة للدفاع عن معتقداتهم ووضع القوانين الزجرية لمن يستهزئ بها أو يسب الله ورسله أو يمزق قرآنهم أو يدنّس آياته بأي صورة من صور التدنيس، وهذا حصل في مناسبات عدة لابد من وضع حد لها، والله أعلى وأعلم.