بين نسبة التمدرس والجودة، أي تعليم نريد؟
ذ.الحسن العسال
الإثنين 23 شتنبر 2013م
إن إشادة صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة بالتقدم الذي أحرزه المغرب في مجال التعليم،خصوصا فيما يخص نسبة التمدرس هو الأكمة التي تخفي أدغال المشاكل التي تتخبط فيها منظومتنا التربوية،لأن ارتفاع نسبة التمدرس، وإن كان مطلوبا وضروريا لدفع قطار التنمية إلى الأمام، إلا أنه في المغرب أضحى سيفا ذا حدين، الحد الأول هو تعميم التمدرس، والحد الثاني، هو استغلال هذا الارتفاع للإجهاز على الجودة، لأن هم الإدارة يصبح عدد الناجحين، دون الالتفات إلى كيفية نجاحهم، وتعليم كمي دون كيف، لا يخرج إلا جيوشا من المعطوبين تعليميا، لا هم متعلمون، ولا هم أميون، أو قل هم أميون في ثوب متعلمين.
إذن، كيف يمكن حل هذه المعادلة المكونة من عنصري الكم والكيف؟ أي كيف يمكن تحقيق الجودة بالحفاظ على نسب عالية في جميع الأسلاك؟ أو هل يمكن، ابتداء، الجمع بين الجودة ونسبة التمدرس العالية؟ أي، هل إذا اضطررنا إلى التضحية بأحد عنصري المعادلة، ينبغي أن يكون تفكيرنا لحظيا مرحليا، أم استراتيجيا بعيد المدى؟
إن الواقع التعليمي الآن يسفر عن تفكير مرحلي قصير المدى والنفس معا، لأنه يراهن على الكم، مضحيا بالجودة، يحتفي بالأعداد، دون النظر إلى الكيفية التي حصلنا بها عليها، إرضاء للمؤسسات الدولية، كي تدغدغ مشاعرنا بالمدح الكمي، وترضي غرورنا الأجوف بعدد المتخرجين.
وإن من مخلفات الاعتماد على الكم دون الكيف، والذي يعد من مؤشرات فشل هذه المقاربة، هو الانقطاع والهدر المدرسيين، لأنه لا يمكن إلقاء المسؤولية على البنية الثقافية والمستوى الاجتماعي للأسر، تهربا من وضع الأصبع على الداء الحقيقي، فلو كانت هناك جودة لما وصلت النسبة إلى ما وصلت إليه من التسرب المدرسي، لأن التلميذ الذي ينتفع بما يدرس، يتمتع بدراسته، ولا يدور بخلده أن يهجرها إلى مكان آخر، فكثير من التلاميذ لهم رغبة في الدراسة، لكنه يجد نفسه، يتسلق سلم الأسلاك دون أن يحس من نفسه أنه يستفيد، أو يستحق ذلك النجاح، مما يجعل الفصل بالنسبة له سجنا تهدر فيه كرامته، لأنه أقل من مستوى أقرانه.
إذن كيف يمكن الحصول على تعليم جيد؟
إن أول خطوة تضعنا على سكة الجودة هي إبعاد التربية والتعليم كليا عن المزايدات السياسية، التي ما دخلت حقلا إلا أفسدته.
والأمر الثاني هو ممارسة السيادة حقا وصدقا، وعدم الارتهان إلى الفرانكفونية، بل علينا تنويع مصادر الاستفادة من التجارب الناجحة في التعليم، دون استنساخها استنساخا ميكانيكيا، مما يجعل منها نسخة مشوهة لواقع مختلف عن واقعنا من حيث الثقافة والتاريخ والميولات والاتجاهات، وإذا أردنا النظر بحيادية وتجرد إلى الواقع التعليمي العالمي، فإن التجارب الناجحة تتمثل في التجربة الفنلاندية والتجربة الكورية الجنوبية والتجربة اليابانية.
إن الاستئناس بهذه التجارب لا يعني استنساخها إبراء للذمة، واستعجالا لقطف الثمار التي لن تنمو، مادامت بعيدة عن بيئتها الأصلية، ولم يستفرغ أي جهد في “تبييئها”، وتكييفها حسب الخصوصيات والإمكانيات والواقع الفعلي، عوض البناء على الأمل المنشود، وتحرير مقررات وبرامج تبلغ نجاحها في المسودات دون أن تتعداه إلى الحياة الفعلية.
والأمر الثالث الذي يحفظ كل تجربة من الفشل هو عدم استعجال الثمار، لأن بناء الإنسان يحتاج وقتا طويلا نظرا لتعقيد الظاهرة البشرية، وتعدد المتغيرات المتحكمة في سيرورتها، فلا يكفي عشرية للنهوض بالتعليم، خصوصا وأن العوائق متعددة ومتشابكة، والإمكانيات الظاهرة محدودة، وإلا فإن الإمكانيات المحتملة، يمكن استخراجها، إذا ما حددت الأولويات بدقة، وتم عقلنة وترشيد منابع ومصاب صرفها، من قبيل تحفيز المستثمرين في الاستثمار في التعليم عوض الاستثمار في “موازين” مثلا، وإقامة مؤتمرات وندوات دورية لصالح النهوض بالتعليم، عوض إغراق المغرب بمهرجانات الموسيقى والأفلام. فكوريا الجنوبية وضعت ثلاث شروط لإنجاح تجربتها، ومن ثمة تقوية اقتصادها، مادام التعليم قاطرة للتنمية، وكان من بين هذه الشروط مواصلة الدولة لدعمها في التعليمواستثمارها فيه.
والأمر الرابع هو الحسم مع الازدواجية اللغوية، واعتماد اللغة العربية في التدريس، لأنه ما من أمة نهضت إلا باعتماد لغتها الأم، أما اللغات الأجنبية فهي للتفتح، وليست للتفكير والتدريس، واللغات الأجنبية تختار على أساس انتشارها واعتمادها عالميا، لا على أساس التبعية التي خلفها الاستخراب خلفه.
وهذا يجرنا إلى وجوب الحسم في مسألة الهوية، لصالح هويتنا الإسلامية، لأن اعتماد الهوية الغربية، المغلفة بالكونية، لن تجعل منا أمريكيين أو فرنسيين، بل ستجعل منا شعبا ممسوخا، يترنح ترنح المخمر، بين الهوية والانسلاخ، هذا الأخير الذي سيشغل الشعب بإعادة التوازن عوض التفكير والعمل على تطوير التعليم.
علينا أن نحدد ماذا نريد من تعليمنا، هل نريد أن نكون شعبا استهلاكيا، عالة على الأمم، ظانين أننا باقتنائنا لأفخر الأجهزة، وحتى استعمالها، نكون قد بلغنا شأوا في التقدم؟ أم نريد أن نكون شعبا ينتج غذاءه وآلاته، شعبا يولي الاهتمام المستحق البحث العلمي، كي نتخلص من نير الإمبريالية الجديدة القديمة.