حوار متوهّم حول مهرجان «موازين»
هوية بريس – د. البشير عصام
الخميس 28 ماي 2015
س: أما زلت تعترض على هذا المهرجان، وتنكره؟
ج: نعم. وهل تغير فيه شيء يقتضي أن أغير فيه رأيي؟
س: فقل لي: لِمَ تعارضه؟
ج: لأسباب كثيرة منها: أن المعازف محرمة عند جماهير العلماء، وعلى رأسهم المالكية، وأن المعازف التي يشوبها كلام فاحش أو رقص ماجن محرمة بإجماع العلماء. ومنها: ما يقع فيه من الاختلاط القبيح الذي لا يقره ذو عفة. ويقترن ذلك بحوادث عهر واختلاط وسكر وغير ذلك.
س: لكنني لم أرك عرّجت على أسباب أخرى يتداولها بعض الناس، مثل: هدر الأموال مع عظيم حاجة الشعب إليها، وموافقة المهرجان لوقت الإعداد للاختبارات المدرسية، والصخب المبالغ فيه الذي هو إزعاج لعموم الناس، ونحو ذلك. فهل تنكر هذه الأسباب؟
ج: لست أنكرها، ولكنني أقول: إن تعصيب الجناية بهذا وحده، دون التفات لجانب المخالفة الصريحة للقيم الدينية، مبني على فهم علماني، صار آخذا في الانتشار اليوم، حتى داخل صفوف الإسلاميين.
س: فما الإشكال في تبني هذا السبب أو ذاك، ما دامت النتيجة واحدة، وهي إنكار الفعل؟
ج: إلى جانب المعنى النظري الذي قدّمته، فإن لديّ مشكلتين في الأمر. المشكلة الأولى: أن القياس يقتضي أن ما لم تقترن به مفسدة مادية لم يكن لنا أن نطالب بمنعه، ولو كان واضح التحريم في الشرع. وهذا قياس واضح، يقتضي مثلا إباحة الزنا عن تراض بين الطرفين إذا ضمنّا عدم الوقوع في اختلاط الأنساب ولا في الأمراض الجنسية؛ وإباحة الخمر بجرعات يسيرة لا تؤدي لمرض ولا سُكْر، وهلم جرا!
س: اتركني من هذه الأمور الأخرى التي تحشرها قسرا في نقاشنا، بقياسك هذا! وأخبرني: ألا نكون -بالأسباب المادية التي نتبناها- قد ربحنا على الأقل منع هذا المهرجان؟
ج: ليس كذلك. وهذه هي المشكلة الثانية التي لم تمهلني أن أشرحها لك! وهي أن هذه الأسباب التي تتذرعون بها يجدون عليها أجوبة كثيرة -بقطع النظر عن صحتها- كأن يقولوا: المال ليس من خزينة الدولة وإنما هو من المستشهرين، ونحن لا نجبر طلبة المدارس على الحضور فليذهبوا إلى دراستهم، إلخ.
وأما سؤال الحل والحرمة بميزان الشرع، فليس عندهم جواب مُقنع عليه – إلا بتكليف علماء السوء الذين لا يخفى حالهم على أحد!
س: طيب. وعلى ذكر عدم الإجبار على الحضور، قل لي: كيف تنكر شيئا يحضره عشرات الآلاف من الناس بمحض اختيارهم؟
ج: ومتى كانت الكثرة العددية معيارا للحق؟ حتى في الدول العريقة في ديمقراطيتها، هنالك أصول عليا لا يمكن للكثرة العددية أن تغيّرها!
فلتفترض معي أن مائة ألف من الفرنسيين اجتمعوا في مهرجان خطابي عنصري ضد السود أو اليهود، أكانت الدولة الفرنسية تسمح بذلك بدعوى كثرة الراغبين فيه؟ فيا ترى، لِمَ نسمح بما يخالف الشريعة الإسلامية بدعوى وجود عدد من الناس يريد ذلك؟
وفي بلدنا هنالك عشرات الآلاف أيضا يمارسون الدعارة ويتناولون المخدرات. فهل نسمح بذلك أيضا؟
وأزيدك: بالمقياس الديمقراطي الخالص، الكثرة لا تقتضي الأكثرية. فهل سبرتم آراء الناس جميعهم، لتعرفوا رأيهم في الموضوع، أم تكتفون بمن يحضر؟!
س: على كل حال: لا تضيّعْ جهدك في الإنكار. فقد أنكر غيرك ولم يصلوا إلى نتيجة. إن المدّ أكبرُ من أن يحاول فرد أو جماعة احتواءَه ومنعه!
ج: الواجب عليّ أن أنكر، ولست مسؤولا عن النتيجة!
أنا أنكر لأن هذا مقتضى الأمر النبوي بالنهي عن المنكر لمن استطاع، في حدود قدرته. وأنا أحب إذا جاء يوم الحساب وسُئلت: ”ماذا صنعت حين رأيت المنكر أمامك”، أن أجيب: ”بذلت وسعي في الإنكار”. ولا أحب أن يكون جوابي: ”لم أنكر المنكر، لأنه لا فائدة من الإنكار!”.
س: حين تطالب بمنع المهرجان، فأنت تعمل له ”دعاية مجانية” لأن كل ممنوع مرغوب. والمنع في زمننا لا يجدي شيئا، فنحن في زمن الانفتاح، والعالم صار ”قرية صغيرة”!!
ج: من العجيب أن يكون بعض المسلمين ”أكثر ملكية من الملك”، فيتشبعوا بهذه المبادئ في الوقت الذي يتنكر لها الغربيون أنفسهم.
المنع -يا صديقي- معمول به في بلاد العالم كلها. وفي الغرب خصوصا، وصل المنع إلى الأفكار والتعبير عنها، بعد أن كان منع الأفعال مقنّنا عندهم منذ زمن بعيد. (ولست بحاجة إلى أن أعرض عليك لائحة الأفكار التي لا يمكن تبنيها أو الجهر بها في الغرب).
وماذا لو قلت لك: لا ينبغي منع ”البيدوفيليا” و”استهلاك الحشيش”، لأن كل ممنوع مرغوب؟
س: اتركني من هذا. الحل في نظري أن تقدم البديل، بدلا من أن تكتفي بالإنكار..
ج: القوم أذكى منك وقد سبقوك فأدخلوا في مهرجانهم ما تسميه أنت بديلا!!
أليس البديل في نظرك هو ”الغناء الإسلامي”، و”المعازف الدينية”؟ فقد أدخلوا هذا كله، وخلطوه بغيره، عملا بأصول الحرّية الشخصية المعروفة في دين العلمانية: من أراد شيئا وجده!
ثم إن البديل ليس دائما ممكنا متاحا. فما البديل عن الخمر؟ أهو عصير العنب يا ترى؟ وما البديل عن الدخان؟ أهو الشكولاتة مثلا؟
واعلم -يا صاحبي- أن البديل المباح لا يمكن أن يصل إلى درجة الممنوع في تحقيق شهوات النفس المحرمة. ولو كان لكل محرم بديل مباح يقوم مقامه من كل وجه، لاكتفى المسلم بهذا البديل، ولما احتاج إلى لجم نفسه، وقمع هواه، وكبح جماح شهوته؛ ولما كان هنالك تكليف وجزاء وثواب وعقاب!
وسيبقى الحوار مستمرا، ما دامت آلة تفريخ الشبهات تعمل دون كلل..
والله الموفق.