التمييز العنصري.. مجددا؟؟
عيسى بنكرين
هوية بريس – الثلاثاء 24 شتنبر 2013م
ارتبط مصطلح التمييز العنصري بداية في أول ظهور له، مع ما كان يمارسه المواطنون الأمريكيون البيض، من ممارسات عنصرية كانت تطال المواطنين الأمريكيين السود، بحيث اضطر هذا الأمر أن تصدر الولايات المتحدة الأمريكية قانونا يعاقب على ممارسة الميز العنصري ضد السود في أمريكا، وذلك من خلال إعلانها العالمي لحقوق الإنسان؛ إلا أن هذا الأمر لم يحد من الممارسات العنصرية في أمريكا وكذا أوربا.
وهذا ما يؤكده س. ر. ملز C. R. MILLSفي كتابه بعنوان صفوة القوة “The Power Elite“؛ وحقوق الإنسان غير مطبقة فعلياً في أمريكا بدليل استمرار التمييز العنصري والصراعات العرقية في أوروبا وأمريكا، وزعماء الغرب يؤكدون أن إعلان حقوق الإنسان لم يوضع لسكان إفريقيا السوداء، وهذا ما أعلنه أحد رؤساء الحكومة الفرنسية وهو جون فيري، وموقف الغرب من مسلمي البوسنة والهرسك يعكس حقيقة فهم حقوق الإنسان في الغرب، ونفس الأمر تعكسه ثورات وتمرد العرقيات المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية[1].
وهذا الفهم يهم المجتمع الغربي وما يعيشه من تخبط بين حمايته ورعايته لحقوق الإنسان من جهة، وبين العمل على حفظ مصالحه في العالم عموما من خلال ممارسة الوصاية الفكرية على الدول المستضعفة أو التي تدخل تحت سيطرتها بالأحرى، من جهة أخرى، فإذا تعارضت مصالحها مع رعايتها لحقوق الإنسان فإنها غالبا ما تقدم مصالحها الاستراتيجية.
وأود في هذا المقال أن أنوه إلى تمييز عنصري جديد، بدأ يظهر أو أنه ظهر، في بلاد المسلمين بل بين المسلمين الذين يخاطبهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ” الروم:22؛ ويخاطبهم سبحانه بقوله أيضا: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات:13؛ فالله جل وعلا يخاطبنا بأن نتعارف مع باقي بني البشر، ولم لا؟ الاستفادة من تجاربهم وخبراتهم في ميادين العلم والاختراع والابتكار، وكذا التعارف الذي يفضي إلى قول كلمة الحق ونشر دعوة الإسلام في مختلف الأقطار والأمصار، ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وكذلك من كان في حكمهم، ولم يفضل الإسلام بين بني البشر في شيء، بل جعلهم سواسية تحت حكم شريعة الإسلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى”[2].
واستدعوا التاريخ ليحدثكم عن أيام المجتمع الإسلامي في زهوه وقوته وعندما كان المسلمون يحكّمون شرع ربهم في أنفسهم، يقول محمود شاكر في كتابه التاريخ الإسلامي: “والسمة العامة للمجتمع الإسلامي عندما يحكمه شرعه ألا فوارق ولا طبقات توجد فيه، وإنما مساواة تامة، لا مساواة شعارات، أو مساواة نسبية، حسب مراكز السلطة ومقامات الأفراد، وإنما هي مطلقة. وإذا بحثنا المجتمع على أساس أقسام، فإنما هو لإعطاء الصورة الواضحة له ومعرفة الخطوط العريضة، وليس يعني هذا أن هذه الأقسام هي طبقات متباينة يتميز بعضها عن بعض بالواجبات والمسؤولية، وإنما جميعها ذات حقوق واحدة، وواجبات واحدة، ومسؤولية واحدة، وهي أمام الشرع واحدة، لا يختلف في ذلك رأس السلطة الذي هو الخليفة عن أدنى رجل في المجتمع حتى أهل الكتاب من الذمة”[3].
وإذا استدعينا التاريخ واستنطقناه وجعلناه شاهدا، لحدثنا بصدق عن أيام المساواة الحقة التي عاشتها الإنسانية وشهدها العالم في ظل الخلافة الإسلامية، فهاك طرفا منها؛ بحيث يُهدر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيَّ تفرقة بين مسلم وغير مسلم، ويتضح هذا عندما أمر أن يقتص أحد أقباط مصر من محمد بن عمرو بن العاص؛ -والي مصر- عندما ضربه.
وقد رُوي أن محمدا بن عمرو بن العاص ضرب مِصريًّا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصريَّ؛ مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت المصري من محبسه ذهب إلى المدينة، وشكا لعمر بن الخطاب ما أصابه، فاستبقاه عمر بن الخطاب -المصري- في المدينة.
واستقدمَ عمرو وابنه من مصر – طلب من عمرو بن العاص وابنه أن يأتيا إليه في دار الخلافة -ودعاهما إلى مجلس القصاص، فلما مثُلا فيه، نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة -وهي عصا يَضرب بها- فاضرِبْ بها ابنَ الأكرمين؛ فضرب المصري محمدًا حتى أثخنه، وعمر يقول: اضْرِبْ ابنَ الأكرمين، فلما فرغ الرجل، وأراد أن يرد الدرة إلى أمير المؤمنين، قال له: ضعها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه، قال عمرو: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت، واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربتُ من ضربني، وقال عمر: إنك والله لو ضربتَه ما حُلنا -أي ما منعناك- بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمرو غاضبًا، وقال: أيا عمرو! متى تعبَّدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا؟![4]
ونحن نجد اليوم بعض المفكرين والمثقفين من بني جلدتنا يقفون موقف المشدوه الحائر أمام هذا الزخم الهائل والكم الكبير من التضليل والتزييف الإعلامي الذي يروم تشويه صورة الإسلام في أذهان الكثير من المسلمين، بحيث يجدون حرجا شديدا في أن يكونوا في صف واحد مع (الإرهاب). ولقد لقينا منهم من يخاف حتى من المرور إلى جانب شاب ملتح، أو شيخ معمم يمشي هادئا على قارعة الطريق.
وفي حوادث شتى وجدنا من يفزع من عقيدة الإسلام؛ لأنها في مخيلته -كما تلقاها عن الإعلام العلماني والغربي المتصهين- عقيدة الموت، أو (أيديولوجيا العدم) كذا![5]؛ رحمك الله شيخنا فريد؛ توصيف دقيق لحالة تطورت حتى صار في هذا العصر الذي يفترض فيه أنه عصر حقوق الإنسان بامتياز، وجدنا أن الميز العنصري أصبح يمارس بين الإخوة في الدين والوطن واللغة، وقد يكون بين إخوة النسب، في أحيان كثيرة، يمارس بنوعية أخرى، وبطريقة أقبح، فبمجرد إعفاء الشاب المسلم لبعض شعرات وجهه تجملا وتسننا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمجرد تحلي الفتاة المسلمة بزينة الحجاب، أو ببهاء النقاب، فإنهما يصبحان معرضان لحملة عنيفة من قبل المجتمع، حملة تمييز عنصري جديدة؛ فالمنقبة مثلا، لا يحق لها أن تلتحق بالتعليم الجامعي في بعض دول العالم ولو كانت محصلة على أعلى درجات التفوق الدراسي، لا لشيء، إلا لكونها اختارت النقاب سترة لها؟؟!!
والشاب الملتحي قد يمنع من العديد من مناصب الشغل، أو يطرد تعسفا من شغله، رغم أن له كفاءة عالية في أداء عمله، وإتقانا عاليا لمهمته، فيطرد لا لشيء، إلا بسبب إعفاء لحيته تشبها بسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ليس هذا فحسب؛ بل قد ينتقل الأمر إلى حد السب والشتم والسخرية، بل وإلى إلصاق التهم به في كثير من الأحايين؛ فهل أصبحنا نعيش عصرَ تمييزٍ عنصريٍ جديدٍ؟؟ وأنا أسأل هنا استنكارا، لا استفهاما أو استغرابا.
بل الأدهى والأمر من ذلك كله أن يعامل الإنسان (الذي لم يعف لحيته لسبب من الأسباب، أو التي لم تستر جميع بدنها)، معاملة قاسية، لا لشيء، إلا أن له عقائد، يراها صوابا وحقا، فيقوم بواجب الدفاع عنها، فإذا به يقابل بنفس التعامل اللاأخلاقي والذي يقوم على إقصاء الآخر وعدم اعتباره، وبدون أن يشعر يمارس معه ميزا عنصريا، في زمن حقوق الإنسان، للأسف!
ولا تحسبن -أيها القارئ الكريم- أنني في هذا المقام أسلك سبيل الإعلام العلماني، في تضخيمه للنسبي وتهويله للجزئي، كما فعلت بعض منابره حيث أطلقت ولا زالت عبارات وإعلانات وبرامج تحرض على سب وشتم المسلمين وخصوصا من أظهروا حبهم لهذا الدين العظيم وامتثلوا أمر رب العالمين، وفي الأخير تبقى هذه اختياراتهم ومن منطلق حريتهم، فلا يحق لأحد التدخل في ذلك، إلا بالنصح والإرشاد إذا تعلق الأمر بسفور أو تبرج لأنه مخالف لأحكام شريعة الإسلام؛ ولكن القصد من هذا المقال إنما هو الإشارة لهذا الموضوع لخطورته، ولأثره البالغ في تفكيك عناصر المجتمع، وتشتيت أواصر الأخوة في الله وفي دينه التي تجمع المسلمين في مختلف أقطار عالمنا الفسيح، مما قد يؤدي إلى توليد حالة احتقان خطيرة قد تردي المجتمع إلى نتائج لا تحمد عقباها.
وكأني بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يصيح بهؤلاء المدعين لحقوق الإنسان، المدافعين عنه، المحاربين للميز العنصري، زعموا! قائلا: متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
[1]– مجلة البيان، العدد 86؛ مقال بعنوان: التنمية بين المشروع الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، لأ. د. نبيل السمالوطي.
[2]– صحيح، انظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، للإمام الألباني.
[3]– التاريخ الإسلامي، 3/195.
[4]– التاريخ الإسلامي، محمود محمد شاكر، 3/200-201.
[5]– جمالية الدين، للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، ص: 8.