«الأدوار السياسية لعلماء المغرب».. أية إضافة في تحقيق مخطوط المفاكهة؟
هوية بريس – مصطفى الحسناوي
الأحد 14 يونيو 2015
ينصرف ذهن كثير من الناس إلى أن تحقيق المخطوطات، عمل لا ينهض به إلا علماء الدين وطلبة العلم الراسخين، رغم أن تراثنا المخطوط لا يقتصر على كتب العلم الشرعي من تفسير وحديث وفقه وغيره، بل يتعداه إلى كتب اللغة وعلومها والطب وتخصصاته، والعلوم المحضة من رياضيات وكيمياء والعلوم الإنسانية والتاريخ والجغرافية والمنطق والفن والفلك، والمشتغل من المحققين على تخصص من هذه التخصصات، يشترط فيه ما لا يشترط في غيره.
بين أيدينا مخطوط “مفاكهة ذوي النبل والإجادة حضرة مدير جريدة السعادة” عبارة عن رد على مقالات وسجالات صحفية، وهو بنفسه نشرة شبه صحفية، تؤرخ لتجربة صحفية مبكرة في تاريخ المغرب خاضها نخبة من العلماء والمثقفين، بنشر المقالات والردود في الصحافة العربية، أو بوسائل فردية بسيطة، تتجلى في إصدار نشرات شبه صحفية، في ظروف قاهرة، كانت أولاها في مدينة فاس، قياما منهم بالواجب في معركة العقيدة والقيم والهوية، حين أدركوا أن الإعلام ساحة أخرى من ساحات الصراع، لمواجهة الحرب الإعلامية التي خاضتها فرنسا وأذرعها في المغرب، ممن يحملون مشروعها وينافحون عنه، سواء لبسوا لباس الحاكم والسلطان، أو تدثروا بدثار الزهد والتصوف، أو تزيوا بزي الصحفي والمثقف. فقد كانوا (ولازالوا) يؤسسون لمشروع فكري وثقافي وسياسي غريب عن عقيدة وقيم وهوية المغاربة.
الوثيقة التي بين أيدينا للشيخ عبد الحي الكتاني، أحد رواد تلك النخبة المثقفة العالمة المناضلة المجاهدة، التي كانت لها صولات وجولات ومساهمات ومشاركات على كل واجهات المعارك العسكرية والسياسية والإعلامية.
واختياري لهذه الوثيقة لدراستها وإخراجها للقراء، بالإضافة لدوافعه القيمية والهوياتية التي أزعم أني متشبع بها، وأخوض معاركها، لدرجة أني أدفع حريتي داخل سجون الظلم ثمنا لها، فإنه اختيار له أسباب أخرى تتجلى في تموقع هذه الوثيقة ضمن مجالات اهتماماتي المعرفية والمهنية.فهي وثيقة تاريخية تؤرخ لحقبة مهمة من تاريخ المغرب، ذلك التاريخ الذي يأسرني ويستدرجني لخوض بحاره الممتعة قراءة وتأملا.
وهي وثيقة نفيسة في السياسة الشرعية بطابعها المغربي وأيضا المالكي، والسياسة الشرعية مجال من مجالات اهتمامي، تشبعت بمفرداته ومصطلحاته ومفاهيمه ونظرياته، داخل الحركة الإسلامية التي نهلت من أدبياتها القديمة والمعاصرة، منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، واستطعت بلورة رؤيتي المتكاملة تجاهها.
الوثيقة أيضا عمل صحفي، أو هي حبة في عقد العمل الصحفي المبكر مطلع القرن العشرين، بل هي واسطة عقده. وهذا الذي شجعني على تحقيقها ودراستها وتقديمها للقراء. بطعم غير طعم التحقيق المعروف، طعم الصحفي الذي يتناول عملا صحفيا بالتحقيق، لقد حاولت أن أطبع العمل بطابع القلم الصحفي، رغم صعوبة المهمة، بدءا من اختيار العنوان وانتقاء ألفاظه المعبرة التي تلخص المضمون، ثم حاولت جاهدا أن أجد للصحفي مساحات في عمليتي الدراسة والتحقيق، وتخيلتني في لحظات أقدم عملا يقترب في بعض جوانبه من صحافة التحقيق والاستقصاء، بالنبش في بعض الألغاز ، والتنقيب في مكوناتها وعناصرها، ومحاولة فك شفرتها.
أو أقوم بتغطية صحفية لتلك الأحداث الغابرة، متخيلا نفسي وسطها، محاولا الإجابة عن كل الأسئلة التي قد تتبادر إلى ذهن القارئ، بشأن تلك الوقائع المدلهمة، مع الالتزام حينا بالتغطية المحايدة، من عرض للحقائق والمعلومات فقط، خالية من أي ذاتية أو تدخل، على قاعدة الخبر مقدس والتعليق حر.
وبالتغطية التفسيرية حينا آخر، وذلك بعرض المعلومات المساعدة لتفسير حدث معين وتحليل أسبابه ودوافعه، ولا يمكنني ادعاء حياد مزعوم موهوم، إذ لابد لأي إنسان من موقف ورأي، وهذا ما عبرت عنه فيما يشبه التغطية الصحفية المنحازة، بالتركيز على جوانب من الحدث، أو بتبني رواية تتفق مع قناعاتي أو قامت الأدلة والقرائن والشواهد على صدقها.
لقد كان الشرع هو المحرك والمؤطر للنخبة المثقفة آنذاك، وكانت هذه النخبة المكونة من العلماء والدعاة، تصارع على عدة جبهات وواجهات، في سبيل استقلال الأمة سياسيا وثقافيا وفكريا واقتصاديا، فخاضت لأجل ذلك، المعارك العسكرية وأطرتها ووجهتها، والمعارك السياسية، مراقبة للحكام ونصحا وتوجيها وإنكارا ومعارضة وعزلا. في سبيل إبقاء السلطة السياسية مستقلة عن أي تسلط أو تبعية أو توظيف خارجي.
إن هذا الطبق الدسم والمتنوع، من الأحداث والوقائع والحقائق التاريخية، والنصوص والفتاوى والاجتهادات الشرعية والفقهية، والمساجلات الصحفية، والمواقف البطولية النبيلة، والمؤامرات والمواقف المخزية، هو ما حاولت تقديمه للقراء خدمة للحقيقة، مدفوعا بالفضول الصحفي، موظفا بعض آلياته، فيما يتيحه موضوع بهذا الشكل وهذا الحجم، ملتزما بما ذكرته في بداية هذا التقديم.
ومن عجائب الأقدار، أني كنت بدأت هذا البحث في رمضان 2008، وأنهيته في رمضان 2009، وكنت كل مرة أجري عليه تعديلا، وشاء الله أن يستقر نظري على إخراجه بهذا الشكل، بعد آخر مراجعة في رمضان 2014، بعد خمس سنوات من الانتهاء منه، وهاهو يطبع وأعد له هذا التقديم على بعد أيام من رمضان 2015، بعد سبع سنوات من بدء الاشتغال عليه، متمنيا أن يكون لقائي مع القراء في تقديم مباشر وتوقيع للكتاب، في رمضان السنة المقبلة 2016.
ومتمنيا أيضا ألا يبخل علينا أساتذتنا وأهل الاختصاص والمهتمين بنقدهم وتوجيههم وملاحظاتهم، وأترككم مع الطبق الدسم قبل أن يفقد نكهته: “الأدوار السياسية للعلماء” محطات تاريخية في المشاركة والمعارضة واختيار الحاكم وإقالته.