والآن ورقة المياه.. سلاح استراتيجي لـ«داعش» في مواجهة أعدائه
هوية بريس – متابعة
الإثنين 15 يونيو 2015
يستحوذ تنظيم الدولة الإسلامية على جغرافية متصلة من الأنبار إلى الرقة في سوريا، بعد إزالة الحدود بين البلدين، وقد أدرك هذا التنظيم المعروف باسم “داعش” أهمية استغلال ورقة المياه، واستخدامها لصالح مشروعه واستراتيجياته، وتُعدّ الرقة مركزاً أمنياً وعسكرياً وإدارياً للتنظيم، وتقع على مسافة أقل من أربعين كيلومتراً جنوب سدّ الفرات الذي يضمُّ أكبر خزانٍ للمياه في بحيرة الأسد.
وتعتمد المناطق المتمركزة جنوب البحيرة على المياه المتدفقة عبر بوابات سدّ الفرات في ري مزارع القطن التي تعد المورد الاقتصادي الأول لمزارعي تلك المناطق، وقد تكون هذه الميزة بين أسباب عدّة تدفعهم إلى كسب ود ورضا التنظيم، وتقليل فرص تشكيل قوى مناوئة له.
في سياسةٍ متوازيةٍ، يسعى تنظيم الدولة للاستحواذ على أهم ورقتين يمكنه استثمارهما ضمن استراتيجياته بعيدة المدى، وهما ورقة النفط وما تشكّله من أهميةٍ في تمويل عملياته القتالية، وإدامة زخم الحياة اليومية للسكان الخاضعين لسلطاته، وورقة المياه التي تزداد أهميتها لتعلقها بحياة السكان اليومية.
أوائل أبريل من عام 2014، كان تنظيم الدولة الإسلامية قد أغلق سد النعيمية، جنوب مدينة الفلوجة، وهو السد الأقرب إلى العاصمة بين أربعة سدود على نهر الفرات ضمن الحدود الإدارية لمحافظة الأنبار، كما أنّه السد الأول الذي يقع تحت سيطرة التنظيم، بعد السيطرة على مناطق زوبع والزيدان على الأطراف الغربية للعاصمة، فيما ظلّ معسكري طارق والمزرعة، 22 كيلومتراً شرق الفلوجة، تحت سيطرة القوات الأمنيّة.
سبق لتنظيم الدولة الإسلامية أن استخدم ورقة المياه بعد سيطرته على سد النعيمية، جنوب مدينة الفلوجة أواخر الشهر الأول من عام 2014، وعن هدف التنظيم من السيطرة على هذا السد، يقول أحد مقاتلي تنظيم الدولة الذي كان يعمل في مجموعة حراسة البوابات لـ“التقرير”، “كان الهدف عسكرياً بحتاً، كنّا على علم بأنّ القوات الحكومية تنوي شنّ هجومٍ واسعٍ لاستعادة السيطرة على مدينة الفلوجة انطلاقاً من معسكري طارق والمزرعة شرق المدينة، وكان لابد من تحويل مسار نهر الفرات شرقاً من خلال إغلاق بوابات السد لإغراق المعسكرين، أو على الأقل منع تقدم الآليات المدرعة من حرية الحركة على الطرق المؤدية إلى الفلوجة، وقد حقّقنا هذا الهدف بنجاح“، وختم بالقول: “بفضل هذه الخطة تمكنّا في حينها من إرغام الجيش على الانسحاب، والسيطرة على مناطق زوبع والعنّاز والزيدان غرب بغداد، والكرمة والتمايمة وغيرها دون قتال”.
من جانبه قال المواطن “ع . ع . الزوبعي” الذي رفض الكشف عن اسمه، في حديثه لـ “التقرير”، “عندما تَمّ تحويل مجرى الفرات شرقاً كادت مزارعنا ومواشينا تموت عطشاً، وكنّا نتمنى فتح البوابات، لكنّ تلك الأمنيات سرعان ما تحولت إلى كارثةٍ حقيقيةٍ، حيث أُغرقت مزارعنا وبيوتنا بعد فتحها”.
ويذكر أنّ القوات الأمنية حاولت عدّة مرات استخدام القوة الجوية لفتح بعض بوابات سد النعيمية دون جدوى، نتيجة التحصينات الكبيرة بالكتل الكونكريتية التي نقلها التنظيم ووضعها حول البوابات، بعد أنْ كانت القوات الأمنية تستخدمها في تأمين الدوائر الحكومية الحساسة، ومقرات سكن المسؤولين الحكوميين، والسياسيين وقادة الصحوات، في الفلوجة، كما اتخذت الحكومة قراراً آخر للتخفيف من كميات المياه المتدفقة إلى سد النعيمية بقطع مياه سد الرمادي، وتحويلها إلى بحيرة الحبانية عبر بوابات سد الورار المجاور.
ويقول أحد أبناء مدينة الفلوجة، وهو مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية، رفض التصريح عن اسمه، شارك في التخطيط والهجوم على سد النعيمية في مراسلةٍ خاصة بـ“التقرير” عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، “بعد إغلاق سد النعيمية، وتوجيه المياه باتجاه معسكري طارق والمزرعة والمناطق القريبة منهما، استطعنا إفشال خطّة القوات الأمنية باقتحام مدينة الفلوجة من خلال القوة الموجودة المقدرة بأكثر من فرقة عسكرية، وتلافي وقوع خسائر في صفوفنا إذا فكرنا في شنّ هجومٍ واسع على المعسكرين المحصّنين، حيث غادرت القوات الأمنية إلى مناطق أخرى، ما سهّل دخولنا دون خسائر“، وأضاف، “قام مقاتلو التنظيم الذين دخلوا المعسكرين بإحراق، أو إتلاف، المزيد من الآليات التي باتتْ عملية حركتها مستحيلة، فيما نقلوا ما استطاعوا من أسلحة خفيفة ومتوسطة وذخيرة”.
وقد نقل لنا عن أحد زملائه في قسم الاستطلاع قوله: “تركزت خطة إغراق المنطقة، على منع القوات الأمنية من الاستمرار في تنفيذ تكتيكها المعتمد على مدّ أنابيب حديدية ذات أقطار كبيرة جداً لنصبها على المشاريع المائية الزراعية لتسهيل حركة الآليات عبر طرقٍ بريّةٍ جديدةٍ، وتوفير طرقٍ إضافيةٍ بديلة عن شبكة الطرق المعروفة التي لمْ تعد آمنة على القوات الأمنية، بسبب كثرة العبوات الناسفة، والكمائن“.
في غشت من عام 2014، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على سد الموصل، أكبر سدود العراق، لكنّه فَقَدَ السيطرة عليه بعد قتالٍ عنيفٍ مع قوات البيشمركة بدعم من طيران التحالف الدولي في ديسمبر من العام نفسه، وهي خطوةٌ كبيرةٌ في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، كما عبّر عنها الرئيس الأميركي باراك أُوباما.
كما شنّ تنظيم الدولة أكثر من خمسة وثلاثين هجوماً كبيراً على مدينة حديثة، في الأنبار، للسيطرة على سد المدينة، ثاني أكبر سدود العراق، دون أنْ يتمكن من السيطرة على المدينة التي تدافع عنها بعض الصحوات العشائرية المسنودة من القوات الأمنية، والمدعومة بطيران التحالف الدولي الذي يولي أهمية كبيرة لمنع التنظيم من السيطرة على سد حديثة، ثاني أكبر مورد للطاقة الكهربائية في العراق.
وعلى الضفة اليسرى لنهر الفرات، يفرض تنظيم الدولة سيطرته على القرى والمناطق من شمال مدينة البغدادي، 100 كيلومتر إلى الغرب من الرمادي، وصولاً إلى مركز المحافظة ثمّ باتجاه الشمال الشرقي وصولاً إلى مدينة الفلوجة، وما بعدها، إلى بعض مناطق أبو غريب، غرب العاصمة.
أمّا على الضفة اليمنى لنهر الفرات، فيفرض التنظيم سيطرته بتواصلٍ جغرافي يمتد من حوالي 20 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي لمدينة حديثة، 140 كيلومتراً غرب الرمادي، وصولاً إلى الجانب الأيسر من مدينة هيت، ثمّ إلى الرمادي حيث مناطق البو ذياب المجاورة لمقر عمليات الأنبار، وحتى الضفّة اليسرى لمدينة الخالدية، المعروفة باسم جزيرة الخالدية، نزولاً إلى مدينة الفلوجة، وما بعدها، إلى الضواحي الغربية للعاصمة.
بعد الانسحاب الفوضوي للقوات الأمنية، والأخرى المساندة لها، من مدينة الرمادي في 17 ماي الماضي، وفرض تنظيم الدولة سيطرته على كامل المدينة، فإن تداعيات هذا الانسحاب، مع الإقرار بحقيقة فشل الحكومة الاتحادية في اتخاذ قرار استعادة المدينة، أو على الأقل الإجراءات والخطوات المتثاقلة للتقدم بهذا الاتجاه، من شأن هذا كله، أنْ يجعل عملية استعادة الرمادي أكثر صعوبةً وتعقيداً، خاصةً مع قرار تنظيم الدولة الإسلامية غلق بوابات سد الرمادي، وخفض منسوب مياه نهر الفرات إلى مستوياتٍ متدنيةٍ جداً تُسهّل على التنظيم التنقل عبر ضفّتي النهر بسهولة.
في الثالث من يونيو، أقدم تنظيم الدولة الإسلامية على إغلاق بوابات سد الرمادي في خطوة أثارتْ قلق الحكومة العراقية، والمجتمع الدولي، والسكان على ضفّتي نهر الفرات من الرمادي إلى أبو غريب، غرب العاصمة، نزولاً إلى مناطق جنوب بغداد.
عن الخطوة الأخيرة التي اتخذها تنظيم الدولة الإسلامية، وتداعياتها البيئية، يقول المهندس المتخصص عبد الكريم المحمدي، “بالتأكيد فإن قطع المياه يضر بالمجرى المائي حيث ستنمو بعض أنواع النباتات والطحالب، وربما ظهور جزر طينية من الصعب تجريفها مستقبلاً، وبالتالي ستؤدي إعادة تدفق المياه إلى تآكل في شاطئ ضفتي النهر، وخسارة المزارعين لمساحات هائلة من الأراضي الزراعية”.
التطور الأحدث في ملف حرب المياه، جاء بعد أنْ فرض تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته بالكامل على مدينة الرمادي، واتخاذه سلسلة من الإجراءات والتدابير، حيث بادر “لاستخدام عدد من الأوراق المهمة التي تمتلكها مدينة الرمادي في صراعه مع الحكومة ببغداد، ومن بينها ورقة السدود، وتأتي أهمية سد الرمادي بالدرجة الثانية بعد سد حديثة، الذي لا يزال تحت سيطرة القوات الأمنية، وصحوات عشيرة الجغايفة“، كما يقول الدكتور نزار الفراجي من كلية التربية في جامعة الأنبار، في حديثٍ خاصٍ بـ“التقرير”.
ويضيف، “تسيطر القوات الأمنية والحشد الشعبي والصحوات على مدينتي الخالدية والحبانية، منتصف المسافة بين مدينتي الرمادي والفلوجة، وهما المدينتان الوحيدتان شرق الرمادي على الضفة اليمنى لنهر الفرات خارج سيطرة التنظيم، وتعدّان المركزان الرئيسان للإمدادات وتجمّع القوات الأمنية، والحشد والصحوات، لشنّ الهجمات على الرمادي مستقبلاً، وقد يمنح إغلاق سد الرمادي فرصةً للتنظيم لزعزعة الأمن، وتضيّيق سُبل العيش لإرغام سكانهما على النزوح تمهيداً لدخولهما”.
استمرار تنظيم الدولة في منع تدفق المياه إلى الجنوب من الرمادي، من شأنه أنْ يهدد حياة الملايين بالموت عطشاً، وإتلاف محاصيلهم الزراعية، ونفوق مواشيهم، أي بمعنى آخر فقدانهم لثرواتهم ومواردهم الأساسية، لكنّ هذا الإجراء لن يؤثر في الوضع المعيشي والحياتي للسكان الشيعة فقط، وهو جزء من استراتيجيات تنظيم الدولة في إلحاق أكبر الضرر بالشيعة، بل سيؤدي إلى تضرر مواطنين سُنَّة، ويعدّ هذا سبباً من أسباب تراجع تنظيم الدولة عن قرار إغلاق السد بالكامل، وقيامه بفتح بوابتين فقط تسمح لكميات محددة من المياه المتدفقة جنوباً.
ويرى المهندس نافع الهيتي، المتخصّص في بناء السدود، “عند سقوط سدّ الموصل بيد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية خريف العام الفائت، كنّا نخشى بادئ الأمر من استخدام التنظيم لكميات المياه الهائلة في إغراق المدن جنوب السد وصولاً إلى العاصمة، أو قطع المياه والطاقة الكهربائية التي يولدها السد، أو على الأقل تخريب منشآت السد في الساعات الأخيرة عند وصوله إلى حالة القناعة من فقدانه السيطرة على هذه المنشأة الخطيرة، لكنّ شيئًا من هذا لمْ يحدث، وقياساً على هذا لا أتوقع أنْ يلحق أيّ ضررٍ بعموم المدنيين من جراء إغلاق بوابات سد الرمادي الذي يفتقد إلى بحيرة لتخزين المياه، إنما يعتمد على وادي نهر الفرات فقط“.
مصدر عشائري، رفض الكشف عن اسمه، أفاد لـ”التقرير” بسعي تنظيم الدولة إلى “وضع العشائر المناوئة له في مدينة الخالدية أمام خيار الموت عطشاً، أو الاستسلام ورفع الراية البيضاء لدخول المدينة دون قتال بعد فشل هجماته المتكررة للسيطرة على مناطق حصيبة الشرقية والمضيق خط الدفاع الأول عن الخالدية، ومعقل مقاتلي أبناء عشائر البو فهد وغيرها“، ومع ارتفاع درجات الحرارة إلى فوق 45 درجة مئوية، وازدياد الحاجة لاستهلاك المياه في ري المزروعات، “فإنّ التنظيم يضعنا أمام خيار النزوح عن مناطقنا وإفراغها من أهلها لاحتلالها“، كما يقول.
يهدف تنظيم الدولة إلى فرض عقوبات جماعية باستخدامه ورقة المياه لإلحاق أكبر ضرر بمناطق جنوب شرق سد الرمادي، وهي مناطق في معظمها خاضعة لسيطرة القوات الحكومية، وتقطنها عشائر معارضة للتنظيم، ونزولاً إلى حزام بغداد الجنوبي الذي تقطنه عشائر سُنيَّة، أو عشائر مختلطة طائفياً، فيما تشكّل العشائر الشيعية الغالبية المطلقة على ضفتي الفرات بعد حزام بغداد الجنوبي مباشرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المصدر: موقع التقرير).