أتاكم رمضان..
ذ. حمّاد القباج
هوية بريس – الخميس 18 يونيو 2015
“أتاكم شهر رمضان؛ شهر مبارك: فرض الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرَها فقد حُرِم“…
بهذه الكلمات المباركات بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدوم شهر رمضان المعَظم..
وأوَدُّ أن أوضح هنا؛ أن هذا التبشير يحمل في طياته؛ الحث على الاستعداد لاستقبال هذا الشهر الكريم، وتوطين النفس للاجتهاد فيه بما يُرجى بسببه تكفير الخطايا والسيئات، ورفعة المنزلة والدرجات، عند رب الأرض والسماوات.
وهذا من علامات العقل وحسن تصريف الوقت؛ أن تهتبِلِي فرصة مواسم الخير -وعلى رأسها شهر رمضان- لتضاعفي العمل، وتزدادي استقامة وعبودية لله رب العالمين.
فأسباب كثرة الخير تتيسّر في هذا الشهر: “..لله فيه ليلة خير من ألف شهر“؛ أي العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وأسباب الشر والدوافع إليه تضيق: “..وتغل فيه مردة الشياطين“؛ فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل من إضلال بني آدم.
هذا بالإضافة إلى انكسار النفس الأمارة بالسوء، وتعديل قوتها بالصيام.
وعناصر الترغيب تكتمل: “تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم“. فتصعد الأعمال الصالحة إلى الملك الديّان، ولا يخفى عليه سبحانه منها شيء مهما كثُرت وتنوعت، ويحفظها لعباده فلا تضيع، ويجزيهم -عز وجلّ- بالحسنة عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف مضاعفة…
فالمغبونة كل الغبن؛ من ضيّعَ هذه الفرصة العزيزة الغالية، وفَوَّت على نفسه هذه الغنيمة الكبيرة.
ولذلك دعا جبريل والنبي صلى الله عليهما وسلم؛ على من أدرك رمضان ولم يستغله لمحو ذنوبه:
عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أحضِروا المنبر، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الثالثة قال: آمين.
فلما نزل، قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه؟ فقال: إنّ جبريل عَرَضَ لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين..” (الحديث؛ رواه الحاكم وصححه).
فما أعظم خسارة من دعا عليه رسولا الله، عليهما السلام.
وهو ما يتعرض له كثير من الناس، الذين لا يحلو لهم التوسع في المباحات -بل والمخالفات- إلا في هذا الشهر!
فلا تكفير ولا رفعة، ولكن لهو ولعب.
أما العاقل؛ فإن كان محسناً فإنه يزداد إحسانا، مستغلا بركة هذا الزمن لمضاعفة رصيده من الحسنات، وإن كان مسيئا فإنه يُقلع عن إساءته، مهتبلا ما جعل الله فيه من الأسباب المعينة على التوبة، والوسائل المُؤَدِّية إلى محو الحَوْبة، ثم يلتحق بالصالحين في مضمار التنافس الشريف، غير آيس من اللحوق بهم؛ فإن ربَّنا ذو فضل عظيم، ولا حَجر على فضل الله تعالى..
وهاكِ أخي المسلم؛ توجيها نبويا آخر يَصُبّ في الوادي الذي نحن فيه خائضون، ويزيدنا توضيحا للطريق الذي نحن عليه سائرون:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده” (رواه الطبراني وحسنه الألباني).
في هذا الحديث الشريف يحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على الاجتهاد في العمل الصالح في كل أوقاتهم، ثم مضاعفة اجتهادهم في الأوقات المتميِّزة خاصة؛ ومنها رمضان.
وبهذا يتعرضون للنفحات القدسية التي تهبّ رياحها المباركة مع مواسم الخير، ومحافل البركات..
فعليكِ -أيها المسلم- أن تنافس أخاك، في العمل بهذا التوجيه الكريم، والأخذ من ذلك العمل بأوفر حظ وأكبر نصيب.
قال الله تعالى: “خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” (المطففين:26).
ولا يخفى عليكِ؛ أن هذا العمل الجليل، يحتاج إلى استعداد وتأهب كبيرَيْن، يمكن حصر عناصرهما في أمور أربعة هي:
1- تصحيح النية واستحضار قصد التقرب إلى الخالق جلّ وعلا:
ومن أعظم ما يَضُرّ بهذا الأصل: (التعبدُ الوراثي) والذي هو تعبد الكثيرين؛ فهم يصومون؛ لأن هذه عادة ورثوها عن الآباء والأجداد، وهذا يجعلهم مُقصِّرين فيما هو واجب عليهم قبل كل شيء من تصحيح النية، واستحضار واستصحاب قصد التقرب إلى الله بهذا العمل.
وهذه النية شرطٌ في قبول التعبدِ من الرب سبحانه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلُّ عملِ ابن آدم يُضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي” (رواه مسلم).
تأمل قوله تعالى: “من أجلي“؛ فأنت تصوم لله، حباًّ له سبحانه وتعظيما، ورغبة فيما عنده من عظيم الأجر وجزيل الثواب، لسان حالك يقول:
“وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى” (الليل:19-21).
وهكذا كل ما تقوم به من وظائف هذا الشهر وأعماله، تكون لك فيها هذه النية، حتى وأنت في العمل والوظيفة، انو بذلك التقرب إلى الله بأداء الحق، والتوسعة على الأسرة، وإدخال السرور عليهم، وفي ذلك ترغيب لهم في الصيام، وتشجيع عليه، وهذا من الدعوة إلى الله، فتأمل.
2- التفقه في عبادة الصيام:
هذا هو العنصر الثاني من عناصر الاستعداد لهذا الشهر المبارك، والله تعالى إنما يُعبد عن علم، ولذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل، وبيّن لكل أمة شِرعتها، وأمر سبحانه بالرجوع إلى أهل العلم واستفتائهم.
فأعظم ما تستعد به المسلم لهذا الموسم بعد تقويم النية؛ أن يتفقّه في عبادة الصيام خصوصا، وفيما يُشرع في رمضان عموما من الوظائف والعبادات، ويستعمل من وسائل التعلم ما يتمكن منه ويستفيد منه؛ من قراءة، وسماعِ درس، واستفتاء عالم..، وغير ذلك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” (متفق عليه).
والصيام من الدين، فمن تفقه فيه، فهو على خير عظيم.
3- التعرف على مقاصد الصيام:
وهي المشار إليها في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة:183).
فقوله سبحانه: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ“؛ يشير إلى أن المقصود من الصيام ليس مجرد ترك الأكل والشرب، ولكن المقصود تحقيق التقوى..
والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بامتثال الأوامر وترك النواهي؛ ومن ذلك: اجتناب المخالفات الشرعية في هذا الشهر أكثر من غيره؛ كالكذب والغيبة والنميمة والتبرج…إلخ.
وبهذا تُحقِّقين ثمرة الصيام؛ وهي: تدريب النفس على التقوى، فيسهل عليك هذا الأمر العظيم بعد رمضان، وتبقَى عليه إلى أن تلقي به ربك، فتفوز بما أعده الله للمتقين:
قال سبحانه: “سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ” (آل عمران:133).
و”مَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ” (آل عمران:185).
4- وضع برنامج لهذا الشهر:
وهذا يجعلكِ مُتمكّنا من وقتك، ضابطا للحظاته؛ التي هي أشد تفلتا من الإبل في عقلها، سيما مع ما صار عرفا عندنا في هذا الشهر من التوسع في أنواع الأطعمة والأشربة، ممّا أدّى -مثلا- إلى مزاحمة المطبخ للعبادة عند أكثر النساء، حتى بلغ الحال بكثيرات إلى الغلو في ذلك، حيث تدخل إلى المطبخ قبل الظهر ولا تخرج منه إلا بعد العشاء مُتعَبَة مُنهكة، فتختم ليلتها أمام التلفاز! وبهذا تُلقي بالعبادة إلى حيث حَطّتْ رحلها أمُّ قشعمِ!!
فنظِّم وقتك، واصرف لكلّ عملٍ ما يحتاج إليه من الزمن حسب أهميته ونفعه:
فلورد القرآن قسط، ولآداب الصيام قسط، وللقيام آخر، وللمطبخ.. وهكذا.
.. أما بعد، فتلك معالمُ أربعة، في طريق استعدادِك لحلول شهر رمضان الكريم، في رحاب أيامِك التي هي في أمس الحاجة إلى بركاته ونفحاته.
وأجزم أن كل مسلم سيشاطرني هذا الرأي: وهو أن الاستعداد المطلوب منه، والتنافس المرغب فيه، لن يتأتى منه أبدا؛ إذا كانت مراسيم استقباله لهذا الشهر العظيم؛ تبقى حبيسة لذات المأكل وسهرات اللعب واللهو والفرجة؛ وهذا -ممّن ابتُلِيَ به- دورانٌ في بوتقة المحظور والمكروه، وإغراق فيما يُقسي القلب ويبعد عن الله سبحانه وتعالى.
وكم يَقبُح بالمسلم أن يدور في بوتقة المكروه، ويتلطخ بأوحال المحظور، وهو مطالب بالسباحة في فلك المستحب، وبلوغ القمة في جبله الشامخ، الذي يُطِلّ برأسه على جنان النعيم المقيم، والحبور العظيم.
وبالله تعالى التوفيق.