الفلوجة بين الحصار ورفض عودة الحكومة ثانية
هوية بريس – (موقع التقرير)
الجمعة 19 يونيو 2015
مدينة الفلوجة التي أطبقت شهرتها الآفاق حول العالم في عام 2004؛ حين تصدى أبناؤها للقوات الأميركية، باتت رمزًا لسُنّة العراق، ومعقلاً للمقاتلين “الجهاديين” عامة، والجماعات الإسلامية الموصوفة غربيًا بـ“التشدّد” خاصة.
على الضفّة الشرقية لنهر الفرات، وعلى مسافة نحو ستين كيلومترًا غرب العاصمة العراقية بغداد، تقع مدينة الفلوجة، ثاني أكبر مدن محافظة الأنبار، بعد مدينة الرمادي، وأول مدينة خضعت بالكامل لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في الأسبوع الأول من عام 2014، ولا غرابة، فمنها أعلن تنظيم التوحيد والجهاد (نواة الدولة الإسلامية) بيانه التأسيسي الذي أعلن فيه “الجهاد” ضدّ القوات الأجنبية، ويروي المواطن أبان المحمّدي لـ “التقرير” مشاهد معركة الفلوجة الأولى، أبريل 2004، قائلاً: “صحيح أنّ المعركة أنهكت المدينة كثيرًا، وأتتْ على بنيتها التحتية بسبب القصف الجوي والبري الأميركي، لكن صحيح أيضًا، أنّ الفلوجة أول مدينة أرغمت تلك القوات على التفاوض، كنّا نشعر بالزهو والعزّة حين كانت الدبابة الأميركية التي أقلّت القائد الأميركي المخوّل بالتفاوض مع الفلوجيين تجوب شوارع المدينة وهي تخفض مدافعها، فيما يُلقي عليها أطفالنا الحجارة والأحذية، وكنّا نستمع من الوفد المفاوض إلى شروطٍ أخرى منها، أنْ يدخل قائد القوات الأميركية، رئيس الوفد المفاوض، وهو خالعٌ خوذته، وفوهات بنادق حمايته مصوَّبة نحو الأرض، هكذا كنّا نقول، أردوا أنْ يكسروا كبرياء هذه المدينة، لكنّ ما حصل هو العكس“.
اعتقدت القوات الأميركية، أنّ السيطرة على مدينة الفلوجة تعني القضاء على “التمرد” السُنّي في العراق، ومن هذا المنطلق شنّت أوسع هجوم عليها في نوفمبر 2004، وانتهى الهجوم بسيطرتها على المدينة بعد شهرٍ من القتال الشرس مع المقاتلين المدافعين عنها، وقد أدى الهجوم إلى تدمير ثُلثي منازل ومباني المدينة، ومقتل أكثر من 3000 مدني، واعتقال عدّة آلافٍ من الشبان بتهمة الإرهاب، “ولا يزال مصير العديد منهم مجهولاً حتى اللحظة، وتشير أصابع الاتهام إلى قيام الحكومة العراقية بتصفيتهم بعد استلامها ملف إدارة السجون العراقية من القوات الأميركية، كما أنّ السياسيين السُنَّة يتجاهلون هذه القضية رغم علمهم بها“، حسب قول أحد المحامين، الذي رفض الكشف عن هويته “لدواعي أمنه الشخصي حيث يقيم حاليًا في بغداد” لـ “التقرير”.
وفرضت القوات الأميركية إجراءات أمنية صارمة داخل المدينة وحولها، كما أُحيطت بجدران كونكريتية من جميع الجهات، فيما أبقت على منفذ واحد للدخول إليها، أو الخروج منها ببطاقات ممغنطة تُمنح فقط لأبناء المدينة، مع إجراءات تدقيق بالأشعة السينية، وفحص بصمة العين، وغيرها من الإجراءات التي استمرت حتى بعد الانسحاب الأميركي نهاية عام 2011، وانطلاق الحركة الاحتجاجية أوائل العام 2013، لكنْ بشكلٍ أخف.
بعد ساعاتٍ من قيام حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي باستخدام القوة العسكرية في فضّ ساحة الاعتصام في الرمادي، ومحاولة اقتحام ساحة اعتصام الفلوجة، تصدى أبناء الفلوجة وعشائرها، بمؤازرة مقاتلي الفصائل وتنظيم الدولة الإسلامية، للقوات المهاجمة، وأرغموها على التراجع إلى مواقع خارج المدينة، فيما استمرت عملياتهم الهجومية ليفرضوا سيطرتهم على كامل مركز المدينة، وما حولها، باستثناء معسكر المزرعة على مسافة سبعة كيلومترات شرق المدينة، وهو الآن مركز إطلاق قذائف الهاون وراجمات الصواريخ التي تستهدف الأحياء السكنية بشكل عشوائي، ويروح ضحيتها مدنيون من النساء والأطفال الذين لم تتيسر لهم سبل النزوح لأسباب عدّة، من بينها تكاليف المعيشة المرتفعة في المدن الأخرى، وأجور النقل العالية.
يقول أحد العاملين في مستشفى الفلوجة التعليمي، “بلغ عدد القتلى منذُ أوائل عام 2014، بسبب قصف الطائرات العراقية وطائرات التحالف الدولي، والقصف الصاروخي والمدفعي للقوات البرية العراقية والميليشيات، أكثر من 7890 حالةَ وفاةٍ تَمّ توثيقها، غالبيتهم من الأطفال والنساء“.
ورغم حملات النزوح الكبيرة لايزال نحو مئتي ألف نسمةٍ يعيشون في مدينة الفلوجة، حسب تقديرات منظمات إغاثة إنسانية، من أصل حوالي 480 ألف نسمةٍ، تتعرض بشكل يومي لقصفٍ جوي وبري، ويقول الموظف في دائرة ماء الفلوجة، رائد الجميلي، في حديثٍ خاص لـ“التقرير”، “تعاني المدينة من تبعات القصف العشوائي وتهديم البنى التحتية، وهناك حالات نزوح واسعة بسبب هذا القصف الانتقامي، فهم يحاولون أنْ يخلقوا فجوة بين السكان وتنظيم الدولة باتباع سياسة العقاب الجماعي، لكن في الحقيقة النتائج تأتي معكوسة، فيومٌ بعد آخر يتيقن السكان أنّ الحكومة تمارس نهجًا طائفيًا ضدَّ أبناء المدينة، ومع الأسف، هناك مباركة من السياسيين السُنَّة بصمتهم عما يجري، كما هي مباركةٌ عربيةٌ ودولية“، ويضيف الجميلي: “لهذا يفضل سكان الفلوجة بقاء تنظيم الدولة على عودة القوات الحكومية، فقد لا تجد عائلةً من الفلوجة إلاَّ وفقدت أحد أبنائها قتلاً، أو تغيّيبًا في سجون الحكومة“.
أما زميله، ساهر العاني، فيقول ردًا على سؤال “التقرير” عن أسباب النزوح من المدينة، “هناك حالات نزوح قليلة بسبب النقص في الخدمات، مثل الكهرباء، لكنّ النزوح الحقيقي هو بسبب القصف العشوائي“، وعن سلوك عناصر تنظيم الدولة وأساليب تعاملهم مع السكان يقول: “ليس هناك احتكاك مباشر بين مقاتلي الدولة الإسلامية والسكان، هناك فقط ظهورٌ دائم لعناصر الحسبة الذين يحثّون الناس على ارتياد المساجد في أوقات الصلاة، وغيرها من الأمور لمنع، “ما يرونه”، مخالفاتٍ شرعيةٍ في لباس المرأة مثلاً، وغيرها، لكنْ عمومًا، الفلوجة معروفة أصلاً بكونها من أكثر المدن العراقية الملتزمة دينيًا، ما يسهل عمل عناصر الحسبة الذين يركزّون أكثر على الجانب الأمني لكشف شبكات التجسس لصالح الحكومة والتحالف، أو مصادر معلوماتهما، وقد نفّذ التنظيم بالفعل عدّة عمليات إعدام لمدانين بالتعاون مع التحالف والحكومة“، على حدّ قوله.
في منطقة الصقلاوية، وعلى الضفّة الأخرى لنهر الفرات، يستخدم أهل الفلوجة نقطة عبور وحيدة للدخول إلى المدينة، أو الخروج منها، وإدخال البضائع والحاجات الأساسية، والوقود، مستخدمين الزوارق النهرية والعبارات بدائية الصنع، ويفرض تنظيم الدولة سيطرته على المنفذ الوحيد “للحدّ من التلاعب بالأسعار وجشع التجار واستغلال حالة الحصار المفروض على المدينة“، كما يقول الناشط الإعلامي منير الحلبوسي في حديثٍ خاصٍ لـ”التقرير”.
الحصار الذي تفرضه الحكومة العراقية على دخول المواد الغذائية، وقطع الكهرباء عنها، واستمرار القصف الجوي والبري، وغيرها من وسائل العقاب الجماعي الهادفة إلى خلق بيئة معادية للتنظيم في المدينة ومقاتلته، لم يحالفه النجاح بعد عامٍ ونصف العام، “ولن يحدث مستقبلاً، فأبناء المدينة كشفوا ما تكنّه لهم الحكومة العراقية من حقدٍ تجلّى في التصريحات الأخيرة لمسؤولين كبار يطالبون بإبادة المدينة، وقتل أهلها بتهمة الإرهاب، وهم لا يترددون في وصفها بأنّها رأس الأفعى ويجب قطع هذا الرأس“، كما يقول شامل المحمدي الموظف في ما بات يعرف باسم “ديوان التعليم”.
علاقة الود المتبادلة بين تنظيم الدولة الإسلامية وأبناء الفلوجة، والتي تعود إلى الأشهر الأولى للاحتلال الأميركي، مازالت قائمة، على ما يبدو، وقد تعزّزت هذه العلاقات أكثر بعد سيطرة التنظيم على المدينة قبل عام ونصف العام، ويقول الحاج صالح العيساوي الذي رفض الخروج من المدينة في حديثه لـ“التقرير”، “توجهي الفكري يختلف مع التنظيم، لكنّ هذا لا يعني الكثير، المهم عندي إدارتهم للمدينة، والحفاظ على الأمن فيها، وأسلوب تعاملهم مع عامة الناس، وأرى أنّ أداءهم جيدٌ حتى الآن، فهم لا يتركون سبيلاً لتوفير الحاجات الأساسية رغم الحصار المفروض على الطرق المؤدّية إلى المدينة، ومن المهم عندي أيضاً، أنْ يحكمنا أهلنا وأبناء مدينتنا، فغالبية المسؤولين هم من أبنائنا، بما فيهم والي المدينة“.
لكنّ الحاج صالح العيساوي يرى في وجودهم بالمدينة “ذريعة لقصف المدينة وتشريد أهلها وقتلهم، وتدمير بيوتها بدوافع طائفية، لكننا نعلم يقينا أنّ الحكومة الشيعية لا تحتاج لذرائع كي تستهدفنا، فقد قتلت منّا الكثير واعتقلت الكثير، قبل دخول تنظيم الدولة إلى المدينة“، ويختم بالقول: “الحكومة الشيعية تعلم أنّنا لنْ نعُدْ نرضى أنْ تحكمنا من جديد، وأنّنا لنْ نستقبلها بعد اليوم، بعد أنْ تحولت إلى حكومة ميليشيات فقدت القدرة على إدارة البلد“، على حدّ قوله.