التربية الإسلامية وتدافع المصطلح في المناهج الدراسية
ذ. محمد احساين*
هوية بريس – الإثنين 22 يونيو 2015
في إطار تطور وتطوير المناهج الدراسية بالدول العربية والإسلامية يأتي مشكل المصطلح كمدخل أساس في التعامل التربوي مع المواد الدراسية المكونة لتلك المناهج، ولعل مادة التربية الإسلامية تعيش بقوة وحساسية ذاك المشكل نظرا لفلسفة كل مجتمع ومرتكزاته وثوابته، وأيضا نظرا للحركية المجتمعية وتباين الخلفيات وتضارب الأهداف واختلاف المرجعيات… مما قد يؤثر على فئة الخبراء المكلفين بصياغة التوجهات والاختيارات وبلورتها في وثيقة منهاج دراسي… ومن هنا قد تطرح عدة مسميات، ويتدخل الاجتهاد من أجل تحديد المصطلح المناسب لتلك الخلفيات والمرجعيات والذي يجب أن يكون منسجما ومتناغما مع المرجعية الدستورية والقيمية للبلد.
التربية الإسلامية وتنوع المصطلح
فعلى الرغم من شيوع مصطلح “التربية الإسلامية” في عصرنا الحاضر؛ فإنه لم يكن مُستخدماً وشائعاً في كتابات سلفنا الصالح، ولم يكن معروفاً في تُراثهم العلمي الكبير؛ وإن كانت قد وردت الإشارة إليه عند بعض المهتمين بهذا المجال من الفقهاء والعُلماء والمفكرين، إذ نجد في تراثنا التربوي جملة من المصطلحات التي كان يستخدمها العلماء في معنى التربية، كمرادفات استُخدمت قديماً للدلالة على مصطلح التربية الإسلامية:
– مصطلح التنشئة.
– مصطلح الإصلاح.
– مصطلح التأديب أو الأدب.
– مصطلح التطهير.
– مصطلح التزكية.
– مصطلح السياسة: ويُقصد بها القيادة، وحُسن تدبير الأمور في مختلف شئون الحياة.
– مصطلح النصح والإرشاد.
– مصطلح الأخلاق.
– مصطلح التهذيب.
– مصطلح التعليم: (هذا المصطلح من أكثر المصطلحات شيوعاً بل إن هناك غالبية من الناس ترادف تماماً بينه وبين مصطلح التربية).
– مصطلح التربية الدينية.
– مصطلح التربية الإسلامية…
أهي تربية دينية أم إسلامية أم دينية إسلامية أم ثقافة دينية؟
فالتربية الدينية تعني المقررات التي تتضمن المعارف الدينية فحسب كالقرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والتوحيد والسلوك وغيرها من المعارف التي تهدف إلى تنمية المفاهيم الدينية، إضافة إلى كونه مصطلحا عاما يشمل جميع النحل والأديان، سواء أكانت باطلة أم صحيحة، باعتبار أن مفهوم الدين ينطوي على معانٍ عديدة ومتشعِّبة حتى يبدو لك أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة، فالدين هو الملك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يُعتقد أو لكل ما يُتعبَّد به…. والمتتبع للظاهرة الدينية عبر التاريخ يجدها أكثر تعقيدا وتشعبا، تتشابك فيها مفاهيم عديدة تختلف من دين إلى آخر، يتعذَّر فيها حصر الدين في قالب واحد دون الإحاطة بكل الأديان، ومعرفة ماهيتها وخاصيتها، ومن هنا يلاحظ كيف انعكست الحيرة في تعريفات الدين على المحاولات العديدة التي بذلت لتأسيس مفهومٍ صحيح له، محاوِلةً أن تراعي المقومات الأساسية المشتركة في كل الأديان وتراعي عدم الالتزام بدين معين. كما أن مسألة التعريف تتخذ خطورتها عندما يكون لها تأثير سلبي على إرساء قوانين دولية أو وطنية تحاول أن تصبغ جميع الأديان بصبغة واحدة مما يتعذر معه إرساء إطار مشترك تجتمع حوله الأديان. ولعل الإشكال المطروح هنا على الدول الإسلامية في مفهوم الدين وعلاقته بالإسلام؛ لأن الفكر الإسلامي يحصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن باعتبار الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات. وبذلك يكون الدين عند الله الإسلام. والعناصر الأساسية التي يقوم عليها هذا الدين، هي: المعرفة، والإيمان، والعمل.
ويرى الدكتور على أحمد مدكور أنه لا فرق بين مفهوم “الإسلام” ومفهوم “الدين” مستدلا بقوله تعالى: “إن الدين عند الله الإسلام” (آل عمران: 19)، إذ يقول: فالدين هو الإسلام والإسلام هو الدين وإضافة لفظ (التربية) إلى أي منهما لابد أن يعني نفس الشيء… معتبرا أن الدين هو المنهج العام الذي يحكم حركة الحياة لقوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً” (المائدة:48)، لينتهي إلى القول: ” لا داعي إذن للقول إن مفهوم “الإسلام” أوسع من مفهوم “الدين”، لأن هذا هو المفهوم الغربي لكلمة “الدين”، حيث إنهم حاصروا “الدين” هناك -منذ الفصام النكد بين الكنيسة والحياة- وجعلوه علاقة خاصة، وجانبًا قصيًا شخصيًا من جوانب الحياة الإنسانية، أما في التصور الإسلامي، فالدين هو المنهج العام الذي يحكم حركة الحياة.. كل الحياة… لذا فالتربية الدينية ليست مجرد شعبة واحدة من التربية الإسلامية ؛ بل إنها هي بعينها، فالتربية الدينية هي التربية الإسلامية، والتربية الإسلامية هي التربية الدينية، غاية ما في الأمر أن هناك علومًا للتربية الإسلامية تسمى (العلوم الشرعية) وهي علوم القرآن والسنة، (علوم المقاصد) وهناك علوم تتصل بجوانب الحياة المتجددة، وكل المعارف الإنسانية المتطورة (علوم الوسائل) وهذه الثانية من علوم التربية الإسلامية، طالما أننا نصمم مناهجها، وندرسها انطلاقًا من النصوص الشرعية وتوجيهاتها في القرآن والسنة، وطالما أننا نهدف من ورائها إلى إعداد الإنسان المسلم، العابد لله، القائم بمقتضى الخلافة عن الله في الأرض (على أحمد مدكور، “منهجية تدريس المواد الشرعية”، 1999م.ص 59- 60).
مصطلح التربية الإسلامية من التنوع إلى الصراع
الواقع هناك جدال وصراع كبير حول اسم (التربية الإسلامية) ومحاولة تغييره إلى مسميات أخرى؛ لأن طبيعة المصطلح والتسمية تتحكم في محتوى المادة؛ ففي لبنان مثلا هناك جدل كبير جداً لتغيير مصطلح “التربية الإسلامية” “بالتربية الدينية”، على اعتبار أن السكان في لبنان بلد الطوائف (مسيحيون، ومسلمون، و…)، وفي مصر صراع حول تسمية (التربية الإسلامية)، واستبدالها بـ(التربية الدينية) رغم أن المسيحيين في مصر يشكلون أقلية، والمصطلح الرائج هناك هو مصطلح (التربية الدينية الإسلامية)، وهذه محطة أولى في اتجاه حذف صفة (الإسلامية)، وإبقاء (التربية الدينية) وقد استقر الأمر أخيرا على مصطلح “الثقافة الدينية”… وفي كثير من الدول الغربية والأسيوية نجد مصطلحات الدين أو الأخلاق، وهناك من يستعمل مصطلح “التعليم الديني” ويراد به من المادة ألا تكون لها وظيفة تنموية في ظل واقع السوق، ولا مكان لها بين المواد الأخرى من التعليم الذي يراد له أن يكون ذا جدوى على مستوى العملية التنموية للبلاد. وعليه اسة الكهنوت، على غرار الجامعات التي تدرِّسُ اللاهوت وعلم الأديان، فيوضَعُ المعتقَدُ الإسلاميُّ في التدريسِ جنبًا إلى جنب مع المعتقد اليهودي والمسيحي والبوذي…، وعندما تنبني مناهجهُ على دراسةِ الأديانِ بالجملة، فتضيعُ حقيقة الإسلامِ من فالتعليم يكون “دينيا” إذا كان من النوعِ الذي أُرِيدَ لبعض المؤسسات الدينية أن تسيرَ عليه، عندما يتم تحويلها إلى مؤسسة لدربينِها، خاصة عندما يشرِفُ على إعداد برامجه ومناهجه خبراءُ من الخارج يقيسونَهُ بمقاييسهم، ويخضعونه لمناهجهم في دراسة الأديان!
في المغرب
المغرب كباقي دول العالم العربي والإسلامي شهد، وما يزال يشهد هزات عنيفة في كل مشروع من مشاريع إصلاح التعليم، وينصب النقاش حول مادة التربية الإسلامية، وكل ما له صلة بالدين في التعليم، هذه المعركة التي ما تزال أدخنة وطيسها تملأ أفق الساحة المغربية إلى الآن، فأثناء الإصلاح الأخير برزت عدة مقترحات لتغيير مصطلح التربية الإسلامية مثل: (العلوم الإسلامية)، و(الحضارة الإسلامية)، و(الفنون الإسلامية)… وهي عبارة عن تخصصات توجد حتى في الجامعات الأوروبية، إلا أن المغرب المتميز باستثنائه الذي لم تستطع رياح الخريف العربي أن تنال من مقوماته وثوابته. يشهد شبه إجماع على مرجعية دستورية وتربوية من الضروري العمل على احترامها، فدستور المملكة ينص في تصديره على أن الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي. ويؤكد في فصله الثالث على أن الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية. والنظام السياسي المغربي يقوم على إمارة المؤمنين باعتبارها نظاما شرعيا مؤسسا على البيعة الشرعية، والتي بمقتضاها يقوم أمير المؤمنين بحماية الأمن الروحي للمواطنين. والميثاق الوطني للتربية والتكوين باعتباره وثيقة مرجعية تربوية مجمع عليها يركز في مرتكزاته واختياراته المتعلقة بالقيم على قيم العقيدة الاسلامية ومقتضياتها. لذا نجد التمسك بمصطلح التربية الإسلامية له دلالته، باعتبارها نسقاً خاصاً له ارتباط بالجانب الاعتقادي، والتعبدي، وما شاكل ذلك، وكذا التوجيه السلوكي للإنسان الصحي، والبيئي، والإعلامي، والتواصلي، والأسري، والاجتماعي والمهني… إلخ.
لذلك فمصطلح التربية الإسلامية هنا يتجاوز في أبعاده تعليم أركان الدين الإسلامي ومتطلباته إلى التربية على قيم الإسلام ومبادئه، والتعلق بأحكامه في كل مجالات الحياة الاقتصادية والتواصلية والبيئية والحقوقية والإعلامية والمهنية… وبمقتضى هذه الدلالة يكون لمفهوم التربية الإسلامية علاقة عضوية بالمعاني التي تدل على التنمية والتنشئة والرعاية والإصلاح، كما أن المرادفات التي استخدمها علماء السلف للدلالة على معنى التربية تدور أيضًا حول تنمية النفس وتنشئتها والقيام برعايتها، وتطهيرها من الدناءة وتزكيتها، والحرص على تعليمها وتأديبها، حتى يتحقق التكيف المطلوب، والتفاعل والتناغم الإيجابيين لجميع جوانبها المختلفة، مع ما حولها، ومن حولها من الكائنات والمكونات. وهنا يمكن القول بأن التربية الإسلامية نظامٌ تربويٌ شاملٌ يهتم بإعداد الإنسان الصالح إعدادًا متكاملاً دينيًا ودُنيويًا في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية الرئيسية مما يؤدي إلى اعتبارها: “نظام من الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، والمعارف والخبرات والمهارات الإنسانية المتغيرة، نابع من التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، يهدف إلى تربية الإنسان وإيصاله إلى درجة الكمال التي تمكنه من القيام بواجبات الخلافة في الأرض، عن طريق إعمارها، وترقية الحياة على ظهرها، وفق منهج الإسلام”.
إن سياق الحديث هنا هو ما قامت به مديرية المناهج بوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني بإصدار مشروع المنهاج الدراسي للسنوات الأربع الأولى للتعليم الابتدائي، وهو مشروع يطمح إلى “التجديد والتطوير المستمر للمناهج الدراسية وملاءمتها مع المستجدات المعرفية والتربوية والتنموية… بهدف إعداد المتعلمين للانخراط في مجتمع المعرفة والتواصل، وتعزيز تفاعلهم مع القيم والمعارف التي يقتضيها التعليم العصري الجيد” (ص:3، من المشروع).
وهنا أرى ضرورة اعتماد النظام التربوي على مرتكزات دستور 2011 في مجال الاختيارات الاستراتيجية ليس فقط كشعار يؤثث المشهد التربوي؛ بل الأهم في ذلك تنزيلها وأجرأتها على مستوى البرامج والمناهج، ودون أية ممارسة انتقائية في بنود الدستور أو التوجيهات الملكية فيما يخص الهوية المغربية والثوابت الوطنية، مع ضرورة مراعاة مدى احترام ذلك في كل المناهج والمواد الدراسية تنظيرا وتنزيلا وتفعيلا وعدم حصرها في مادة دون أخرى…. فإذا كان المشروع في (ص:6) يتشبث بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، مع تأكيده على ضرورة مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء، فهذا قد يتنافى مع خصوصية الدولة كما يبدو مناقضا للمبدأ الدستوري بكون المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة… فهل السيادة للدولة أم للوثائق الدولية التي تؤسس لعولمة الثقافة والسياسة والاقتصاد والقيم وفق منظور أحادي استقوائي؟
كما أن التماهي مع مصطلح السلوك المدني في حاجة إلى ضوابط ومعايير، فقد يعتبر البعض -ومدعما من جهات معينة- الشذوذ الجنسي والمثلية الجنسية، والمجاهرة بالإفطار العلني في رمضان، وتبادل القبلات في الأماكن العمومية وأمام المقدسات والمؤسسات الدستورية، وتغيير آيات المواريث… من السلوك المدني، خاصة وأن المغاربة يتذكرون أن بعض الزعماء السياسيين يرون في العري العلني والتفسخ والفن الساقط سلوكا مدنيا حضاريا، كما أن منهم من يعتبر المخدرات نعمة إلهية وبالتالي يكون تعاطيها من السلوك المدني…!
ولعل من حسنات هذه المديرية إرادتها في الاستماع إلى نبض الميدان من خلال نشر المشروع وإحالته على الفاعلين الجهويين والمحليين (مفتشين وأساتذة) لدراسته ومناقشته وتقديم مقترحات إثرائية بشأنه، عكس ما وقع بالنسبة لصياغة منهاج البكالوريا المهنية حيث تم الإقصاء الكلي لمادة التربية الإسلامية في المستويين الأولى والثانية. ولا شك أن المسؤولين بالمديرية سيأخذون بعين الاعتبار تلك الملاحظات والاقتراحات كمدخل لإشراك المعنيين بتنزيل المشروع وحفزهم على الانخراط فيه مما يضمن سلامة أجرأته وتطبيقه، وبالتالي تمثل مضامينه من طرف المستهدفين به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤطر تربوي؛ باحث في قضايا التربية الإسلامية.