أم هجرها أبناؤها
ذ. الحسن بن الحسين العسال
هوية بريس – الأحد 29 شتنبر 2013م
قال الأولون:”الألفاظ قوالب المعاني“، ونعم ما قالوا، وما أعمق ما قالوا.لقد قالوا كلمة ما تأملها المحدثون، وحتى لو تأملوها، لمج بنو علمان منهم ما فهموه من تأملها، كما يمج الحنظل، لا لشيء، وهو أفظع شيء، إلا لأنهم هم الممجوجون، مادامت أجسادهم عربية، وأرواحهم مستغربة، نخرتها العجمة، حتى تآكلت من جراء غربة الهوية، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ، فلا هم رضوا بأصل انتمائهم، ولا الآخر رضي بضمهم إليه، حسب ما توهموه منه أنه فاعله تجاههم، كما هو حاله مع أبنائه، لأنه رفض ذلك الخليط الممزوج بين تهجينهم وأصله القح، بل والمتعالي، الذي لا يدانيه عرق آخر في نظره.
“الألفاظ قوالب المعاني“:إنها خلاصة حضارية في قالب لغوي، كيف ذلك؟
لأن اللغة تحمل ثقافتها بين جوانحها، وإذا تهجنت كما تَهجَّن أولائك، فَقَدَتْ أصالتها، وفقدت معها ثقافتها، مما يؤدي إلى فقدان الهوية، فيُفقد أي أمل في حضارة عربية القالب، إسلامية الروح، ثم يتوالى مسلسل الفقدان والضياع إلى أن نفقد ذواتنا.
أهذا ما يصبو إليه أولائك المهاجين؟ باسم التطور والتقدم، وباسم الانفتاح والتحضر.
ألا يدري الهجناء أن التطور لا يعني العجمة الثقافية، والانفتاح لا يعني الاستلاب الحضاري، إنه لا يعني الذوبان في الآخر، ولا يعني الانسلاخ عن الأصل.
إنه يعني الندية، بل والتفوق، بالنظر إلى خصائص لغتنا، ومضمون تاريخنا.إلا أن الأمر مدروس ومخطط له، إنها مؤامرة دُبرت ليلا ونهارا، سرا وجهارا، أتدرون ماذا يقع للأم إذا هجرها أبناؤها؟ستضيع وتفقد أساس وجودها.يقول الدكتور عبده الراجحي في كتابه (التطبيق النحوي):”والمتتبعون لتاريخ العربية في العصر الحديث، يعلمون أنها تعرضت لخطة مدروسة، تستهدف القضاء عليها“.ص:6.
لماذا يحارب الكفار وأذنابهم العلمانيون اللغة العربية؟
لأنها، كما قال أبو النعمان الدراري:”[…] فاللغة -كما قال بعض أهل العلم-:هي قاعدة فهم الدين، والمدخل إلى معرفة الشرائع، وباب الإسلام“، وكما قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم): “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي يتميزون بها” (ص:203).
إن بني علمان لا يريدوننا أن نتميز عن الكفار، بل أمنيتهم أن يصهرونا في بوتقة نخرج منها بدون لغة ولا هوية ولا دين ولا ماض ولا تاريخ ولا حضارة ، منسلخين من كل شيء، وعالة على الأمم في كل شيء، حفاظا على شعور الكفار، من أن تبور سلعتهم التي يسوقون هذه الأيام، والمسماة بالعولمة، كل شيء “يعولم”، إلا العربية، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل:103)، والإسلام، والله تعالى يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
إن بني علمان، ومن سار في ركبهم، وعلى دربهم ، يعملون جاهدين على نشر لغة الأعاجم، إذعانا لأسيادهم.
تأمل هذه الواقعة التي سرد (رشيد نيني) في إحدى الصحف الوطنية، بتاريخ:06/04/25، قائلا: “عندما انتقل جوق الجيش الأحمر إلى الدار البيضاء ليعطي عرضه في الميغاراما، كان لابد أن يلقي ساجيد عمدة المدينة كلمة ترحيب، وطبعا كان يجب أن يختار الفرنسية، بعده صعد واحد من اللجنة المنظمة، ورحب بالجوق، طبعا بالفرنسية. وعندما وقف رئيس الجوق الأحمر ليقدم فرقته، لم يتكلم بالروسية ولا بالإنجليزية ولا بالفرنسية، بل بعربية فصيحة لا يتكلمها حتى وزير الثقافة عندنا“.
قال بكر بن عبد الله أبو زيد في مؤلفه (أدب الهاتف): “اللغة العربية من شعائر الإسلام، والتكلم بها حفظ لشعائر الإسلام، فيجب حفظ هذه الشعيرة، وكف الدخولات عليها، ولذا فاحذر تلك الألفاظ المولدة، التي يأباها اللسان العربي أشد الإباء، والشريعة ناهيةٌ عما يفسد لسان العرب، وعن التعلق بلغة الكافرين والأعجميين، وخلطها بلغة الضاد، لسان المسلمين“ (ص:26-25).
إن الأعاجم يناضلون من أجل لغتهم، وبنو علمان يحاربون لغتنا، مع أنهم محسوبون عليها يقول (رشيد نيني) في نفس المقال: “حقيقة لا أعرف لماذا يفضل هؤلاء المسؤولون المغاربة إخجالنا أمام الأجانب باحتقارهم للغة العربية، يتصورون أنهم سيصبحون أكثر أهمية إذا تكلموا أمامهم بالفرنسية.مع أننا شاهدنا كيف أن (جاك شيراك) نفسه غادر قاعة اجتماعات ببروكسيل، لأن عضوا فرنسيا في البرلمان الأوربي تكلم بالإنجليزية، ولم يعد “جاك شيراك” إلا عندما قبل العضو تقديم مداخلته بالفرنسية، هم يدافعون عن لغتهم، ويتعصبون لها، في حين نحن نحتقر لغتنا ونخجل من الحديث بها أمام الأجانب”.
قال الفاروق رضي الله عنه: “إن ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله”، وأنا أقول ناسجا على منواله: “إن ابتغينا العزة بغير العربية أذلنا الله، لأن الألفاظ قوالب المعاني، ولا يمكن استيراد لغة، واستعمالها في التواصل اليومي، دون أن نستورد معها ثقافتها وفكرها وأخلاقها”.
قال عمر عبيد حسنه: “ذلك أن اللغات الأجنبية -إذا افتقدت المرجعية- يمكن أن تعتبر من أخطر معابر الغزو الثقافي إلى الأمة، عند من يدرك علاقة التفكير بالتعبير، أو علاقة التعبير بالتفكير.
بل لعل ذلك يشكل إحدى السبل الخطيرة لمحاصرة الأمة، وشل نموها وامتدادها، واستمرار عطائها، الذي سوف يُحدِث بالتالي، أخطر الإصابات لعالم الأفكار والقيم، ويُفقِده القدرة على تمثلها، وحسن التعامل معها” (ص:11، في شرف العربية).
قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم): “وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه:فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم” (ص:206).
قال (نيني) في المقال السالف الذكر:”وقبل أسبوعين، كم خجلت مكان مدير مسجد الحسن الثاني عندما سمعته يعطي تصريحا باللغة الفرنسية لنشرة الأخبار بالعربية في التلفزيون، حول المؤسسة التي يشرف عليها، كما لو أن الرجل يدير كنيسة مسيحية من الدائرة الثامنة بباريس، وليس مسجدا يوجد في الدار البيضاء”.
انظر أيها القارئ الكريم، كيف كنا وكيف أصبحنا، كيف كان السلف الصالح، وكيف أصبح الخلف الطالح؟
قال شيخ الإسلام: “ولهذا كان المسلمون المتقدمون، لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغةُ أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان، ولغةُ أهلهما فارسية، وأهل المغرب، ولغةُ أهلها بربرية:عوّدوا أهل هذه البلاد العربيةَ، حتى غلبت على هذه الأمصار:مسلِمهم وكافرِهم” (ص:206).
وجاء في كتاب (ابن رشد الحفيد:حياته-علمه-فقهه) لمؤلفه:حمادي العبيدي: “وكانت اللغة العربية هي وحدها وسيلة المعارف على اختلاف ألوانها، وسادت جميع اللغات الأخرى، حتى عند غير المسلمين.فقد كان اليهود يؤلفون بها، وكان النصارى يستعملونها في أحاديثهم اليومية.(…)ويذكر أن شباب النصارى كان يتباهى بمعرفته اللغة العربية وآدابها، ويقبل في شغف على مؤلفات علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم، ولا يترك من ذلك شيئا، بما فيها مؤلفات الفقه، وكان هذا كله يستبد بإعجابه” (ص:73).
أقول: لو كان لي من الأمر شيء، لدعوت كل طلاب العلم والمثقفين -ابتداء- بل وحملتهم على أن لا يبغوا عن اللغة العربية الفصحى بديلا، في دروسهم، وندواتهم ، ومحاضراتهم، وجميع ملتقياتهم، بل وحتى في لقاءاتهم الثنائية، وجلساتهم الحميمية، البعيدة عن طلب العلم و الثقافة.
ثم، بعد التدرب والتمرن النخبوي، والتمكن الجيد من السيطرة على اللسان، وتعويده التحادث بالعربية الفصحى بينهم، عليهم نقل هذه العدوى الصحية إلى أسرهم، ولكن في مستوى أقل، وأعني به:أن يتكلموا معهم بالعربية الفصيحة، عوض الفصحى.
الفرق بين العربية الفصحى والعربية الفصيحة:
قال الدكتور رفيق حسن الحليمي في مجلة (الوعي الإسلامي)، العدد:413: “فالفصحى مؤنث “أفصح” مثل: كبرى مؤنث “أكبر”. وأما “فصيحة” مثل كبيرة، فهي صفة تلحق بشيء يتمتع بقدر من الفصاحة أقل بكثير أو قليل من الفصحى. وهذا ما تقرره المفاضلة الصرفية أولا، إذ يصبح أحدهم أفضل من الآخر، كقولنا: هذا رجل كبير، لكن أخاه أكبر منه، وهذه الكلمة فصيحة، لكن تلك أفصح منها. فعنصر المفاضلة قائم بين الصيغتين.
وعندما نقول: اللغة الفصحى واللغة الفصيحة، فإننا نعقد مقارنة بين لغتين، وإن شئنا الدقة في التعبير، بين مستويين من الفصاحة، أحدهما “أفصح” أفضل من الآخر“.
وعودا على بدء أقول: على طلاب العلم والمثقفين أن يحادثوا ويتحادثوا مع أهاليهم بالعربية الفصيحة، التي هي مستوى متوسط بين العامية والفصحى، بأن يبدؤوا التحادث في أوقات معينة، ثم يتدرجوا بأن يضيفوا من الحصة الزمنية، وبعد ذلك يحاولون التحادث بها وقت الجد والهزل، وقت المرح والغضب. ولو أن في الأمر نصب ومعاناة، ففي سبيل استرجاع مجد لغتنا، تستحق أن نعاني من أجلها قليلا، بل في سبيل ذواتنا، وفي سبيل كرامتنا، وفي سبيل إسلامنا، ومن أجل أمتنا، ومن أجل مستقبلنا، ومن أجل حضارتنا..
فليس عصيا على أمة سادت العالم قرونا، أن تستعيد ذاتها، لأنها لن تبدأ من الصفر، بل ستبدأ من التراكم التاريخي الذي بحوزتها..ستبدأ من ماضيها الشريف الحافل بالأمجاد.
أقول: ينبغي لطلاب العلم والمثقفين ألا يقتصروا على استعمال العربية الفصيحة حال مرحهم، بل عليهم أن يجهدوا أنفسهم على استعمالها، حتى حال غضبهم ومناقشاتهم الحادة مع أزواجهم وأولادهم، في بيوتهم وخارجها. كما عليهم ألا يخجلوا من استعمالها في كل زمان ومكان، كما لا يخجل المتفرنسون من الرطانة بالفرنسية في كل زمان ومكان.
فإن ساد هذا التقليد بين هؤلاء الخاصة وأسرهم، استطعنا أن نقضي على الأمية اللغوية فيما بينهم، ولأن الضعيف مجبول على تقليد القوي، كما يقول ابن خلدون، وهؤلاء الخاصة في حكم القوي، بالنظر إلى سلطة المعرفة التي يملكون، فإن العامة ستقلدهم، ومن ثم يسهل نشر استعمال العربية بين عموم الناس، عوض تلك الرطانة التي تؤذي سمع كل غيور على لغته، فلا هي عربية ولا هي أعجمية.
وبعد استئناس العامة بسماع تحادث طلاب العلم والمثقفين باللغة العربية، كما استأنسوا بسماع المسلسلات المصرية والمكسيكية المعربة، وبئس الاستئناس، يأتي دور الإعلام، الذي يجب أن ينخرط بكليته في هذا المشروع الحضاري الضخم، فيكون حجر الزاوية في نشر الوعي اللغوي، وذلك بأن يقتصر في مرحلة أولى ، وهي مرحلة قد تطول بلا ريب، على هجر الألفاظ الأجنبية، وتعويضها بأخرى عربية مثل: السيارة والشاحنة والحافلة والهوائي والمعطف والمكتب وأسماء الألوان وغيرها والهاتف عوض التلفون، والسلام عليكم عوض آلو، وأمين سر المكتب عوض السكرتير، وهكذا.. هذا بالنسبة لعامة الناس، حتى يصبح المجتمع كله ورشا لمحاربة الأمية الأبجدية واللغوية والثقافية.
أما النخبة، فعليها، كما سلف الذكر، تحريم العامية والرطانة على نفسها، جملة وتفصيلا.
إذن، فعلى الإعلام أن لا يكرس العامية، بدعوى التواصل مع أكبر عدد من أفراد الشعب، وذلك لسببين:
أولهما: لأن هناك عدة برامج تمت إذاعتها بالفرنسية، وهي برامج تمس قطاعات واسعة من المواطنين، ولم يُلتفت فيها إلى الرغبة في التواصل المزعوم.
ثانيهما: لأنه، وكما سبقت الإشارة، قد تم الاستئناس بأفلام غير مغربية حتى من طرف العجائز، فمن الهين، ومن باب الأولى الاستئناس بالعربية.
وكي تكتمل الصورة، على الصحفيين أيضا، أن يحسِّنوا لغتهم، وأن لا ينسيهم السبق الصحفي الدور الخطير الذي تلعبه اللغة من الناحية الحضارية.
ثم بعد استئناس العامة باستعمال الألفاظ والأسماء العربية وهجران الرطانة والألفاظ الأعجمية هجرانا مطلقا، سينتقلون بإذن الله، وبعد تعود أسماعهم على العربية من أفواه النخبة، إلى التدرب على العربية الفصيحة، وعندما تصل العامة إلى هذا المستوى من الجهد في استعمال العربية، على الإعلام حينئذ ألا يخاطبهم إلا بها، ولو في مواضيع تهمهم بشكل مباشر، كمحاربة الأمية أو الحفاظ على البيئة، أو في الدعوة إلى عدم تبذير الماء والكهرباء وغيرها من المواضيع الشديدة الالتصاق بهمومهم واهتمامهم .
هذا ومن البداهة بمكان أن يكون للمدرسين قدم السبق في هذا المجال، وأن يكونوا أحرص على استعمال العربية الفصحى والفصيحة داخل قاعات الدرس، خصوصا منهم من كان يدرس أطفال المستويات الدنيا من التعليم،
وأقصد بذلك رياض الحضانة والتعليم الأولي وما بعدهما، عوض التسابق المحموم في تعليم الفرنسية الذي تشهده رياض الأطفال الخاصة، مع أن علماء النفس يؤكدون على أن لا يتعلم الطفل إلا لغته القومية إلى حين بلوغه الثانية عشرة من عمره، ويجدر التنبيه إلى أن المسألة عسيرة وغير يسيرة، لكن بشيء من العزيمة والصبر سيتحقق المراد بإذن الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ومن أراد العلى عفوا بلا تعب ٭٭٭قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لأنه ليس بين عشية وضحاها سيصبح الطفل سيبويه عصره، بل لا بد من كثير من المعاناة والتضحية والإخلاص لهذه اللغة، ولابد من العمل بجهد وصبر، من أجل المشاركة في نهوض الأمة، وعدم الاقتصار على البكاء على الأطلال، وتحميل الغير سبب الهزائم والنكبات، كفانا تواكلا وسلبية، فنهوض الأمم لا يتأتى إلا بانخراط الجميع فيه، أو عل الأقل، كل الغيورين.
هل سنكون أسوأ حالا من اليهود، الذين، مِن لا شيء، أصبحت لهم لغة رسمية، في فلسطين المغتصبة!
وهل ستكون عزيمتنا أضعف من عزيمة أتاتورك الذي حارب كل ما هو إسلامي، إلى درجة أن غير اللغة التركية من حروفها العربية إلى الحروف اللاتينية!
لماذا العربية؟
قال عمر عبيد حسنه في تقديمه لكتاب (في شرف العربية) لصاحبه الدكتور إبراهيم السامرائي: “الحمد لله القائل: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (يوسف:2)، {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (الزخرف:3)، فاختيار الله للعربية، أو اللسان العربي، ليكون أداة التوصيل، ووسيلة الإبانة، ووعاء التفكير للرسالة الخاتمة الخالدة-التي تنتظم جميع شؤون الحياة، وتستجيب لمشكلاتها-قضية ذات أبعاد لغوية، وثقافية، وعلمية، وحضارية، حيث لم يعد ينكر اليوم، علاقة التعبير بالتفكير، ودور التعبير بالتفكير، ودور التعيير في التفكير والإبداع الأدبي والعلمي، والمحاكمات العقلية..لذلك فمجرد اختيار العربية لتكون لغة التنزيل والإبانة والتوصيل، أو بتعبير آخر: اختيارها لتكون لغة الله سبحانه وتعالى في مخاطبة البشر في النبوة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعا، والتي تحددت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها، بالبلاغ المبين، يعني امتلاكها هذه الأبعاد جميعا“ (ص:8-7).
إذن، إذا أردنا الجواب على السؤال السالف الذكر نقول:
– لأن العربية لغة الله.
– ولأنها لغة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
– ولأنها لغة خاتم الرسالات، دينِنا الحنيف.
– لشرفها وريادتها واستحقاقها ومتانتها.
– ولأن لِـ”علاقة التعبير بالتفكير”، و لِـ”دور التعبير في التفكير والإبداع الأدبي والعلمي، والمحاكمات العقلية”علاقة ودور خطير.
– ولأن”العربية أو اللسان العربي، يمتلك من الخصائص والصفات والقدرات التعبيرية، ما لا تمتلكه أية لغة أخرى، أو أي لسان آخر”؛ عكس ما يروج له بنو علمان، تبعا لأسيادهم الغربيين.
يقول الأستاذ أحمد الأخضر غزال: “أما اللغات الأجنبية فإنها لغات عامية لم تصل إلى البنية الأساسية التي وصلت إليها اللغة العربية الفصحى.. واللغات في عالمنا نوعان: اللغة العربية الفصحى والعبرية من جهة، ومن جهة ثانية، هناك اللغات الأخرى، وكلها عامية، فالعربية والعبرية لغتان فصيحتان لهما بنية أصيلة حافظت عليهما مع مرور الزمن. والدليل على ذلك أن العامية هي لغة تتغير، والعامية بالنسبة للفصحى هي الفصحى مملوءة بالأخطاء..فماذا نريد؟ هل نريد المحافظة على الفصحى والوحدة العربية من خلال اللغة، أم نقلد أوربا، فيعتمد كل قطر عربي على عاميته فيقع التشتت؟ إضافة إلى ذلك، فإن العلماء اللسانيين اليوم، يبحثون عن لغة الغد، لأن تعدد اللغات، وهي أكثر من ألفي لغة، والنزاع القائم بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرها..هذه الأسباب دفعتهم وحفزتهم على البحث عن لغة الغد، فوصفوا ووضعوا لها مقاييس. والمتأمل في هذا الوصف، وهذه المقاييس يجد أنها تطابق اللغة العربية الفصحى.فهم يقولون أن لغة الغد يجب أن تكون لغة منمطة معيارية، بقواعد ثابتة، تحافظ على المفاهيم القديمة، وتتفتح على المفاهيم الحديثة، وعلى مختلف التطورات، وهذه المقاييس كلها متوفرة في اللغة العربية.. وفي هذا الإطار، لقد حضرت مؤتمرا، وصرحت فيه:أن اللغة العربية هي التي يمكن أن تكون مرشحة لتصبح لغة الغد، بعد خمسين سنة، أو بعد مائة سنة.. ولقد وافقني على هذه الفكرة بعض المستشرقين.
وفي نفس الموضوع، قال لي عالم أمريكي: يا أستاذ، إذا كانت اللغة العربية في هذا المستوى، ولها هذه المقاييس، فلماذا لا تجعلون من اللغة العربية لغة علمية وتقنية وتكنولوجية لتصبح لغة الغد؟” (سياسة التعريب بالمغرب: التطور- الواقع- الآفاق) لنور الدين الطاهري (ص:43-42).
الازدواج اللغوي في ميدان التربية والتعليم وغيره من الميادين:
لقد سبق القول أن “الألفاظ قوالب المعاني”، وأن قضية اختيار العربية قضية ذات أبعاد لغوية، وثقافية، وعلمية وحضارية.فلماذا الازدواج اللغوي في تعليمنا، وحياتنا بأسرها؟ والازدواج اللغوي يؤدي إلى ازدواج الشخصية وانفصامها الفكري والحضاري، مع التنبيه إلى أن رفض الازدواج اللغوي، لا يعني رفض الانفتاح على لغات أخرى، لأن الازدواج لا يعني الانفتاح.
ثم هل الانفتاح يعني أن يبقى المغرب أسير جلاده القديم ولغته؟ ألم يبلغ المغاربة بعد سن الرشد، كي ينفكوا عن وصاية فرنسا، وأن يكون لهم وحدهم حرية اتخاذ القرار، وأن لا يربطوا مصيرهم بمصيرها، كما يحب بنو علمان والمتفرنسون أن تكون عليه الأمور، لأن اللغة الفرنسية في تدهور، والبحث العلمي في فرنسا يعيش على الماضي.
قال نور الدين الطاهري: “والتساؤل المحوري الذي يفرض نفسه تلقائيا، ونحن نعيش أزمة نمو في حركة التعريب ببلادنا هو: هل نعلم العلوم والتقنية باللغة الوطنية، كي نساهم بذلك في إدخال القوالب العلمية على هذه اللغة، وبالتالي على الذهنية نفسها، باعتبار أن اللغة- كما أصبح معروفا في علم اللسان-تشكل الذهن، وتحدد النظرة إلى الوجود، أم نستمر في الحفاظ على الانشطار بين العلم والحياة، وبالتالي نرسخ استمرارية القلق الذهني والحضاري، عند القطاع الأكبر من المواطنين؟” (ص:6؛سياسة تعريب التعليم بالمغرب).
وقال أيضا:”إن ازدواجية لغة التعليم لا توجد إطلاقا في أية دولة في العالم المتقدم، ولو كانت مقبولة من الوجهة التربوية، لكانت فرنسا نفسها، قد أخذت بها، وجعلت الإنجليزية، لما لها من ثقل علمي، لغة للتدريس في نظامها التربوي” (ص:7).
اندحار اللغة الفرنسية:
أما الدكتور مصطفى بن يخلف فقال:” فالبعض يدافع عن “فرنسة” التعليم العالي، بحجة أن اللغة الفرنسية هي لغة التفتح على التكنولوجيا العالمية، وأنها الوسيلة المثلى للمعاص…إلخ.. وكما أشرتم في تعقيبكم، فالفرنسية هي نفسها متخلفة عن لغات أخرى.. فمثلا إذا ما قارناها بالإنجليزية.. فهنا يمكن أن أستنتج استنتاجا فوريا، مفاده: أن ما هو متوفر على المستوى العلمي بالإنجليزية.. علينا أن ننتظر عشر سنوات ليتوفر باللغة الفرنسية، وإذا أردنا أن نقارن الفرنسية باللغة الألمانية في ميدان علمي مثل الكيمياء، فالألمانية متفوقة بأشواط عديدة.. وهنا أريد أن أشير أن العلماء الفرنسيين الواقعيين- ولنأخذ ميدان الاقتصاد الذي أشرتم إليه في سؤالكم- غير مرتاحين للفرنسية…فرجل الاقتصاد”آلي”الحائز على جائزة نوبل، وهو فرنسي، نجده يحث الشباب الباحثين على استعمال اللغة الإنجليزية، في مقال له نشرته جريدة “لوموند”، فالفرنسية لا تفتح المجال لمواكبة والمساهمة في الإبداع الاقتصادي العالمين [..] أرى أن الإنسان الإفريقي سيضيع طاقة كبيرة، وهو يجري وراء سراب الفرنسية.. فالفرنسيون أنفسهم يعيشون أزمة لغوية، ويتفتحون على ما يجري في اليابان مثلا باليابانية، وما يجري في الدول الأنجلوساكسونية من خلال الإنجليزية. وسيأتي يوم سيجد فيه الإفريقي نفسه في مأزق، عندما يكتشف أن معلميه الفرنسيين لا يملكون رصيدا لغويا يمكنهم من الانفتاح -من خلال الفرنسية- على العالم الخارجي…” (ص:28-27).
إذن لماذا التشبث والتعلق بغريق، والإصرار على أنه سباح ماهر سيأخذنا إلى بر الأمان اللغوي والحضاري، مع أن الأمور واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.أم أنهم يتمثلون قول الشاعر:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ٭٭٭لعمر الله أعجبني رضاها
هوس التعدد اللغوي على حساب شخصية الطفل:
لقد أصيبت الأسر المغربية بهوس التعدد اللغوي، وأول من أصيب بهذا الداء، نحن أسرة التعليم، المفروض فينا أن نكون أول من يفطن لما يخطط لنا من مؤامرات ودسائس سميت بمسميات ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبلها العذاب.
إن هذا الهوس لا يعني إلا الجهل ببواطن الأمور، والجري وراء آخر صيحات”الموضة” في كل مجال.وأعني بذلك التشجيع والبحث عن الرياض والمدارس التي تدرس الأطفال منذ نعومة أظفارهم عدة لغات غير اللغة العربية، وهذا خطأ تربوي شنيع، على الأسر أن تتفطن له، وأن لا تجري وراء كل ناعق، لأن قوة الشخصية تقتضي أن نوطن أنفسنا، ولا نكون إمعات، إن أحسن الناس أحسنا، وإن أفسدوا أفسدنا.
قال عمر عبيد حسنه في”تقديمه”:”ومن هنا ندرك الأبعاد الكاملة- على المستوى الفكري والثقافي- لاتجاه الذين يمنعون اللغات الأجنبية، قبل سن الثانية عشرة، حيث تعتبر هذه السنوات الاثنتا عشرة، هي سنوات بناء المرجعية بالنسبة للإنسان..وندرك أيضا أسباب بعض الخلل والإصابات الثقافية التي نعاني منها” (ص:11، في شرف العربية).
فيا أباة المغرب!استيقظوا!استيقظوا!وتمثلوا قول الشاعر: