جبر العواثر باهتبال العشر الأواخر
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الإثنين 13 يوليوز 2015
حلت بنا العشر الأواخر من رمضان، التي تعتبر لياليها أفضل الليالي على الإطلاق، حتى أقسم بها الله تعالى فقال: “وَلَيَالٍ عَشْرٍ“. فيها يشمر المشمرون، ويتزود المتزودون، ويتميز العابدون، ويسعد المخبتون. وفيها يجأر المذنبون بدعائهم، وتختلط دموع انكسارهم بطلب مغفرة ذنوبهم. ليال يعب فيها الصالحون من العبادات وأعمال الخير، ويتذكرون “يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا“، يوم ينادي ربنا -عز وجل -: “يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ” مسلم.
هذه الليالي التي فضلك الله – عز وجل – إذ نسأ في عمرك حتى تحياها، فكم من مشتاق إليها مات قبل قدومها؟، وكم من مؤمل إحياءها سبق عليه الكتاب فقبضه الله قبلها؟
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَجُلاَنِ مِنْ بَليٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: “أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلاَفِ رَكْعَةٍ صَلاَةَ السَّنَةِ؟” صحيح الترغيب.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الليالي العشر مجتهدا في العبادة، زائدا عن الحظ الذي كان يتقرب به في غيرها.
روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها“.
وقال النووي: “يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، وإحياءُ لياليه بالعبادات”.
وقال سفيان الثوري: “أَحَب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك“.
وقال الشافعي: “أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها، كاجتهاده في ليلها“.
ومن الأعمال التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص بها هذه العشر:
1ـ إحياء الليل، كله أو بعضه، لقول عائشة -رضي الله عنها-: “كانَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا كانَ رمَضانُ قامَ ونامَ، فإذا دخَلَ العَشرُ، شدَّ المِئزرَ، واجتنبَ النِّساءَ، واغتَسلَ بينَ الأذانينِ، وجعَلَ العَشاء سَحورًا” أحمد. قال ابن رجب: إسناده مقارب.
وفي الحديث المتفق عليه، تقول عائشة -رضي الله عنها-: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله“. ومعنى شد المئزر، أنه كان يجتنب النساء، تفرغا للعبادة، وإقبالا على الله، وتركا للاهتمام بملذات الحياة. قال ابن رجب: “وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- غالبا ما يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع”.
2ـ إيقاظ أهله للصلاة في هذه الليالي دون غيرها، ويتأكد إيقاظهم في الأوتار منها، رجاء فضل ليلة القدر.
فعن علي -رضي الله عنه- “أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ” صحيح سنن الترمذي.
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا، يقول لهما: “ألا تقومان فتصليان؟” متفق عليه.
وكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ الله، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلاَةِ يَقُولُ لَهُمُ: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)” الموطأ، وصححه في المشكاة.
3ـ الاغتسال بين أذان المغرب والعشاء -كما مر في الحديث- مع استعمال الطيب.
قال ابن جرير: “كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.
وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة.
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر”.
وكان أيوب السَّختِياني يغتسل ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، وأربعٍ وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويتطيب.
وكل ذلك دليل على حرصهم على أن يكون اعتناؤهم بهذه العشر أعظم من اعتنائهم بغيرها، إذا العبرة بالخواتيم.
قال ابن الجوزي: “إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق.. فلا تكن الخيل أفطن منك، فإنما الأعمال بالخواتيم.. فإنك إذا لم تحسن الاستقبال، لعلك تحسن الوداع”.
وقال شيخ الإسلام: “العبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات“.
وقال الحسن البصري: “أَحْسِن فيما بقي، يُغفرْ لك ما مضى“.
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته***في شهره وبحبــل الله معتصـما
وكيف لا يهب المسلم إلى استغلال فرصة العشر الثمينة، وفيها ليلة هي خير من ألف شهر، ليلة القدر، التي تعتبر العبادة فيها بأجر عبادة أزيد من 83 سنة، سواء كانت العبادة صدقة، أو كلمة طيبة، أو عفوا وتسامحا. ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها ليلة من حرم خيرها فقد حرم.
قال بعض أهل العلم: “هي خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف غاية في العدد”. وهي ليلة “تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها“، يُؤَمِّنون على دعاء الناس، ويسلمون على أنفسهم وعلى المؤمنين في المساجد حتى يطلع الفجر. وهي سلام على المؤمنين القائمين ليلهم، لا يمسهم فيها آفات ولا أمراض. وهي الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ولذلك سميت ليلة القدر، لشرفها وعظم قدرها ومنزلتها. وقيل لتقدير الآجال فيها، أو تقدير أعمال العباد في سَنَتِهاَ، “فيها يفرق كل أمر حكيم“. قال ابن كثير -رحمه الله-: “في ليلة القدر، يُفَصَّلُ من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمرُ السَّنَةِ وما يكون فيها من الآجال والأرزاق“.
ولم يحدد شرعنا يومها، ليجتهد الناس في العبادة طيلة العشر، غير أنها توجد في الوتر منه. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” متفق عليه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: “فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة” متفق عليه. والجمهور على أن أرجاها، ليلة السابع والعشرين.
قال أبي بن كعب: “وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها” مسلم.
وسَأَلتْ عائشةُ -رضي الله عنها- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عما تقوله فيها، فقال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” صحيح سنن الترمذي.
فيهَا منَ الأيامِ أعظمُ ليلةٍ***بُشرَى لقائمِ ليلِها بِجِنـَـــانِ
ومما يزيد هذه الليلة تعظيما، أن الله تعالى اختارها لينزل فيها كتابه العزيز. قال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر“، وهي الليلة المباركة المذكورة في قوله تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة“. قال ابن عباس وغيره: “أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“.
ولقد كان جبريل -عليه السلام- يلقى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في كل ليلة من ليالي رمضان، فيدارسه القرآن، ويعارضه به. وسار على النهج سلفنا الصالح. قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: “لو طهرت قلوبنا، لما شبعت من كلام الله“.
ـ فهذا سفيان الثوري -رحمه الله- إذا دخل رمضان، ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
ـ وهذا قتادة كان يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة. والله يبارك للمخلصين في أوقاتهم وعبادتهم، فلا عجب. قال الحافظ ابن حجر: “إن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير“. وقال الحافظ بدر الدين العيني: “إن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده كما يطوي المكان“.
وهذا لبّ ليلة القدر وأساسها: القرآن، قراءةً، وتدبرا، وفهما، وعملا، لا تخصيصها بزيارة المقابر، وإرسال البخور في جنبات المنزل خوفا من الجن، والتفنن في الطعام والشراب، والسهر على القيل والقال، والمناقشات العقيمة، وترصد القنوات السقيمة، والمسلسلات المقيتة.
مِلاكُ الأمر تقوى الله فاجعلْ***تُـقاه عُـدةً لـصــلاح أمـــركْ
وبادر نَحو طاعتـه بعــــزمٍ***فما تدري متَى يُمضَى بعمركْ