شذرات ربيعية (ح5)
ربيع السملالي
هوية بريس – الثلاثاء 14 يوليوز 2015
– قالتْ لي: كيفَ تجدُني بعدما سَبَرْتَ شيئًا من أغواري؟ فقلتُ لها: أمّا قلبك فأبيضُ، وأمّا روحُك فأنيقة، وأمّا ملامح وجهك ففيه آثارُ مدينة مهجورةٍ، كانتْ مأهولةً بسكّانِ العِشقِ العُذْرِي في زمن ضياعِ الحبِّ وانصياعِ الهوى.
– لم أكن أعلم أنّ كتابي المفضّل (صيد الخاطر) للعلاّمة ابن الجوزي قد ضبط نصّه وحقّقه الشّيخ المفكّر الأديب محمد الغزالي! حتى إذا كان هذا المساء وانصرفت من المسجد بعد صلاة المغرب أتجوّل كعادتي قاصدا مكتبة جديدة أختلفُ إليها مرّتين في الأسبوع لأرى جديدها، فإذا بعينيّ تقع على هذا السّفر النّفيس فكأنّها وقعت على كنز! فشرعت أقلّب أوراقه بلهفة وأتأمّل هوامشَ الشّيخ الغزالي بشغف.. فاندفعت إلى صاحبة المكتبة بعدما تأبّطت الكتاب ورضيت عنه وعن طبعته (دار نهضة مصر) كلّ الرِّضا لأنقَدَها ثمنه الذي في متناول جيبي، وأنطلق بعدها لاحتساء مشروبٍ باردٍ احتفالا به وحبورا!
– في مقدّمة كتابي (أفكارٌ على ضفافِ الانكسار) خاطبتُ القارئ بصديقي، لأنّني من قديم أكره الكاتب الذي يخاطب النّاس بلغة استعلائية وكأنّه يخاطبهم من برجٍ عالٍ دونَه خرط القتاد.. معتقدًا أنّ بتأليفه كتابا أو كتابين قد صار ذا شأنٍ وخَطَر.. وليت هذا المتعالمُ يُدركُ أنّ المطبعات قد أصبحت وأمستْ بلا رقيب ولا حسيب لا تردّ يدَ لامس ولا خواطرَ مومس!.. فقط عليك بدفع الدّرهم والدّينار ولو كنت أبا جهل وأبا غباء وحمّالةَ حطب!
– أغلبُ النّاس عندهم فراغٌ عاطفي.. وأنا عندي فراغ في مكتبتي لاسيما كتب التّاريخ والفقه الحنبلي!
– ليست الأخوةُ في الله هي أن تلتقيني بباب المسجد فتضمّني إليك بحرارة وعنف حتى تكاد تختلف أضلاعي، وحتّى يُخيّلَ للنّاظر إلينا أنّ محبتنا بلغت في مداها محبة سعد بن الرّبيع وعبد الرحمن بن عوف! وإنّما الأخوة هي أن تتفقّدني إذا غِبتُ، وتغنيني عن السّؤال إذا افتقرتُ، وتردّ عن عرضي إذا طُعنت… وبعدها لا تهتم للشّكليات فيكفيك أن تصافحني بيد بيضاء خالية من الرّياء… ودع العِناقَ لأهل النّفاق!
– قالت لي: كيفَ قضيتَ يومَك؟ فقلتُ: قضيته بين دَفَّتَيْ كتاب، ورسالة عتاب (من تلك السّابحة في أحداقي)!
– من سبعٍ وعشرين سنة وأنا أكابدُ مشقّة العِلم والتّعلّم.. ولم أصل بعدُ إلى ما أصبو إليه! ولا أظنّني سأصلُ.. فكلّ يوم اكتشفُ شيئًا جديدًا في العلم والفكر والأدب! وفي اكتشافي للجديد اكتشافٌ لجهلي! ومع المحبرة والقلم والكتاب إلى أن ألقى الله!
– قالتْ لي كاتبةٌ يُعجبنِي حَرفُها: وضعكَ للإعجاب على ما أكتبه يَكادُ يُشعرني بالغرور! فقلت لها مازحًا: جميلٌ جدّا أنّكِ أخبرتِني…لكي لا أزيدُ على الإعجاب تعليقًا، فتصابينَ بمرضِ نونِ الجَمَاعة.
– خطيبُ الجمعة أثارَ شجوني بحديثه عن رمضان، وعن أناس مسلمين كانوا من الصّائمين معنا العامَ الفائت، واليومَ هم تحت الثّرى يواجهون المصير المحتوم.. فأطرقتُ حزنًا وانشغلتُ بمأساتي وضاعَ منّي التّركيز مع خطبته كلّها… حين تذكّرت جدّتي وحبيبة قلبي (الغالية) التي فارقت ديارنا وودّعتنا استجابة لنداء الحقّ: (كلّ نفس ذائقة الموت).. كانت رحمها الله بيننا في رمضان، وكنت أزورها كلّ مساء بعد صلاة التّراويح، متلذّذا بالمسير في تلك الطّريق التي كنت أقطعها سيرا على الأقدام رغم بعدها، شوقًا إلى النّظر في وجهها الذي أتعبته الأسقام وزادته رهقا..
فإلى أين سأذهب وإلى أين سأتوجّه إذا حلّ رمضان المبارك وقد ألفتُ تلك الطّريق وتلك الدّار وذلك الوجه الذي لم يغب عنّي مذ زرت هذه الدّنيا من خمس وثلاثين سنة.. رحماك يا الله رحماك.. ودّعْ هريرةَ إنّ الرّكبَ مرتحلُ… وهل تطيقُ وداعًا أيّها الرّجل! لا والله لا أطيقه.. لا أطيقه.. لا أطيقه…
– من أجمل هواياتِي على الإطلاق: ممارسَةُ التَّفكير، والتَّوغّلُ في أعماقِ هذه النَّفسِ التي تتلبّسُني، والتّنقيبُ عن المعاني التي يمكنُ التقاطها من دنيا النّاس وعالمِ الكتب، بعينٍ شاخصةٍ كأنّها عينُ ساعاتي!
– من الأشياء المزعجة في هذا (الفيس بوك) تلك المبالغة في المثالية بين الزّوجين، فتجد الرّجل يبارك لزوجه مناسبة من المناسبات على مرأى ومسمع من النَّاس قائلا: حبيبتي فلانة أبارك لك هذا الشَّهْر المبارك سائلا الله تعالى أن يعينكِ على طاعته، وتردّ عليه هي بعبارات أكثر رقّة وحنانا حتّى يُخَيَّل للمتابع أنّهما بعيدان عن بعضهما بعدًا مأساويا! والحقيقة أنهما يكتبان من غرفة واحدة في مدينتهما الفاضلة!.. تبّا للرّياء كم قصم من ظهر!
– حُبِّبَ إليَّ من الدّنيا الأمنُ والعافيةُ وعيونُ حبيبتي، وجُعلتْ قُرَّة عيني في مُطالعة الكتب!
– توطّدَت علاقتي بأستاذي الأديب الشّيخ مُحَمَّد بن إدريس بلبصير إلى أن وصلتْ إلى دَرَجَةِ صديق!.. وقد صار يتّصلُ بي كثيرا لأزوره في بيته ابتغاء التّحلّق حول مائدة الشّاي المغربية ومناقشة العلم والفكر والأدب واغتياب الشّعراء (الاغتياب المحمود).. ولم أرَ في حياتي كلِّها صداقةً بين شيخ في السّبعين وشابّ في الخامسة والثّلاثين إلاّ بيني وبينه!… وَإِنِّي لأشعر وأنا في حضرته كأنّي بين يدي موسوعة ضخمة مخطوطة جمعت بين الفقه والأدب واللّغة والفلسفة والتّاريخ!.. هذا المخطوط النّادر الذي يحتاج إلى من يقوم بتحقيقه وإخراجه لِلنَّاس في أبهى حُلّة وأجود تحقيق.. فالقليل من النَّاس من يعرف قيمته العلمية والأدبية والشّعرية-
– مِنْ ضَعْفِ تاء التّأنيثِ أستمدّ قوّتِي، وبها أستعينُ على شَقِّ طريقي نحو الخلود!
– حبّي لها لم يكنْ شيئا مُنْتَظَرًا، ولا مهّدتُ الطّريق لقلبي كي يستقبلها، بل لم يكن الحبّ من الأشياء التي تستهويني، ولا التي أشغل بها فؤادي هذا الهادئ، لكنّه انبثق من أعماقي فجأةً كابتسامة طفل بريء رأى قطّة ناعمة على حين غفلةٍ منه تُلوِّح له بذيلها! وإن شئتَ فقل جاءني فجأة كالموت وأنا سادِرٌ في غييّ لا أشعرُ!
– تاركُ الصّلاةِ كافرٌ مرتَدّ عند كثير من العلماء، وتاركُ القِراءة ما حكمُه إذا استحضرْنا أمرَ اللهِ عزّ وجلّ (اقرأ)؟!
– قلتُ لها: هل تدرين.. فأنتِ من العَشَرة المُبَشّرين بقلبي! فأطرقتْ حبّا وحياءً، ثمّ همسَتْ بصوت ناعم سَافَرَ بي نحو الخلود: أنا سعيدة بقربك يا ربيع أيّامي.. يا ربيع وجداني! فأجبتُ ويدي على قلبي مخافةَ الفِرار انتشاءً: سعادتكِ تهمّني يا ناعسَ الطّرفِ مسرورًا بفتنته.. إنّ الرّبيع قد يطرقكِ أسحارًا فأهدتني ابتسامة بشفتين مرسومتين بإتقان تحت أنفها المستقيم، وكأنّها تقول لي: ستجدني إن شاء الهوى في انتظارك على السّاعة العاشقة بعد منتصف الحبّ، عند محطّة الوفاء، مرتديةً أجمل ما أملك من كلمات لأوزّعها على أسارير قلبكَ المُعَنَّى!
– لا تجعل الكتبَ المكدّسة في بيتك تحولُ بينك وبين النّظر في كتاب ربّك، فتكون من الخاسرين! وحاول ما استطعتَ أن تستعين على فهمه بكتاب السّيد الشّهيد بإذن الله (سيد قطب) في ظلال القرآن / ستّة مجلّدات ضخام بطبعته الجيّدة (دار الشّروق)! وإن كنت ذَا همّة هزيلة لا تستطيع السّباحة في أعماق هذا البحر الذي لا ساحل له، فالزم غرز تفسير ابن السّعدي في طبعته المميّزة دار ابن الجوزي أربعة مجلّدات، أو طبعة مكتبة الأوس في خمسة أجزاء لابأس بها وهي التي عندي. -ولقد جرّبتُ اللّذائذَ كلَّها إلاّ لذّة القُرب من أبي والشّعور بحنانه !..فقد أسرعتْ إليه يدُ المنية قَبْلَ أن تستوفيَ طفولتي حظّها منه.
– جاءتني فكرة البارحة تمشي على استحياء، لم أكن منتظرًا قدومَها المفاجئ.. وأنا منغمس في جوّ من الهدوء في أحضان ليل بارد كبرود قلبي، أسودَ كسواد أيامي.. ألقتْ عليّ نظرة عجْلَى وكأنها تقول لي ارسمني على أوراقك البريئة تخليدا لذكرايَ، واعرضني على قرّائك فقد أجد حفاوة تليق بمعان لا عهدَ لهم بها من قبل.. فابتسمتُ بحزن، محوّلا نظراتي عنها نحو الأفق البعيد لعلّي أجد تفسيرًا لشرنقةٍ أبَتْ نفسي الخروج من مضايقها.. أخذتُ القلمَ بكسل وأغلقته بعنف.. وتناولتُ الورقةَ بلطف لكي لا أزعجَ بياضَها بأفكاري الغريبة.. ثمّ نِمْتُ بعدما ضربتُ لهما موعدًا بعد بزوغ فجر صادق تخرّ له أوهامي ساجدةً!