الإسلاميون والدولة.. محاولة لفهم العداوة بينهما
ذ. إبراهيم الطالب (مدير جريدة السبيل)
الخميس 16 يوليوز 2015
أبانت مرحلة ما بعد الربيع العربي أن الجماعات والتيارات الإسلامية عامل أساس في معادلة الحكم في كل البلدان الإسلامية، وأن أي استقرار مشروط بإشراك رجالات هذه الحركات والتيارات الإسلامية في الحكم، رغم العداء المزمن بينها وبين الدول التي هم جزء مهم من شعوبها، بل يحتلون موضع الأسوة والقدوة والأمل فيها، وهذا ما يفسر النجاح الكاسح للإسلاميين في الانتخابات في مختلف الدول الإسلامية.
لكن هذه العداوة غير المفهومة تبقى هي السمة الغالبة التي تحكم العلاقة بين الإسلاميين ودولهم، والتي وصلت حد التخوين والسجن والإعدام والانقلاب وإدخال الشعوب الإسلامية في دوامات الاقتتال والحرب الأهلية.
فكيف يمكن فهم هذه العداوة؟
في سنة 1924 استطاع الغرب إسقاط نظام الخلافة الإسلامية وتنحية شريعة الإسلام من دواليب الحكم وتدبير الشأن العام في الدول الإسلامية، بعد محاولات عديدة استمرت طيلة قرون الحروب الصليبية، واستؤنفت بعد تحطيم الصليب بسيف ثورات “المتنورين” في أوروبا وأمريكا وتقزيم دور كنائسها ورجال دينها، حيث حاول ثوار أوروبا على الخصوص تصدير أفكارهم ومعتقداتهم العلمانية إلى الدول الإسلامية التي كانت تحت سلطة نظم الانتداب والحماية أو الاحتلال المباشر، وحارب دهاقنة الغرب ومنظرو الإمبريالية كل مظاهر الدين والشريعة في بلدان الإسلام، وحاربوا الفقهاء والعلماء وحملة القرآن لعلمهم بالدور الأساس الذي يلعبونه في إيقاظ الهمم وإذكاء روح الجهاد في نفوس الشعوب.
يقول ليوطي: “لا أخاف على وضعيتنا إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين ليتحلق الطلبة حولهم، فيبثون فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة، قبل أن يلقنوهم دروسا في الشريعة الإسلامية” (قدور الورطاسي؛ ذكريات في الدراسة بفاس ص:50).
وكان هذا التخوف الذي أبداه أمثال المارشال ليوطي يُترجم إلى قرارات صارمة، يقول “بول مارتي” في كتابه “مغرب الغد” (ص:241): “كل تدخل من قبل الفقيه وكل ظاهرة إسلامية يجب منعها بصرامة تامة”.
وبالفعل حارب الغرب العلماني المحتل العلماء والفقهاء ومؤسساتهم، حتى يتم له إرساء نظم جديدة للحكم على أنقاض بنيان الشريعة الإسلامية، وبالفعل بدأت ملامح الدولة الحديثة تتشكل شيئا فشيئا حيث تبنت سلطات الاحتلال النظام الحزبي فأنشأ المسلمون الأحزاب وانخرطوا فيها وفي العمل السياسي مما أعطى لسلطات الاحتلال نوعا من المشروعية والإقرار، وسنت القوانين الوضعية المستوردة من بلادها العلمانية، فتحاكم المسلمون إليها بعد إلغاء القضاء الإسلامي والشريعة الإسلامية، وبُنيت الإدارات الحديثة والمؤسسات، وأنشئت البنوك والمصارف الربوية وتهيكل الاقتصاد كما السياسة على أصول العلمانية مع إقصاء الشريعة، وظل الاحتلال يحكم الشعوب الإسلامية بالنار والبارود والإعدامات والسجون، إلى أن أجلس النخب على طاولات المفاوضات في كل الدول الحديثة في الوطن الإسلامي المفصل وفق أطماع ومصالح الدول الإمبريالية.
تلك المفاوضات الشبيهة بمفاوضات “إكس ليبان”، المتعلقة بالمغرب، خرجت بقرارات نصت على استقلال توافقي أجبرت فيه أغلب الدول على حماية مصالح جلاديها ومَن سامها الخسف طيلة عقود مديدة.
وبعد الاستقلال التوافقي فرحت الشعوب، وظن الطيبون أن الكفار قد خرجوا وأن الرجوع إلى الإسلام والعمل بشريعته أصبح ممكنا.
لكن هيهات أن تسمح النخبة السياسية التي رعاها دهاقنة الاحتلال بالمساس بمصالحه التي امتزجت بمصالحها، ولو أدى ذلك إلى الفوضى والإعدامات، فتوالت جرائم بورقيبة وبعده بنعلي، وجرائم جمال عبد الناصر وبعده السادات ومبارك، فكان إعدام أمثال البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب، وأحداث حماة زمن الأسد الأب، وانقلاب العسكر على جبهة الإنقاذ في الجزائر وصولا إلى أحداث الإسلاميين في ليبيا مع “حفتر”، والتضييق على النهضة في تونس، وانتهاء بأخبار الانقلابيين في مصر واستعداداتهم لإعدام الرئيس مرسي أول رئيس منتخب في عيد الفطر المقبل لا مكنهم الله منه.
إذن، فالعداء بدأ بين إدارة الاحتلال الغربي ورجاله، ثم اتفق على ضمان استمراره مع من سلموه السلطة من بعدهم، وإلا لماذا يفرح الأمريكان ويشربون نخب مقتل سيد قطب؟
ولماذا تتستر أمريكا وأوروبا بإعلامها وساستها ومنظماتها على جرائم الأنظمة عندما تكون الضحايا من بين الإسلاميين كما في محرقة رابعة والنهضة، ومن قبلها جرائم بشار، وبينهما جرائم النظام الجزائري ضد جبهة الإنقاذ بل ضد كل القرى التي صوتت لصالح الجبهة، حيث أعملوا فيهم القتل طيلة عشر سنين.
إن عداء الدول للإسلاميين وجماعاتهم، لا يمكن فهمه إلا بإدراك نوع العلاقة بين الغرب المحتل والقائمين بعده على الحكم في مختلف البلدان الإسلامية، هذه العلاقة التي يمتزج فيها السياسي بالاقتصادي، فالاقتصاد الغربي الذي احتاج في ثورته الصناعية إلى التوسع بحثا عن المواد الأولية وموارد الطاقة، هو اليوم أحوج منه بالأمس إلى مقدرات وثروات العالم الإسلامي خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تهدد انفراط عقد الاتحاد الأوروبي.
الساسة الغربيون لا يمكن أن يقيموا الحكم في دولهم دون أن يستغلوا مقدرات الدول الإسلامية التي تنام فوق ثروات هائلة، ويعلمون أن وصول الإسلاميين إلى الحكم سيحول دون ذلك، لعلمهم بالبناء العقدي، الذي لا يحل لهم التواطؤ ضد شعوبهم بل أمتهم، وقد صرح الفيلسوف والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بأن السبب في الانقلاب على مرسي كان هو إصراره على مشروع قناة السويس وكذا مشروع إعمار سيناء. التي يريدها الكيان الصهيوني مساحة خالية من السكان لتبقى حاجزا طبيعيا يحميه من أي تهديد بشري.
فلما علم الأمريكان والغرب وربيبهم الصهيوني أن مرسي لا يساوم قرروا دعم الانقلاب العسكري وأتوا ببيادقهم أمثال البرادعي، ووفروا التعتيم الإعلامي والتمويل من دول الخليج التي يملكون من خلال شركاتهم الكبرى جزء مهما من اقتصادياتها بحيث لا يمكن التمييز بين أموال أمراء الإمارات والشركات الغربية الكبرى، الأمر الذي دفع الدكتور النفيسي أحد المفكرين الخليجيين إلى اعتبار دبي بمثابة تل أبيب ثانية في الخليج العربي.
وإذا كانت الدول الغربية تعتمد على بلداننا من حيث المواد الأولية ومصادر الطاقة وتسويق سلع شركاتها والحصول على الصفقات الكبرى، والتصويت على قرارات الأمم المتحدة لصالح دولها، فإن الساسة في دولنا يعتمدون على الغرب بالمقابل في حماية الأمن بدعم قضاياهم الترابية التي افتعلوها هم أنفسهم، في كل حدود البلدان الإسلامية، ويعتمدون عليهم كذلك في الحماية من سطوة الإعلام الدولي بحيث يضمنون التعتيم على جرائمهم وانتهاكاتهم ضد شعوبهم، وكذا في المدد الاستخباراتي لضبط ومراقبة معارضيهم، وأهم من ذلك كله ضمان استمرارهم في الحكم، كما هي حالة بشار فرعون سوريا اليوم.
فرجال الحكم في بلداننا بالإضافة إلى ضعف ولاء شعوبهم لهم، يعلمون أن الدول الغربية خصوصا أمريكا قادرة -بما تملكه من وكلاء وبما تتوفر عليه من مؤسسات إعلامية وشبكات استخبارية- على خلق المتاعب والقلاقل لأي حاكم لا يستجيب لابتزازهم، والتاريخ يعلمنا بتكرار ضلوع السفارات الغربية في كل القلاقل التي مرت بها الأمة؛ حيث كان رجال تركيا الفتاة والاتحاد والترقي يجتمعون داخل سفارة روسيا وفرنسا وبريطانيا، وتكتب منشوراتهم التحريضية على السلطان عبد الحميد على آلاتها الكاتبة وتخرج في الحقائب الديبلوماسية لتوزع على نشطاء الاتحاد والترقي في مناطقهم فتعمم على المواطنين، والأمر يتكرر اليوم حيث يتم تدريب المعارضين والثوار في أمريكا وأوربا، ثم يُرسَلون للإفساد في بلدانهم.
إن علاقة الحكومات في بلداننا بدول الغرب ليست علاقات ندية بين طرفيها، فضعف حكوماتنا وعدم استقلالها في عالم محكوم بمؤسسات دولية تتحكم فيها دول الفيتو، يجعلها في خضوع مستمر لإملاءات الغرب.
وما دام الغرب عدواً للمشروع الإسلامي فسيبقى الإسلاميون مستهدفين من طرف حكوماتهم، نظرا لكون حكومات الدول الإسلامية لم تستطع أن تتفلت من سياسة الغرب في الإلحاق الحضاري لشعوبنا ودولنا بشعوب الغرب ودوله، هذه السياسة المنبنية بالأساس على مشاريع العلمنة المنظمة المعتمدة كليا على ما وصل إليه الفكر الغربي المتمسح بحقوق الإنسان والمرأة والطفل وغيرها من القضايا الحقوقية والثقافية.
وما دام الحال كما أسلفنا، فإن العداء سيبقى هو السمة الحاكمة للعلاقة بين الإسلاميين ودولهم.
وحتى نستبين تأثير الغرب في إذكاء نار العداء بين الإسلاميين ودولهم نتأمل ما رواه السفير السوري الأسبق عمر بهاء الدين الأميري حيث كتب في مجلة المجتمع يقول: “كنت سفيراً لسوريا في السعودية عام 1954م يومها قامت دول عربية كثيرة بالتوسط لدى جمال عبد الناصر للعفو أو تخفيف حكم الإعدام عن الإخوان المسلمين المعتقلين الأستاذ حسن الهضيبي وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت ورفاقهم، وكل هذه المساعي لم تنته إلى نتيجة إيجابية، وقال لي الملك سعود أنه بذل من أجل ذلك كل جهده لكن كل وساطاته لم يستجب لها.
في الصباح زارني عميد السلك الدبلوماسي في ذلك الوقت وهو السفير الأمريكي «وودس وورس» وهو رجل متقدم في السن ومعروف عنه أنه متعاطف مع القضايا العربية وأنه منطلق اللسان وخلال الحديث قال لي:
«أرأيت ما فعله هذا الأحمق؟».
قلت: من؟
قال: عبدالناصر.
قلت: ماذا فعل؟
قال: أعدم الإخوان المسلمين، ونحن لا يهمنا أمر الإخوان المسلمين كثيراً، ولكن بيننا وبينه معاهدة سرية بها بندان هامان: الأول تجميد القضية الفلسطينية لمدة عشر سنوات، والثاني تعطيل وإيقاف نشاط الإخوان المسلمين وفعالياتهم. لم نقل اعمل مجزرة واذبح الناس، والآن كل من تأذى وتضرر من هذا الذي حصل سيكون عدواً لدوداً لأمريكا، وأمريكا لا يهمها هذا ولكن ما العمل؟
قلت: ما هي قيمة الإخوان المسلمين في نظر أمريكا حتى تجعل من بنود الاتفاق السري بينها وبين عبد الناصر أن تقضي على نشاط الإخوان المسلمين.
قال: ماذا تعرف أنت عن الإخوان المسلمين؟
قلت: أعرف أنهم جمعية خيرية طيبة تفتح مستوصفات لمعالجة الفقراء، تعين محامين أحياناً للمظلومين، تفتح مراكز لمحو الأمية.
قال: فقط هذا؟
قلت: نعم هذا فقط.
قال: لا.. أنت لا تعرف.
قلت: ما هي إذن حركة الإخوان المسلمين في نظرك؟
قال: هي أخطر مؤسسة موجودة في العالم اليوم على الحضارة الغربية القائمة.
قلت: لماذا؟ من أين تصدر هذا الحكم؟
قال: هؤلاء يربون الأجيال وشباب البلد على الإسلام، ويقوون مكانتهم في المجتمع ويكونون لهم قوة ضاغطة ومتحركة، وكل الأشياء التي ذكرتَها ما هي إلا وسائل لكي يجتذبوا بها قلوب الناس ويصلوا بعد ذلك إلى الحكم وعندما يحكمون فإنهم سيحكمون بعقلية عمر بن الخطاب وهي الطامة الكبرى على حضارتنا القائمة ولذلك كان هذا موقف أمريكا.
ومن ناحيتي حتى لا تضيع هذه المعلومات، أخذتها وكتبتها بتقرير سري رسمي إلى وزارة الخارجية السورية بتوقيعي، والمفروض إذا كانت وثائق الخارجية السورية موجودة ومحفوظة أن تكون بينها” اهـ.
فمتى تعي الدول الإسلامية أن عليها أن تجد وسيلة للتعاون مع الجماعات الإسلامية وفسح المجال لها للمشاركة في الإصلاح بدل سياسة العداء والإقصاء التي لا تخدم إلا مصالح الأعداء؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم