أثر الفكر الديني الظلامي في خلخلة الأمن
الياس الهاني
هوية بريس – الإثنين 30 شتنبر 2013م
ما زالت مجموعة من القضايا والأطروحات التي ظلت على مدى قرون من الزمن محجوبة عن الأنظار والدراسات والأبحاث، من ذلك قضية الدور الذي لعبه الفكر الديني الظلامي في قيام الدول وإسقاطها؛ فما المراد بالفكر الديني الظلامي؟ وما هو الدور الذي لعبه في التاريخ حتى يمكن لنا وصفه بهذه الألقاب ونطلق عليه هالة من التحذيرات والخطوط الحمراء؟ وهل للفكر الديني الظلامي علاقة في توطيد الأمن وإخلاله؟ هذه الأسئلة وغيرها نجد بعض الإشارات والإجابات عليها من خلال ما سنتناوله في هذا المضمون.
بادئ ذي بدئ نشير ولو بإيجاز إلى المصطلحات التي استعملناها في تركيب عنوان هذا المقال ألا وهي: (الأثر – الفكر – الدين – الظلامية – خلخلة – الأمن) فنقول إن:
– الأثر المراد به هنا؛ الدور والمهمة.
– الفكر المراد به هنا؛ مجموعة من الأطروحات التي يطرحها الإنسان بعد مجهود عقلاني بغية تكوين معلومات عن الشئ.
– الدين المراد به هنا؛ ما يدين به الإنسان من معتقدات وأفكار يقينية مصدرها الوحي الإلهي.
– الظلامية المراد به هنا؛ النتائج المترتبة عن ممارسة الدين بشكل منحرف ما يعطي صورة مشوهة وخاطئة تجعل منه مصدر تنفير وتنغيص للحياة .
– الخلخلة المراد به هنا؛ الأضرار الناجمة عن التأويل المنحرف للدين.
– الأمن المراد به هنا؛ الاستقرار بكل أنواعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
هذه التعريفات لابد منها حتى نضع البحث في سياقه المراد به هنا.
إذا أطلقنا الآن الفكر الديني الظلامي فالمراد به مجموعة من الأنساق والأشكال التي يزعم أصحابها إنها مستندة إلى الدين والدين منها براء خصوصا إذا جعل ذلك لاستعباد الناس وإذلالهم بحجة أن هذا هو التمثيل الصحيح للإسلام والحقيقة غير ذلك، فالصوفية والزوايا بوجهها الذي عرفه التاريخ في فترة من الفترات، وكان بإمكانها أن تعلي مقام سلطان وتدني آخر، لها من السلطة التي كانت تستمدها من بطون الفقراء المريدين ما يمكنها من أن تقلب النظام وتضع مكانه آخر، ولحشد الأتباع كانت الزوايا تتفنن في طرق الاستقطاب (حكايات أسطورية عن قدور من الطعام تتسع لثور كامل ومجامر لا تغادرها النيران وزوايا كثيرة الرماد..)؛ وكنموذج لذلك لم تكن الدولة السعدية المغربية بمنأى عن ذلك، ففي القرن 15 الميلادي لجا شيوخ الزوايا إلى مساعدة الأسرة السعدية للوصول إلى الحكم عندما كانت البلاد في حرب طاحنة مع الأسرة الحاكمة، واستعملت الزوايا نفوذها وأخضعت الأنصار لأوامر شيوخها لكي تحثهم على الجهاد، وهو ما ساق جيوشا كبيرة من الأتباع إلى المحاربة إلى جانب السعديين ووصولهم إلى الحكم، أحمد بومحلي وهو متصوف وكان على رأس زاوية قوية حشد لها ألاف الأتباع كان على دراية بقوة الزوايا ومدى نفوذها ولم يتردد في خوض حرب على السلطان زيدان بن المنصور الذهبي وطرده من مراكش وإعلان نفسه سلطانا مكانه، ولكي يسترجع السلطان زيدان سلطاته تحالف مع صوفي أخر من نواحي تارودانت يدعى أبو زكرياء الحاحي، وحشد له آلاف المريدين المنضوين تحت راية زاويته ودخلوا في حرب ضروس بنواحي مراكش انتهت بالقضاء على أحمد أبو محلي، لكن الحاحي كان له رأي آخر إذ قام بشن حرب أخرى معاكسة على حليفه الذي لم يكن غير السلطان الذي استرجع عرشه للتو فكان أن دخل حلفاء الأمس في حرب ضروس على مشارف تارودانت أريقت فيها الدماء، فقد شهدت الزوايا صراعات دامية في ما بينها متصارعة على النفوذ كما وقع بين الدلائيين نسبة إلى الزاوية الدلائية بمنطقة خنيفرة والسملاليين إذ دخلت القبيلتان في حرب سنة1612م وتذابح فيها الأتباع، فيما كان شيوخ الزوايا يحثونهم على الطاعة العمياء وهو ما نتج عنه سيطرة مطلقة للزاوية الدلائية على الأطلس المتوسط، ولما استقوت وسيطرت على الطرق التجارية وامتد نفوذها إلى قبائل أخرى قامت بإعلان الحرب ضد الدولة السعدية.
فهذا نموذج حي من تاريخ الدولة السعدية لما كان يقوم به هذا الفكر الذي يدعي استناده إلى الدين وهو منه براء، من جرائم في حق الشعب، وخلخلة الأمن السياسي المتمثل في الصراع على السلطة، وإراقة الدماء لأسباب واهية، ولخلخة الأمن الاقتصادي نتيجة للحروب واحتكار عجلة الاقتصاد للغالب، وخلخلة للأمن الاجتماعي المتمثل في صراع الأسرة الواحدة وانقسامها وتشتيت الأفراد وتشردهم، والأخطر من ذلك هو خلخلة الأمن الثقافي وذلك لبروز الزوايا والصوفية بالفكر الديني الظلامي.
فما كان من خلخلة للأمن بجميع أنواعه ما هو إلا نتيجة لسيطرة هذا الفكر وإمساكه لزمام الأمور، فالتاريخ يشهد انه كلما كانت لهذا الفكر سيطرة وجولة إلا وأتى بالمصائب والخيانة وخلخلة الأمن وسفك الدماء، فمحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يقود ثورة في الريف قام بمعاقبة شيوخ الزوايا على تعاونهم مع قوات الاستعمار الفرنسي والاسباني حتى أن بعضهم فر بأمواله وأولاده واحتمى بقوات الاستعمار خوفا من عقاب ابن عبد الكريم الخطابي، وفي فاس عندما زحف الجيش الفرنسي سنة 1911 لاحتلال المدينة كان شيخ الزاوية يقول للناس: (إن النصارى ما جاؤوا إلى المغرب إلا بإذن الولي الصالح المولى إدريس)، وأن أحدهم رأى المولى إدريس في المنام وخاطبه بالقول: (إن مدينة فاس لن يصيبها مكروه من جراء الاحتلال الفرنسي)، أما في طنجة فقد خطب أحد زعماء الزوايا في الناس: (إن إرادة الله اقتضت تسليط النصارى على المسلمين فالذي يقاومون النصارى إنما يقاومون إرادة الله)، أما في سوس فقد عممت رسائل بين شيوخ الزاوية الدرقاوية بعثها إليهم زعيم الزاوية علي الالغي يوصي فيها أتباعه في مجموع الأقاليم بعدم إظهار أية مقاومة للاحتلال الفرنسي وأن يتركوا الأمر “لله الواحد القهار”، وطلب منهم أن يقرؤوا “سبحان الله ونعم الوكيل” مائة مرة في الصباح ومائة مرة في العشي، وفي نفس الإقليم بتفروات وجه الشيخ محمد بن هاشم شيخ زاوية تدعى “تيمكليشت” نداء إلى المكان سنة 1933 يدعوهم إلى الكف عن المقاومة، أما في الشمال بين تطوان ووزان فقد لعبت الزوايا نفس الدور حتى أن القوات الفرنسية سنة 1912 عمدت إلى توشيح شيوخ الزوايا بالأوسمة، حيث قام الماريشال ليوطي بتوشيح زعيم إحدى الزوايا ووصفه بأنه “أحسن عميل سياسي أثناء الحملات العسكرية التي قادها الجنرال “كورو”، فلا عجب إذن أن تكثر الدراسات والبحوث في إثبات وإلزامية هذا الأمر للصوفية -أي خلخلة الأمن الداخلي والخارجي والمساهمة في تعطيل عجلة الإصلاح والرضوخ للمستعمر- مثل كتاب “التصوف النشأة والمصادر” و”دراسات في التصوف” للدكتور إحسان الهي ظهير وكتاب “هذه هي الصوفية” لعبد الرحمن الوكيل وغيرها الكثير.
وما قامت به الزوايا والصوفية الأمس نجده الآن متجسدا في التشجيع الغربي للحركات الصوفية، يقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري: (مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام يشجع الحركات الصوفية ومن أكثر الكتب انتشارا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي وأشعار جلال الدين الرومي وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بان تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولاشك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي) ويؤكد المستشرق الألماني “شتيفان رايشموت” أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي)، ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام 2000 أطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون، فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسئولون في الدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام العادي أو الرئيس (استخدم لفظ main stream)بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم. والفكرة ذاتها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي السابق “كولين باول” في شهر نوفمبر 2001في خطاب ألقاه في جامعة “لويسفيل” بولاية كنتاكي حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية؛ تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات، وفي يناير 2001 أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط، والذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظا بالبحوث والدراسات المتنوعة، أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية؛ فثمة بحثان هما الإسلام الحديث، والطريقة النقشبندية-المجددية الصوفية والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين، وفي صيف عام 2002 أصدرت مؤسسة راند البحثية مقالة عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الاجتهادات في العالم الإسلامي ومقارنتها بالصوفية، والدعوة إلى تبني الحكومات للطرق الصوفية.
الآن نستطيع أن نقول إن الأمة الإسلامية حقا نزع منها استقلالها الذاتي والثقافي، وأصبح الغير هو من يسير أمرها، وذلك بتشجيع الحركات والأفكار الهدامة حتى يتم ابتلاع العالم الإسلامي وجعله لا يستطيع التفكير في أمره والنهوض بحضارته من جديد، انطلاقا من ثقافته وهويته وتاريخه بعيدا عن الأفكار المستوردة؛ التي لا ايجابية فيها كالفكر الديني الظلامي، كما فعل مولاي زيدان في استرجاعه للكتب أثناء الاستيلاء عليها من الملك الاسباني، فمتى سنجد رجال من الأمة لهم من الهمة ما كان للأوائل في شغفهم بالكتب والثقافة والمعرفة للبناء والتقدم والحضارة.
المراجع المستفاد منها:
– جريدة الأخبار العدد:168.
– مجلة الصوفية العدد:2.
– “دراسات في التصوف” لاحسان الهي ظهير.
– “التصوف بين التمكين والمواجهة” لمحمد عبد الله المقدي.
– “محمد بن عبد الكريم الخطابي أراء ومواقف” لمحمد امزيان.