الإخوان بين منشية «عبد الناصر» وتفويض «السيسي»
هوية بريس – احسان الفقيه
الأحد 26 يوليوز 2015
الزمان: 24 مارس 1954م
المكان: القصر الجمهوري بعابدين في القاهرة
الحدث: اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية يحاول صرف الجماهير الغاضبة التي ثارت من أجل قيام مجلس قيادة الثورة بحلّ جماعة الإخوان وتنحية محمد نجيب، وحققت التظاهرات بالفعل مطالبها، فعاد الإخوان، وعاد محمد نجيب، غير أن الجموع الغاضبة أبَتْ الانصراف.
وإزاء هذا الرفض الجماهيري للانصراف، أشار نجيب إلى رجل بعينه لكي يتحدث إلى الجماهير ويصرفها عن الاحتشاد، فصعد هذا الرجل، وبكلمة وجيزة امتثلت الجماهير العريضة له، وانفضت الجموع.
لم يكن هذا الرجل سوى الشهيد عبد القادر عودة، وكيل جماعة الإخوان وأحد قضاة مصر الشرفاء.
لقد شهد عبد الناصر هذا الموقف بعدما رضخ ومجلسه للضغط الجماهيري، ورأى تأثير الرجل في الجماهير، فازداد يقينه بضرورة التخلص من تلك الجماعة، وقام بعدها بشهور بإعدام عبد القادر عودة وبعض رفاقه.
شعبية جماعة الإخوان وقدرتها على التأثير، كانت مصدر رعب العسكر المصري، وأبرز دوافعه للتنكيل بالجماعة ومحاولة التخلص منها.
ولم تكن هذه الشعبية قد أتت من فراغ، فجماعة الإخوان التي أصبحت تنظيما عالميا، قد انصهرت مع المجتمع، وقدمت منهجا شموليا يمسّ واقع الناس بجميع مناحيه.
في دعوة الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام كان الإخوان يعملون…
وفي ميدان الجهاد والدفاع عن قضايا الأمة كان الإخوان يبذلون أرواحهم…
في مجال الرياضة كان الإخوان قد غرسوا ثقافة بناء الجسد، في الساحات والأندية، وفي المعسكرات، بل وحتى في السجون.
حتى في مجال الفن، حاول الإخوان تقديم فن هادف، فكانت المسارح التي تقدم أعمالا هادفة، وكان الاتصال والتقارب مع الفنانين المحافظين الذين تأثروا بدعوة الشهيد حسن البنّا، ومنهم الفنان الراحل حسين صدقي.
ولكن ماذا يفعل عبد الناصر ليُمهّد الرأي العام لقبول حملة البطش التي يعتزم القيام بها ضد الجماعة والقضاء على جماهيريتها وشعبيتها؟
مسرحية المنشية:
زاد من نقمة عبد الناصر على الإخوان، رفضهم لبنود اتفاقية الجلاء والتي شاركهم في رفضها محمد نجيب.
وفي دراسة أكاديمية عن الإخوان المسلمين، قال الكاتب الأمريكي “ريتشارد ميتشل” بشأن بيان الإخوان الرافض لبنود الاتّفاقية: “رفض الهضيبي (المرشد العام) الاتفاق، مؤكدا أن أي رأي أو اتفاق بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن يعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة بحيث يمثل إرادة الشعب، وعلى صحافة متحررة من الرقابة وتملك حرية المناقشة”.
* وكانت حادثة المنشية التي دبرها عبد الناصر رئيس الحكومة آنذاك، هي الجسر الذي عبر عليه من أجل إزاحة الإخوان من طريقه، وإيجاد المبرر للتنكيل بهم.
وفي الوقت ذاته تلاقت هذه الرغبة الناصرية مع طموح أمريكا التي وجدت المسرح العالمي قد تهيّأ لتحُلّ محل انجلترا وفرنسا، وتسلمت من بريطانيا رعاية اللقيط “الإسرائيلي”، وأرادت القفز على موارد النفط في المنطقة، إلا أن هذه الأطماع الاستعمارية الجديدة كانت تقف لها الصحوة الإسلامية بالمرصاد.
* جاء في كتاب مذبحة الإخوان في (ليمان طُرة -وهو من السجون المعروفة في مصر-)، للكاتب المصريّ جابر رزق ما نصّه: “كتبت النيويورك تايمز الأمريكية مقالا في عددها الصادر نهار الخميس 28 إبريل سنة 1966م قالت: يتوجب الشكر لجمال عبد الناصر فصِلاتُه بوكالة المخابرات المركزية قبل أن يستولي على السلطة في مصر مكّنت هذه الوكالة أي الـ(سي آي ايه) من أن يكون لها صفقات وثيقة مع حكومة ناصر قبل أن تثير الولايات المتحدة غضبه بسحب مساعدتها الموعودة لبناء سد أسوان”.
* في 26 أكتوبر 1954م عبد الناصر يُلقي خطابه بميدان المنشية بالإسكندرية….
على مسافة 40 قدما أطلق رجل 8 رصاصات من مسدسه إلى مكان عبد الناصر….
قِطع الزجاج تتناثر وعبد الناصر تظهر بقعة قاتمة على صدره….
وهنا يتدخل الأستاذ عباس السيسي رحمه الله ليقول في كتابه “جمال عبد الناصر وحادثة المنشية”:
“ظل ناصر واقفا يدفع جانبا الأيدي الصديقة التي حاولت جذبه لأسفل بعيدا عن الخطر.. بعدها خطا إلى الميكروفون وقال بصوت أجشّ واضح بحماسة وارتجاف: “أيها الأحرار ليبقى كل منكم في مكانه” .. ومن خلال أحاديث الرعب المنبعثة من حوله رفع صوته عاليا: دمي فداؤكم، حياتي فداؤكم.
وألقت الجماهير في صخب القبض على الشخص الذي يُشكّ في أنه قد يكون القاتل وأوسعوه ضربا ولكما.
وبعد ساعة جلس عبد الناصر بدون أي ضرر في نادي المحامين بالإسكندرية يحتسي شراب الليمون، وظهر أن البقعة التي كانت على سُترته ليست دما وإنما هي نتيجة رشح قلم الحبر.
* وتم أخذ اعتراف من محمود عبد اللطيف السمكري الذي أُلقِيَ القبض عليه، بأنه عضو بالإخوان، واختارته مجموعة سرية من الإخوان لقتل عبد الناصر.
وقد تضافرت العديد من الأدلة على أن محمود عبد اللطيف تم استدراجه إلى مكان الحادث وليس هو من أطلق الرصاص، منها ما جاء في أقوال الحكومة أن نوعية الفارغ بعد إطلاق الرصاص تختلف عن نوعية المسدس الذي تم ضبطه مع محمود عبد اللطيف.
وقال حسن التهامي أحد المقربين من عبد الناصر آنذاك، في مجلة روزاليوسف وهو يتحدث عن خبير أمريكي في الدعاية والإعلان أغلب الظن أنه شخصية استخباراتية: “كان أشهر خبراء العالم وقتها في الدعاية وكان قد حضر إلى مصر وكان من بين مقترحاته غير العادية والتي لم تتمشَّ مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي لابد وأن يزيد شعبية عبد الناصر”.
* وعلى أقصى التقديرات، كان تصرف محمود عبد اللطيف فرديا، حيث أن المرشد العام كان قد شدّد أوامره لرئيس التنظيم الخاص بعدم استهداف أي شخصية، وأنه بريء من أي دم يراق.
لكن الخطة نجحت، وانطلقت أصوات مجهولة في الميدان تقول إن الإخوان حاولوا اغتيال الرئيس، فكيف عرفوا ذلك بهذا الشكل الفوري؟!
لقد كان واضحا أن الأمن يوجه الجماهير لتصب جام سخطها على الإخوان، فاستجابوا على الفور وزحفوا صوب المركز العام للإخوان لإحراقه، وأضرموا فيه النيران، ولم تمضِ ساعات حتى شنت الحكومة أشرس حملات الاعتقال، شملت قيادات الجماعة دون تحقيقات بما ينُمّ عن الاستعداد لها سلفا.
وأُعدم ستة من الإخوان منهم عبد القادر عودة، فيما حكم على الآلاف من الجماعة بالسجن، وتم على إثرها تنفيذ مذبحة (ليمان طُرة) حيث أطلق الأمن رصاصاته على معتقلي الإخوان داخل الزنازين، وظن يومها نظام عبد الناصر أن الجماعة قد انتهت، لكنه قد خاب ظنه.
مسرحية التفويض:
وبعد 59 سنة من مسرحية المنشية الهزلية، وفي ظروف صعود الإخوان المسلمين إلى سُدّة الحكم بعد نضال سياسي على مدى عقود، وبإرادة شعبية -مرّرها العسكر لضرب مشروع التوريث والقضاء على الإسلام السياسي في آن واحد- كان السبيل أمام قوى الظلام لإزاحة الإخوان هو تقويض شعبيتها.
* فبدأ الإعداد بتنسيق من الداخل والخارج، للتشغيب على الإخوان ووضع العراقيل أمام نجاحهم في إدارة البلاد، ورشقهم بالتّهم التي تقع لدى الجماهير بمكان، ويُردّدها العامة خلف وسائل إعلام مسيلمة.
* حتى جاءت ثورة 30 يونيو المزعومة، والتي خطط لها العسكر واستثمرها، ليُلقي زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي خطاب الانقلاب بعدها بثلاثة أيام.
واستغل السيسي فرصة تنامي شعبيته على حساب الإخوان، في أن يطالب بتفويض لمواجهة الإرهاب المُحتمل، إذن فلم يكن هناك إرهاب بعد، فلمَ طلب التفويض لمواجهة الإرهاب المُحتمل؟!
* ونزل المُغرضون والغوغاء والمُغيبون والمضحوك عليهم يُفوّضون البطل المخلص لقتل إخوانهم، فكانت مذبحة رابعة والنهضة.
وكما غنّت أم كلثوم بعد حادثة المنشية: “يا جمال يا مثال الوطنية …أجمل أعيادنا القومية.. بنجاتك يوم المنشية”، غنى فنانو السيسي “تسلم الأيادي”، وتلاه من ينعق: “انتو شعب واحنا شعب، لينا رب وليكو رب”.
* ختاما:
إن الخوف سيظل ينال من العسكر إزاء جماعة الإخوان مهما ألمّت بها المحن، هم يعلمون أن هذه الجماعة لا تموت، لأنها لم تعِش منعزلة عن مجتمعها، بل هي جزء أساس من نسيجه، الإخوان ليسوا مجرد حزب أو جماعة، إنما هي فكرة، والأفكار لا تموت.
* حدثني عن أخطاء الإخوان، عن تعصبهم لجماعتهم، عن أخطائهم الإدارية، عن نزعة الإقصاء، عن البراجماتية التي يتعاملون بها أحيانا، حدثني عن كل ذلك، لكن هذا وأكثر، لن يجعلني أنكر أن تلك الجماعة العريقة بذلت وضحّت وقدّمت الأرواح والدماء من أجل هذه الأمة، وكفاها.