العنف المدرسي.. محاولة في التوصيف والعلاج
هوية بريس – د.محمد ويلالي
ارتفعت -هذه الأيام- وتيرة العنف المدرسي، فصرنا نسمع -في كل أسبوع تقريبا- عن حالة تشنج وخصام، أو سب واتهام، أو ضرب وعراك، سواء بين المتعلمين أنفسهم، أو بينهم وبين الأطر الإدارية والتربوية، مما جعل منظومة التعليم -عندنا- مهددة بمخاطر فقد الثقة بين مكوناتها، واهتزاز الوشاجة التي تربط بين أفرادها، الذين طالما سموا بالأسرة التعليمية الواحدة، التي ينوب فيها المدرسون عن الآباء في تحمل مسؤولية التربية والتوجيه، بالقدر الذي يجب أن يحظوا فيه بما يستحقون من التبجيل والاحترام، والتوقير والإعظام.
وعرف العنف بأنه كل تصرف قصد به إلحاق الأذى بالآخرين، سواء كان الأذى جسميا ماديا، بالضرب والجرح وغيرهما، أو نفسيا، بالإهانة والاستهزاء والاستنقاص. وكلا النوعين استعمال غير قانوني للقوة.
وكما يتصور العنف من طرف المدرس تجاه المتعلم، فكذلك هو حاصل من طرف المتعلم تجاه مدرسه حين تسوء العلاقة بينهما، متخذا عدة أشكال، كالكلام البذيء، والسب، والتعيير، والنبز بالألقاب، والتخويف والتهديد، وقد يرتقي إلى درجة الضرب والاعتداء الجسدي -كما هو مشاع هذه الأيام-.
وفي الحق أن هذا النوع من السلوك غير قاصر على البلاد العربية أو الإسلامية، بل صار ظاهرة تعاني منها بعض الدول المسماة بالمتقدمة. ففي أستراليا -مثلا-، وفي عام 2008، فُصل 55000 طالبا في مدارس حكومية، قرابة ثلثهم فصلوا بسبب سوء السلوك الجسدي.
وفي بلجيكا، أظهرت إحدى الدراسات أن العنف الذي يتعرض له المعلمون كان من الأسباب الرئيسة للهروب من مهنة التدريس.
وفي اليابان، بلغت حوادث العنف في 2007 قرابة 53000 حادثة، 7000 من هذه الحوادث معلمون.
وفي بولندا، أعطيت للمدير صلاحية عقوبة المتعلمين العدوانيين بأداء أعمال تتعلق بخدمة المجتمع، مع إمكانية مواجهة المدرسين الذين لا يبلغون عن أعمال العنف في المدرسة بعقوبة السجن.
وترجع أسباب انتشار العنف داخل المؤسسات التعليمية إلى عدة عوامل، منها:
ما يرجع إلى التربية الأسرية، حين يعجز بعض أولياء الأمور عن التربية السليمة، إما بسبب الفقر الشديد، أو بسبب تفشي الأمية، أو بسبب ضعف المستوى التعليمي، أو بسبب التفكك الأسري كالطلاق، وكثرة الخصومات بين الأبوين. وكل ذلك يؤثر في إذكاء العنف لدى المتعلمين بنسبة 45% تقريبا.
ومنها ما يرجع إلى الحالة النفسية لبعض المتعلمين، الذين عرفت تنشئتهم اضطرابا ولد لديهم الإحساس بالخوف والارتباك، أو الأنانية وحب الذات، أو القوة حب والسيطرة، أو العدوانية وحب الانتقام. وقد يكون للحالة النفسية لبعض المدرسين أثر في توليد العنف -كذلك-، كالضغوطات المادية، أو بعض الحالات المرضية، أو الظروف الاجتماعية، مما يفقد المدرس – أحيانا – القدرة على الصبر على شغب المشاغبين، وتحمل نزق المراهقين.
ومنها ما يرجع إلى الوضعية الاجتماعية، حين يولد الفقر الشديد لدى بعض المتعلمين الإحساس بالنقص والحرمان والتهميش، وعدم القدرة على مسايرة الأقران في لباسهم، ورفههم، واستقرارهم، مما قد يولد لديهم الإحساس بالكراهية والحقد، يجعلان المتعلم قابلا للثورة في وجه القرين حين يستفزه، أو في وجه المدرس حين يعاتبه، أو في وجه الإداري حين يحاسبه.
ومنها ما يعود إلى تلاشي القيم الإسلامية في الوسط المعيشي بعامة، كالتسامح، وحب الخير للآخر، ولين الجانب، والرفق، والصبر على الأذى، والتجاوز على المعتدي، والإخلاص المطلوب في أداء الواجبات، وتوقير الكبار، والرحمة بالصغار، وغيرها. فنبينا صلى الله عليه وسلم يوجه الخطاب لمن شرفهم الله بمهنة التعليم، التي وظيفة الأنبياء ويقول: “إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا“. وعند أحمد: “إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّفاً، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً“. قال الغزالي -رحمه الله-: “إن صناعة التعليم هي أشرف الصناعات التي يستطيع أن يحترفها الإنسان. وإن أهم أغراض هذه الصناعة هي الفضيلة“.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق المتعلمين: “لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقه” أحمد وهو في صحيح الجامع. ولا شك أن المدرس أحق من يجل ويحترم.
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي***يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
فكيف يجرؤ المتعلم أن يعتدي على معلمه أو معلمته بالسب، والضرب، والتنكيل، والجرح، والكسر؟ ألم يكن لهذا المتعلم أن يصبر على معلمه ولو كان شديدا في معاملته، قاسيا في توجيهه، عنيفا في لومه، مقابل ما يتلقاه منه من علم ربما يكون سببا في نجاحه في حياته، وتحقيق أمنياته؟
اِصْبر عَلى مُرّ الجَفَا من مُعلِّمٍ***فإن رُسُوب العِلم في نَفَراتهِ
وَمَن لَم يَذق ذلَّ التعَلم سَاعَةً***تَجَرعَ ذل الجَهل طولَ حَيَاتِهِ
ومنها ما يتعلق بمحيط بعض المدارس، الذي صار مرتعا لربط العلاقات بين الجنسين، وميدانا لبيع الخمور، ومتاجرَ متحركةً لترويج مختلف أنواع المخدرات. بل هناك شبان من كلا الجنسين لا علاقة لهم بالدراسة، ينشَطون أمام بعض المؤسسات، يترصدون ضحاياهم من التلاميذ، يزينون لهم شرب المخدرات، ويسهلون عملية بيعها، وبخاصة منها تلك المهيجة، التي صارت تباع في شكل حلوى، تُفقد صاحبها توازنه، وتحول التلميذ الهادئ بطبعه إلى وحش هائج متعطش للانتقام وإثبات الذات، فينتهي الأمر -في الغالب- إلى ارتكاب جرائم متعددة، مع أفراد جماعته، أو مع المدرسين والإداريين، تتراوح بين السب، والشتم، والقذف، والشجار، والعراك، وقد ترتقي إلى الاشتباك بالأيدي، والضرب والجرح، بل قد تصل درجة استعمال السلاح الأبيض. ولم يكن غريبا أن يصرح 70% من تلاميذنا بأنهم سبق أن تعرضوا لأحد أنواع العنف -وفق إحصائيات لمنظمات حقوقية دولية-، مما دفع إلى إحداث فرق أمنية بهدف التصدي لهذه الظاهرة.
ومن خلال بحث ميداني لوزارة الصحة نشر سنة2007، تبين أن نسبة المدخنين الذين تتراوح أعمارهم ما بين13 و15 سنة، بلغت 15.5%، فكانت هذه الفئة العمرية أخطر الفئات، كما تبين أن ربع الشباب المدخنين، بدأوا تدخين السجائر قبل سن العاشرة.
وأشارت الإحصائيات الرسمية إلى أن نسبة 66% من حالات العنف المدرسي تقع داخل المؤسسات التعليمية، و34% منها تحدث في محيط المدارس. كما أن أكثر من 67% من السلوكيات المنحرفة المسجلة تقع بين التلاميذ أنفسهم، بينما تتوزع 23% بين العنف في حق الأطر التربوية من طرف التلاميذ، أو من طرف أشخاص غرباء عن المؤسسات التعليمية.
ومن هذه العوامل -كذلك- ما يرجع إلى وسائل الإعلام، التي صارت مشحونة بمشاهد العنف، حتى إن 75% من المادة الإخبارية تغذيها الجريمة، والقتل، وحوادث الاعتداء، والتفجيرات، والاغتيالات، والحروب.
أما أطفالنا فصاروا عرضة للقصف الإلكتروني عبر الشبكية، التي جذبت الطفل بألوانها المثيرة، وصورها المغرية، وبرامجها الإلكترونية المتقنة، دون أن نعي أن 60% من أفلام الكرتون المستوردة، تمتزج بالعنف والمشاهد غير المرغوبة، في الوقت الذي تثبت الدراسات أن الأطفال يميلون لتقليد ما يشاهدونه بنسبة 81% للذكور، و35% للإناث.
ولئن كانت مقاربة العلاج تتضمن ما هو اجتماعي، وما هو نفسي، وما هو تحسيسي، وما هو ترفيهي، فإن المقاربة التربوية المبنية على الأخلاق الحميدة، والسلوكيات السديدة، هي الكفيلة باحتواء الوسائل الأخرى، للتخفيف -على الأقل- من غلواء العنف في مدارسنا. ومن سبل ذلك تكثيف دروس القيم والتربية على الأخلاق الحسنة، عبر مقررات دراسية هادفة، وطرائق تعليمية صحيحة، ووسائل بيداغوجية سليمة، تحقق مستوى تربويا عاليا من جهة، وتحفظ كرامة الفاعلين التربويين من جهة أخرى.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ” مسلم.
وقال قتادة -رحمه الله-: “إن المؤمنين قوم رفقاء رحماء“.
سامـح الـناس إن أسـاؤوا إلـيكـا***وتغافل إذا تجنوا عليكا
ما ترى كيف أنت تعصي ومولا***ك يزيد الإنعام دأبا لديكا