استقالة «المرابط» والصراع بين العلمانيين والإسلاميين على الشأن الديني
ذ. إبراهيم الطالب (مدير جريدة السبيل)
هوية بريس – الثلاثاء 07 أكتوبر 2014
لا أحد ينكر المجهودات التي قامت بها وزارة التوفيق في تأهيل ما سماه الوزير بالحقل الديني، ولسنا ننكر التطوير الذي حصل على مستوى تأهيل الأئمة وتكوين المرشدين وبناء المساجد ونظافتها، لكن مع ذلك ستبقى خطة إعادة تنظيم وهيكلة المجال الديني التي انتهجها وزير الأوقاف أحمد التوفيق، مرتبطة في أذهان المغاربة بقانون الإرهاب، وأحداث 16 ماي الإرهابية، وبكل معاني الالتباس والضبابية والظلم الذي واكب العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، خصوصا وأن تلك الخطة بُنيت على أنقاض العمل الجمعوي للعلماء والدعاة، بحيث حُلت رابطة علماء المغرب التاريخية بطريقة غير قانونية، وكذا أغلقت بشكل تعسفي درامي أكثر من 60 جمعية مؤطرة لدور القرآن.
الخطة جاءت كما صرح بذلك الوزير أكثر من مرة، لمحاربة التطرف، لذا لا بد أن تقبع في ذهن المغاربة أنها مكملة للخطة الأمنية التي استلزم تطبيقها إدخال المئات من المغاربة السجون شبابا وكهولا، بتهمة الإرهاب المقرون بالإسلام ومعتقداته.
ومما زاد في هذا الربط أن الصحافة العلمانية التي تنتقد كل شيء في الإسلام، في الوقت الذي كانت تطبِّل فيه للخطة وتشيد بوزير الأوقاف المتنور وإنجازاته ضد الخطباء والعلماء، تعبَّأت لربط صورة مَن يلتحي أو مَن تنتقب أو تحتجب بصور الدماء والتفجيرات، ورمت كل من يستقيم على الدين في الظاهر والباطن، بالتطرف والإرهاب والوهابية، وحاربت كل خطيب أو واعظ حر في رأيه، وصفقت لعزله، وطالبت بطرد كل عالم أو خطيب ينتمي إلى التيارات الإسلامية، وللأسف كانت الوزارة دائما تستجيب فتجعل التوقيف والعزل من نصيب كل من تستهدفه الصحافة العلمانية دون إنذار مسبق.
بعد هذا المسار الذي أصبح يعيشه المغرب والذي اكتنفه جو الترهيب والإرهاب ومزايدات العلمانيين المدفوعة الأجر، وأمام خطة التوفيق واستهدافه لوعاظ وخطباء الحركات الإسلامية، وجدت التيارات الإسلامية نفسها في وضع حرج، فهي لا تريد المصادمة مع إمارة المؤمنين، -التي أصبح التوفيق يدفع بها في وجه منتقديه كلما قام بخرجة أثارت الرأي العام-، وفي الوقت نفسه لا تريد التخلي عن وظيفتها في تعليم وتوجيه الناس وتعريفهم بدينهم وتأطيرهم في جمعياتها ومؤسساتها، كما كان العمل طيلة عقود الإسلام في المغرب.
خطة تنظيم «الحقل» الديني أُقصي منها كل من اشتُمّت فيه رائحة الانتماء إلى التيارات الإسلامية كما أسلفنا، وانضاف إليه كل خطيب تجرأ وقام بدوره في التصدي للظواهر المخالفة للدين، مثل انتقاد ما يحدث من مجون في مهرجان موازين، أو شجْب العري الفاضح في الشوارع وعلى الشواطئ، أو انتقاد تصريحات للسياسيين العلمانيين مثل عبد القادر البنّة الذي استهزأ بالدين والقرآن، والتي كانت تصريحاته المنشورة في يومية الأحداث وراء عزل وإهانة خطيب قرية بامحمد لما رد على مهاتراته، أو مثل تصريحات لشگر الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي طالب بتجريم التعدد والمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى.
كان يقع كل هذا في الوقت الذي يرى الجميع أن التوفيق يسمح للمهربين العلمانيين باختراق المجال الديني؛ بل لم يتردد في جعل بعضهم أوصياء على العلماء والمساجد، كما هي حالة محمد المرابط الذي يتباكى العلمانيون اليوم على قبول أمير المؤمنين لطلب إعفائه من منصب المندوب الجهوي لتطوان-طنجة.
دخول المرابط لتسيير الشأن الديني بالشمال كان من أبرز الأحداث التي فهم منها المنشغلون بتدبير مجال الدين، أن الوزير يريد أن يسترضي العلمانيين حتى ينجح في التسويق لخطته، ويضمن عدم مهاجمتها من طرف الصحافة العلمانية.
وبهذا أصبح للعلمانيين مؤسسات عمومية يُسَّخرونها في المجال الديني لمحاربة الإسلام الصحيح، انطلاقا من محاصرة العلماء العاملين، ومحاربة التدين الصافي الذي يجعل الإنسان يراقب الله في السر والعلن.
المرابط غامر بمستقبله السياسي الحزبي خلال عشر سنوات لأنه يعلم أن الدور الفعال للعلماء في نشر التدين الصحيح يعتبر العقبة الكؤود التي تقف في وجه مشاريع العلمنة التي يقوم المندسون في المجال الديني بتهريبها إلى داخل المساجد والمؤسسات الدينية ومؤسسات التعليم والتربية.
ما ذكرناه آنفا ليس فقط ما نحن مقتنعين به، بل هو صريح ما نشرته أمس جريدة الأحداث المغربية، والتي لطالما نشرت للمرابط مقالات قبل أن يتولى أمر المنذوبية، خلال أعوام ما قبل 16 ماي، كلها حرب على الثوابت الدينية للمغاربة ولمز لإمارة المؤمنين ووقيعة في العلماء العاملين خصوصا غرماءه في تطوان.
كتبت الأحداث تقول عن خطة المرابط في اختراق الشأن الديني: «فكر الدكتور المرابط بمرجعية جديدة من داخل النسق الثقافي والديني والحضاري المغربي أساسها الموضعة التاريخية لدور عالم الدين المتنور، والفقيه المجتهد وحتى المثقف في التغيير، ما دام أن الصراع في المغرب بعد فشل قوى اليسار في تحقيق أهدافه هو صراع على الأجهزة الثقافية والإيديولوجية (مدرسة، المؤسسة الدينية، الموروث الديني المغربي، الأمازيغية، إعلام،…إلخ)، وليس صراع -كذا- على الجهاز السياسي للدولة، الذي أصبح بدوره مهددا بتسونامي الأصولية الوهابية التكفيرية…» العدد:5399 – 30 شتنبر 2014.
أليس هذا الاختراق دليلا على التهريب العلماني للادينية إلى مؤسسات الحقل الديني؟
فمن خلال ما نشرته الأحداث، نلاحظ أن المرابط اخترق الشأن الديني لأنه يرى فشل اليسار وقصور نظرته حين أغفل العمل على الاستحواذ على المؤسسات الدينية، واكتفى بالتنافس على الجهاز السياسي للدولة، فقرر المغامرة حتى يقنع حزبه عمليا بعد أن فشل شفويا.
لكن عندما مُني بالفشل ويئس من النجاح في التأثير من داخل المؤسسات الدينية كما يئس الكفار من أصحاب القبور، ناور بآخر أوراقه في حرب العلماء، وأقدم على طلب الإعفاء حتى يحرج وزير الأوقاف مع أمير المؤمنين، ويصور له أن الحقل الديني استولت عليه العدالة والتنمية.
إن استقالة المرابط وما تلاها من هجمات على صفحات صحافة حزبه، توضح أن سعادة المندوب خلال العشر سنوات التي قضاها على رأس المندوبية الجهوية كان يشتغل لتحقيق أغراض وأهداف لا علاقة لها بالشأن الديني، تدفعه مرجعيته الإيديولوجية، ويستفزه عداؤه المتجذر للعلماء، وتؤطر منهجيتَه في العمل نظرةُ -الاتحاد الاشتراكي- للدين والتدين.
الدين والتدين ودورهما الفعال في نجاح التيارات الإسلامية سياسيا وجماهيريا دفع المرابط إلى الاعتقاد أن النجاح في الصراع مع الإسلاميين يستلزم الخوضَ في تنزيل خطة التوفيق في تأطير وهيكلة المجال الديني، والاستحواذ على أهم مؤسساته، لذا كان يطمح خلال «كفاحه» طيلة العشر سنين العجاف، أن تستجيب له الوزارة وتسانده في اضطهاد الوعاظ والخطباء حتى ينضبطوا وفق ما تمليه العلمانية من شروط على من يؤطر الناس دينيا، وتلزمهم بإنتاج خطاب ديني يتماشى مع المفهوم العلماني للدين.
وهذا ما نفهمه من كتابات رفاقه الاشتراكيين في صحافة الحزب حول أسباب طلبه الإعفاء حيث صرحوا أن: «أسباب الاستقالة مرتبطة أساسا بأداء بعض القطاعات داخل الوزارة؛ خصوصا في الشق المتعلق بالتواصل مع المندوبيات الجهوية؛ هذا إلى تمكين الحركة الأصولية وترسيخ مجموعة من المحسوبين عليها داخل مصالح الوزارة إما عن عجز في القيام بالمهام أو بتواطؤ». الكلخة، يومية الاتحاد الاشتراكي 18 شتنبر 2014.
مسكين هذا الاشتراكي، يقدمه رفاقه على أنه عالم حداثي متنور، لكن يبدو أن عداءه للإسلاميين والعلماء أنساه معنى التنوير، فاشتغل بالدسائس ضد الفقهاء والخطباء، وبالحرب على التعليم العتيق ومؤسساته، بدل أن يسخر مجهوداته وسلطته وتنويره المُدَّعى في حرب الخرافة والدجل الذي تنفق عليه وزارة الشؤون الإسلامية الأموال الطائلة من موارد الأوقاف في المواسم التي تعج بعبادة الموتى والذبح لغير الله والشعوذة والطقوس الشركية، والتي تكرس الجهل والتخلف والرجعية.
لكن يبدو أن المرابط الحداثي المتنور يرى في التصوف البدعي الغارقِ في القبورية وعبادة الموتى، المنقطعِ عن السياسة وتدبير الشأن العام منافسا للتنوير الإسلامي، يجب إحياؤه ودعمه وترسيخه، حتى لا يستيقظ الناس فينتبهوا إلى خطر العلمنة الزاحف على كل مناح الحياة العامة والخاصة في المغرب.
والعجيب الباعث على السخرية، ما كتبته يومية الاتحاد الاشتراكي بعدما حاولت تهويل الواقع وتخويف من يهمه الأمر حتى لا يتم قبول طلب إعفاء المندوب حيث تساءلت: «هل الأوقاف حقل لجميع المغاربة ويستوعب الجميع بمن فيهم المحسوبين على الحقل الديموقراطي التقدمي، أم هي حقل للحركة الأصولية؟».
فمتى قبل العلمانيون بالتعدد والتنوع في تدبير مجال الشأن الديني؟ ومتى رضوا مشاركة الإسلاميين في تأطيره؟
ثم بعد هذا الهراء ترفع من قدر المعفى قائلة: «وللإشارة، فالمندوب لمرابط يعد من الأطر المتنورة بالوزارة المحسوبين على الصف الوطني والديمقراطي، كما يعد من بين الأطر المتمكنة والغيورة على حماية التدين المغربي الحقيقي من كل أشكال الاختراق والتطرف» اهـ.
فبمثل الاشتراكي المرابط يُحمى الدين!! وبمثل نزعته الإقصائية وحقده على العلماء والفقهاء وحربه لتيارات تضم الملايين من المغاربة نستوعب مفهوم رجالِ الاتحاد الاشتراكي «للديمقراطية» والتنوير.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.