كتب كاتب منذ زمن ما يزعمه نقدًا أدبيًا ليكون للأدب عدوًّا و حزنًا ، فنهق من حيث أراد الصهيل، وقال مقالة لو أُلقيت في ” طرائف ” الجرجاني لمزَجَتْه . جمع الكاتب في سياقةٍ واحدة بين قول المتنبي:
لا وارثٍ جَهِلتْ يمنَاه ما كسَبَتْ ولا سَؤُولٍ بغير السيف سَئَّالِ
و بين قول نزار قباني يرثي امرأته :
السيف يدخل لحم خاصرتي و خاصرة العبارة !!
و كأنّك بقرائتهما متتابعين تتردَّى من شاهق إلى مكان سحيق .. ألايَحقُّ لقارئٍ أن يقول:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إن جاء السيف في ( نثر ) قباني
و قد ذكَّرني هذا بجواب بشار بن برد لمن عرض عليه نظمًا رديئًا: “أحسنت إذ أخرجته من صدرك ولو تركته لأورثك الفالج ..” لقد جُمع بين بيان المتنبي و هذه الكلمات القلقة في صحيفة قاهرِيَّة قبل عقود و الضراغم مزدحمة، أما اليوم فقد تصاعد فساد الذوق فكتب الروايةَ العُرجانُ لا يرتفقون بفصاحة ولا بيان ثم أقبل لتنقيد أعمالهم العميان والحولان بما يشبه ركاكتهم أو يغالبها ..
وبعده فهذه إهابةٌ بكل طالب وكل كاتب أن يتهمَّم بتغيير ما وقع من تحدُّرٍ في الأدب و سفافة في الكتابة فإن للعربية حقًّا علينا نحن المسلمين لأنها لسان حضارة القرءان، و خدمتها خدمة للقرءان ، و ها أنت ترى أيها الكاتب كيف استعجم كثير من القرءان على العرب و العجم سواءً ، فصرنا نقرأ ما يُريع و لا نُراع لمَّا غابت العربية ، و توارت بالحجاب حجابِ الركاكة و الفهاهة .
لم يكتف أصحاب المنابر بخطاب الدارجة – و هو الصواب الذي لابدَّ منه بقدر معلوم – حتَّى كتبوا أيضًا بالدارجة و هو ممَّا لا ضرورة إليه ، و في أخصِّ مجالات العربية داخل دائرة الشروح و الحواشي المطبوعة حيث وجب على أهل العلم و طلبته الحفاظ على آنية العلم ووعائه أن يكسر أو يثلم ، تجد الحاشية غريبة عن المتن لا ينسجمان و كأنهما لغتان، بل تقع العين أحيانًا على بئس الفعلُ و هو طبع الكلام الدارج الوارد في التسجيل المفرَّغ كما هو !! و هذا عندي ليس بخطأ بل أكبر من الخطأ..
إن العربية لاتهبط حتىى يهبط الدين و لاتهون حتى يهون ، فمصِيرهما مشترك و الدعوة إلى تنقيح الخطاب و تقويم القلم و تعلم سحر البيان هي دعوة إلى القرءان ، لايراها العالمون غير ذلك.
كم تستوقفني مقالة موسى عليه السلام عن أخيه هارون ( هو أفصح مني لسانًا ) لقد حرص موسى على أداء الأمانة و تبليغ الرسالة مما جعله يستعين على ثقل تبليغها بفصاحة هارون ..
كان بعض المصنفين في الفرق الاسلامية إذا أراد أن يثني على طائفته و هو يعُدُّ فضائلهم و مابه امتازوا على سائر الفرق يذكر تبريزهم في اللغة وآدابها ليثبت أنهم أحق بالوحيين و أهلهما ، و أقوم بالذَّبِّ عنهما.
إن العربية شعار الإسلام، و دليل مكانتها ما ترى من وجهة سهام العدو نحوها، فبها يفهم كلام الله و رسوله و بها يتشبَّه بصدر الأمة ، لقد أضعنا كثيرا من لغتنا و ضاع معه غير قليل من ديننا لكن ضياعها ذُهِل عنه في زحمة الأزمات فكانت أهون مفقود كعجوز في مجاعة. دخل رجل على زياد بن أبي فقال : إن أبونا مات و إن أخينا وثب على مال أبانَا فأكله فقال : لَلّذي أضعته من كلامك أشدُّ عليك ممَّا أضعته من مالك.
والمغاربة الذين صارت إليهم اليوم الخلافة اللغوية مع جيران الجنوب لايظهر شديد اشتغالهم بالنحو وما والاه على كتاب ولاخطاب بما يوازي عناية الدرس والتحصيل قوةً إلا قليلاً جدًّا و لسان الحال قول الظريف: (النحو صنعتنا واللحن عادتنا) كانوا يقولون “على أعراقها تجري الجياد”.
حفظ الله الشيخ ابا حمزة ومتعنا به وعلمه وفقهه