بنسالم حميش.. الاحتكام إلى الملك؛ والأسئلة الكاذبة الخاطئة
ذ. إبراهيم الطالب (مدير أسبوعية السبيل)
هوية بريس – الإثنين 03 نونبر 2014
كتب الوزير السابق للثقافة المغربية الأستاذ بنسالم حميش مقالة من جزئين اتخذ لها عنوانا: «مساءلة فقهائنا عن إقامة التماثيل في الفضاءات العمومية»، وتضمنت بالفعل أسئلة، لكنها للأسف أسئلة كاذبة خاطئة.
فهي كاذبة لأنها طرحت بخصوص موضوع لم يعد له لازم في ظل هذا الانفتاح المتسيب، لكنه آثر أن يمارس من خلالها ما يشبه الخداع المعرفي الأقرب إلى التزوير منه إلى المساءلة والجدل، فهو يوهم أن للعلماء سطوة على الحكم، وقوة على التأثير في الفن والسياسة، في حين أن الواقع يشهد أن العلماء لا حول ولا قوة لهم في المشهد العام.
واستصحب لإقناع القراء بالوهم، فتوى علماء لم يسمهم إمعانا في الخداع المعرفي مع شهرة القضية،
هذه الفتوى التي عمل بها الملك الراحل الحسن الثاني، ليس اعتبارا للفتوى، فقصره كان يضم تماثيل متنوعة، لكنه احتاط لِما كان للعلماء من بقية قوة في التأثير على الناس، خصوصا أن المرحلة السياسية آنذاك كانت جد متوترة، لم يكن الملك من السذاجة آنذاك ليخالف العلماء في موضوع رمزي، في حين أن مطالبهم بتطبيق الشريعة ومنع الخمور والتبرج ومنع الربا كانت محرجة لا يحتمل الوضع إثارة خلاف بين القصر والعلماء بشأن فتوى تهم مسألة رمزية بالنسبة للحكم السياسي.
أما الظرفية التي يسائل فيها الأستاذ بنسالم علماءنا، فكل الناس لا يخفى عليهم وأولهم الأستاذ، أن مؤسسات العلماء لم تعد تقوى على الاستقلال بالفتوى، أو ممارسة الحرية في الرأي، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأمور العامة، وهذا واضح فرابطة علماء المغرب والتي أصبحت بعد خطة وزير الأوقاف في تنظيم الشأن الديني، تحمل اسم الرابطة المحمدية للعلماء، لم يعد لها دور في توجيه الرأي العام وتأطيره من خلال آلية الفتوى، وتخلت عن عقد مؤتمراتها التي كانت تخرج بتوصيات مهمة تعنى بالمطالبة باحترام الشريعة الإسلامية وتنظيم البلاد وفق أحكامها، حيث سلبت هذا الحق وأعطي حق احتكار الفتوى للمجلس العلمي الأعلى الذي بدا في أكثر من مناسبة ضعيفا تابعا لما تمليه الأجواء السياسية وحساباتها الدنيئة.
فصار المجلس العلمي الأعلى يَقصُر اهتمامه على الرد على العلماء وتخوينهم وسلب الأهلية منهم، كما في قضية الشيخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي، وقضية الربا التي أفتى فيها الشيخ القرضاوي المغاربة بينما اكتفى السيد يسف الكاتب العام لمجلس علمائنا بالتصريح بأن فتوى المجلس العلمي الأعلى موجودة لكنها محبوسة في خزانات المجلس حتى لا تحدث اضطرابا لدى المغاربة.
بل حتى مدونة الأحوال الشخصية التي تعتبر آخر الحصون التي يحرسها العلماء، دخلها العلمانيون وقتلوا فيها الولي خنقا، وأُعطيت الفتاة المغربية مثل نظيرتها الأوربية في بلاد العلمانية، حق تزويج نفسها بنفسها في قانون الأسرة الجديد، رغم مخالفة ورفض العلماء ورغم «مسيراتهم» الشعبية وبياناتهم النارية الموثقة في إصدارات رابطة علماء المغرب.
فبين عشية وضحاها أهدرت الخصوصية المغربية التي بُني عليها مشروع ما سمي «إعادة هيكلة وتنظيم الحقل الديني» وأصبح ثابت المذهب المالكي متحولا، وهُرّبت أحكام من المذهب الحنفي وأدخلت قسرا إلى قانون الأسرة حتى يغطي الساسة على الغزو العلماني لأحكام الأسرة.
في ظل هذا التدهور الذي طال مؤسسات العلماء في المغرب، يقوم الأستاذ الوزير بكل شجاعة موهمة، مسائلا السادة العلماء عن حكم نصب التماثيل في الميادين العامة، والعجيب أن هذا الاشتراكي الحداثي خريج السوربون آثر بدل الحجاج الفكري أن يمارس إرهابا فكريا على السادة العلماء، وبكل ديكتاتورية مقيتة يفرض عليهم التجاوب مع أسئلته الخاطئة الكاذبة، وإلا سيكون مضطرا لرفع الأمر إلى الاحتكام الملكي، متوعدا: «وإن ظلت هذه الرسالة، لا سمح الله، حبرا على ورق أو جاءت غالبية الردود عليها بالإعراض والصدود، فلا مناص عندئذ من اللجوء في موضوعها إلى تعبئة المعنيين به، ثم إذا لزم الأمر إلى الاحتكام الملكي السامي» المساء.
وأما قولنا عن أسئلته خاطئة، فالأستاذ الوزير حاول أن يبني مساءلته على مقدمات فاسدة، وتحليلات مراوغة أوصلته إلى نتائج باطلة، فالأمثلة التي ضربها لتماثيل أبي جعفر المنصور والمتنبي في بغداد بالعراق، وابن خلدون في تونس، وأبي الوليد ابن رشد في قرطبة، هي تزييف للوعي، وإيهام للقارئ أن التماثيل صنعت في العالم الإسلامي على أعين العلماء، في حين أن الواقع، يشهد بأنها كلها بنيت وأقيمت في زمن استيلاء العلمانيين العرب البعثيين والقوميين على الحكم في البلدان التي تناثرت بعد تشتت عقد الخلافة، أما تمثال أبي الوليد فلم ير النور إلا في ستينيات القرن الماضي بعد قرون مديدة من سقوط الأندلس في يد الصليبيين.
لم يكتف أستاذنا بالتمويه بتماثيل شخصيات تاريخية، بل أدرج في مقدماته، تمثال العلماني كمال أتاتورك، الذي قال عنه:
«وحتى إسرائيلَ الغصبِ والسطو فقد شملت بدأبها هذا مصطفى أتاتورك (نكاية في العرب) وألبير أينشتاين، فأقامت لهما نصبين في تل أبيب، هذا رغم أن التوراة تحرّم ذلك بصريح العبارة» المساء.
توظيف الوزير الأديب لتمثال العلماني أتاتورك كان لأمرين:
الأول: ليبين أن الكيان الصهيوني استطاع أن يتجاوز التوراة/الدين، رغم أنه دولة دينية، لهذا استطاع مع الفن أن يكون حداثيا، بينما بقي المغرب رجعيا جامدا.
الأمر الثاني: ليبين أن الكيان الصهيوني خلد ذكرى أتاتورك بنصف تمثال له «نكاية في العرب» وهو تزييف للتاريخ، إذ الاحتفاء بأتاتورك من طرف الصهاينة كان لأنه رجلهم الذي أسقط الخلافة الإسلامية، ومكن لليهود في جمعية الاتحاد والترقي لكي يقسموا التركة بينهم في العالم، وأخذوا فلسطين على رأس حصتهم.
لا أدري لماذا خرج الوزير الأديب الاشتراكي الحداثي على العلماء والرأي العام، بهذا الكم من المغالطات؟
هل الدافع هو حث العلماء على المشاركة في الشأن العام؟
أم هو استفزاز لهم حتى يظهروا بمظهر المعادي للفنون الجميلة فيظهر قبح رؤاهم، إن تجرأوا وجهروا بالمذهب والشريعة؟
وليسمح لي الأستاذ حميش أن أستعير منه لسان حمو الحيحي الكاتب الناسخ الذي جعله من شخصيات روايته «العلامة» وأعطاه دور المحفز بأسئلته للعلامة ابن خلدون حتى يظهر تراجعه عن منهجه، ليكون حداثيا، ويتوب من أخطائه الفكرية والعلمية التي ارتكبها.
فلو استنطق الأستاذ حميش الكاتب والناسخ «حمو الحيحي» وأخذ رأيه في مقالته هذه، لانفجر في وجهه ممطرا إياه بشديد العبارات وأقذعها، ناصحا له: «من فضلك سيدي حميش، اِبق في منأى عن المراوغات الفكرية، وتزوير التاريخ، وتسخير الثقافة لخدمة السياسة وتكميم أفواه العلماء، اِرحم رجالا لا يستطيعون البوح بالحق، في زمن قوانين الإرهاب والتهم الجاهزة بالتطرف والانغلاق، فبدل أن تطالب بتشجيع الكتاب والقراءة، وتبحث عن الطرق التي تصبح بها كل مدينة تحتوي على خزانة في مستوى تاريخ المغرب، وتنصح السياسي برفع الاضطهاد عن العلماء، أراك تهددهم بالاحتكام إلى الملك.
ثم اسمح لي أن أصارحك، لو ظننتُ أن أمرك سيؤول إلى هذه الدرجة من الاستهتار بعقول قرائك، لَما قبلت أن أكون إحدى شخصيات روايتك (العلامة)، اسمح لي كذلك أن أخبرك أني بعد مقالتك الأخيرة فهمت حقيقة الدور الذي فرضته علي في روايتك، والتزوير الفكري والمعرفي والتاريخي الذي أشركتني فيه، لذا قررت أن أضع التماسا لدى السفارة الفرنسية التي سلمتك جائزة أطلس عن روايتك التي أنا أحد أبطالها، أطلب منها أن تسحبها منك، لأنني قد تُبت من الدور الذي أعطيتني، ومن الكلام الذي لفقته لي وللعلامة ابن خلدون».
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.