اليأس من نشر النصرانية بالمغرب (1901م)
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
نقدم فيما يلي رأيا لكاتبة رحالة إنجليزية تسمى “فرانسيس مكنب”، زارت المغرب في سنة 1901، وعاينت ما تقوم به البعثات التنصيرية الممهدة لغزو المغرب باعتمادها تطبيب المرضى وعلاج المصابين، ودعوتهم للتنصير مقابل الخدمات المقدمة لهم، وهي العمليات التي لخصها اليوطي في وصف الطبيب بأنه يزاوج بين حمل الدواء في يده والمدفع تحت وزرته البيضاء لإخضاع الساكنة التي يتعامل معها للسلطات الاستعمارية.
بيد أن ما تنبأت به الكاتبة من فشل تلك الحيل في اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المغاربة هو ما وقع، وقد كان الأمر كذلك بعد ما ملئت القرى والمدن بالكنائس، لكنها بمجرد ما استقلت البلاد حتى ذهب الله بنورها.
وها هو البعض من المستلبين إن لم نقل المتمعشين من بيع دينهم بدنياهم، يحاولون من جديد إعادة الكرة في قالب آخر باستخدام شعارات الحرية والحقوق الفردية، وما شاكل ذلك، مما يجعل الفرد فوق الجماعة، والشهوات محل المعقولات مما لم تقم عليه حضارة، ولا أوجد ثقافة.
النص:
“تقول الكاتبة الأنجليزية “فرانسيس مكنب” التي تجولت بالمغرب سنة1901 بأن أحد القسس التابعين للكنيسة الإنجليزية، حدثها بأنه بذل صادق الجهد من أجل نشر المسيحية في المغرب، لكنه أقلع عن ذلك بعد أن اقتنع كل الاقتناع بما في إرسال البعثات التبشيرية إلى المغرب من خطإ.
ذلك أن القانون المطبق في البلاد مستمد من القرآن، والتبشير بديانة أخرى محذور طبقا لهذا القانون، ولكن الرجل قال إن العائق الرئيسي يكمن في طبيعة الشعب نفسه، ولذلك فإن محاولة صرف أنظار أفراده عن عقيدة هي قوام حياتهم والظروف التي يعيشون فيها إنما هي مجرد عبث من شأنه أن ينال في النهاية نيلا خطيرا من هيبة المسيحية.
وقد سألتُ (تقول الكاتبة) أحد أصدقائي عما إذا كان من الممكن تحويل مغربي إلى مسيحي، فأجابني بأنه صراحة لا يعتقد ذلك، ثم أضاف قائلا:
ولكنك إذا أردت أن تفعلي ذلك فهذا هو السبيل: عليك أن تحرقي جميع كتبهم، ويجب أن تتلقفيهم في مستهل حياتهم، وتعصري كل الدماء التي تجري في عروقهم، وتطحني عظامهم، فإذا استطعت بعد ذلك أن تعيديهم إلى الحياة كان في مقدورك يومئذ أن تحوليهم إلى مسيحيين.
وإذا كان من الناذر ( تقول الكاتبة) أن تجد أحدا من الأجانب يذهب للقول بإمكان تحويل مغربي واحد لمسيحي، فإن رجال بعثات التبشير وحدهم هم الذين يقولون أن هذا في الإمكان لأن لهم مصالح تتعلق بالموضوع”..
وقد قال لها أحد التجار المغاربة عن حركة التبشير: “إن في استطاعة المرء أن يتحمل أي عذاب مادي، وأن يزج به في السجن، وأن يفقد كل ما يملك، فإن ذلك أهون من أن يرتد عن دينه، ولكن هؤلاء المبشرين يستغلون فقر الناس وإملاقهم لأجل تنصيرهم، ويتمثل في عملهم أكبر جرم يمكن أن يقدم عليه إنسان”..
وقد سمعت الكاتبة من المبشرين أنهم لا يستغلون فن الطب في سبيل تحقيق مآربهم، ولكنها مع ذلك تقرأ وهي تقلب صفحات بعض منشوراتهم هم أنفسهم “إن عددا كبيرا من النساء قدم إلى المستوصف منذ رمضان، وكن يستمعن إلى ما أقول، وكان يبدو عليهن عدم المبالاة ما دمن يعتقدن أن من واجبنا أن نتحدث إليهن قبل أن نقدم إليهن الدواء، وجاءتني سيدة للعلاج وسألتني بعض الأسئلة عن البعثة، وانتهى بي الأمر إلى التحدث إليها عن الإنجيل، فالتفتت إلى أختها وسألتها:
“هل يجلس المسلمون للاستماع إلى هذا الكلام؟ فأجابتها بأنهم مجبرون عليه، وإلا فلا دواء”.
وجاء في منشور آخر لهم أن البعثة الطبية هي أجدى البعثات في ميدان التبشير، لأن الثقافة الطبية تكاد تكون معدومة في هذه البلاد، ولذلك فإن كل فرصة يجب أن تستغل للتحدث إلى المرضى الذين ينتظرون دورهم والتبشير بالإنجيل.
وقالت الكاتبة إن ما آلمها أن تفكر في العذاب الجثماني الذي يعانيه هؤلاء المساكين حتى إذا قدموا إلى المستوصف تحطم ما تبقى لديهم من معنويات عن طريق تشكيكهم في دينهم.
وتضيف الكاتبة:
مسكين الطب المفترى عليه، باسمه دعي المغاربة إلى التنصير بالأمس، واليوم يتخذ وسيلة للتدخل في شؤون السياسة.. إنه لا يهتم بأن يشفي “الرجل المريض” من علله، ولكنه يهتم فقط بأن يشفيه من علة الاستقلال”.
…………………….
راجع: “جولات في مغرب أمس 1901″ لعبد المجيد بن جلون؛ ص44 وما بعدها”.