تلميذ سابق لأبي حفص يروي شهادته عن السلفية الجهادية بفاس (3): مسألة الجهاد في سبيل الله
هوية بريس – ذ. الحسن شهبار
المسألة الثالثة: مسألة الجهاد في سبيل الله
معلوم أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو باق إلى يوم القيامة، وما سُميت السلفية الجهادية بهذا الاسم إلا لعنايتها بأمر الجهاد في سبيل الله، ومناصرتها للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، وبذلها في سبيل ذلك الأموال والأنفس، ومفارقة الأهل والأوطان، ومقاساة غياهب المعتقلات والسجون.. وإن الخلل الذي وقعت فيه السلفية الجهادية في المغرب في باب الجهاد يكمن في تحديث الشباب عن الجهاد وفضله دون فقه ولا ضوابط ولا شروط، ودون حديث عن طريقة تنزيل أحكامه على أرض الواقع..
إن الشباب عندما يسمعون الحديث عن الجهاد وفضله في الدروس والخطب والمواعظ يعتقدون أنهم معنيون بهذا الجهاد، وكيف يكون جهاد دون فقه ولا إعداد ولا تخطيط ولا قائد؟ وأين يكون هذا الجهاد؟ ومن نجاهد؟
إنني أذكر يوم كان الشيخ أبو حفص يشرح متن الرسالة في الفقه بإحدى دور القرآن بسيدي بوجيدة بفاس.. أذكر كيف انتقل بعد الهجوم الصليبي على إمارة طالبان الإسلامية بأفغانستان إلى باب الجهاد من الرسالة ولما يختم بعدُ الحديث عن نواقض الوضوء، وكذلك فعل في شرحه لصحيح البخاري الذي كان يُلقيه بدار القرآن بحي لابيطا الدكارات، حيث انتقل من كتاب الإيمان إلى كتاب الجهاد!!
إن الشاب الذي يستمع إلى درس الجهاد في سبيل الله، وإلى ترغيب نصوص الوحي في الجهاد، وما أعده الله للمجاهد في سبيله، ثم يرى الظلم الذي يقع على المسلمين في أفغانستان وباكستان وفلسطين والعراق.. كيف سيكون رد فعله؟ إن ما كان يذكره الشيخ عن الجهاد وفضله صحيح لا إشكال فيه من الناحية الفقهية النظرية، وإنما الخلل في زمان عرضه والفئة المستهدفة به، والحماس الكبير الذي يُلقي به الشيخ تلك الدروس.. كل هذا أدى إلى وقوع انحرافات سلوكية عند الشباب السلفي الجهادي، تمثلت في ممارسات شاذة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأهل والأقارب داخل البيوت، أو مع العصاة والمنحرفين في الشارع العام، فإن الشاب الذي قصرت به ظروفه عن الالتحاق بساحات القتال والجهاد، فأضعف الإيمان أن يُجاهد في محاربة مظاهر الانحراف والانحلال المنتشرة في مجتمعه.
وإن من المسائل الخطيرة التي تحدث عنها أبو حفص في دروسه ومواعظه، وأطال النفس فيها، مسألة اشتراط وجود الإمام وإذنه في وجوب الجهاد، وكان يُرجح عدم اشتراط وجوبه.. مكررا في ذلك عبارته الشهيرة في هذا الباب: إذا كان الإمام كافرا وتجب إزالته، فهل نأخذ الإذن منه لنزيله!! إن هذا الكلام كان يُوحي بأن الشيخ يرى كفر حكام المسلمين، وإن لم يكن يُصرح بذلك مباشرة لكنه كان يُلمح لذلك في كثير من دروسه وخطبه، ومن ذلك أنه تحدث مرة في درس من الدروس في رثاء الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله فذكر أن من فضائله أنه سئل مرة من ملك السعودية فقال: هو كافر!!
وتخيلوا معي كيف سيتصرف شباب قاصر استمع لمثل هذه الدروس.. إنه لا يحتاج لإذن أحد، ولا لوجود قائد أو إمام للجهاد، ومن سيُجاهد؟ وأين سيُجاهد؟ الجواب يأتينا من خُطب أبي حفص النارية التي كان يُلقيها بمسجد حي البركاني ببنسودة بفاس.. واسمعوا معي لهذه المقاطع من خطبته العصماء (عذرا فلسطين).. يقول فيها: “…إنها الحرب الصليبية اليهودية التي اشتعلت في كل بقاع الأرض تستهدف الإسلام والمسلمين… حرب صليبية شعواء تشتد يوما على أرض أفغانستان، وتستعر يوما على أرض اليمن، ويوما آخر على أرض فلسطين…
ما هذا الذي يقع على أرض فلسطين؟ أجيبوا يا أمة المليار، أجيبوا يا أمة الجهاد والاستشهاد، ألم تُحرككم تلك المناظر المفجعة؟… ألم تتقرح قلوبكم؟… ألم تتقطع أكبادكم؟… ألم تسمعوا أنات اليتامى، ألم تسمعوا آهات الثكالى؟…” ثم يوجه كلامه للحكام قائلا:
“ما هذا الخذلان لأبناء هذه الأمة؟ أينكم أيها العملاء، أينكم أيها الخونة، أينكم يا طواغيت العرب؟ بِعتم الأوطان، بعتم كل قضايا الأمة… وها أنتم اليوم تبيعون أبناء الأمة لأمريكا وحلفائها… ماذا قدمتم أيها الخونة وأنتم تجتمعون في قمة لبنان.. معذرة.. أقصد قُمامة لبنان… ما فائدة هذه الجيوش والعساكر الضخمة والآليات العسكرية التي تُجْبُون من أجلها الأموال… لعنات ربي عليكم وعلى جيوشكم.. جيوش الذل والخزي والعار… ما فائدة أجهزتكم الاستخبارية والأمنية؟ قولوا إن كل هذه الجيوش والأجهزة ما جُعلت إلا للتجسس على الموحدين والصادقين، وإيذاء الدعاة الربانيين، أما أحفاد القردة والخنازير فدعوهم… دعوهم يمرحون كيف يشاؤون في البلاد، ويعيثون فيها الفساد، ومن تعرض لأحدهم بأذى أو إهانة فالسجن مصيره دون شك ولا ارتياب!!
بل قولوا إن هذه الأجهزة ما وُضعت أصلا إلا لحماية اليهود والصليبيين… لقد فاحت رائحتكم يا معشر العملاء فأزكمت الأنوف، وأعمت العيون… فُرص تاريخية هاته أكرمنا الله بها لنفضح عمالتكم ونُظهر خيانتكم… فهنيئا لكم وفاءكم لأسيادكم…”.
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، مما كان الشيخ أبو حفص يُحرض به أتباعه، بكلماته الرنانة، وخطبه الطنانة، وعباراته المنمقة، وتعبيراته المزوقة.. ثم هو اليوم يدعي أنه كان معتدلا، ولم يصدر عنه ما يدينه بغلو أو تطرف.. وأنا أدعوكم لتتخيلوا معي كيف سيخرج شاب متحمس حضر مثل هذه الخُطبة، وأكثر خُطبه كانت مثل هذه، التي دامت أكثر من نصف ساعة، مليئة بعبارات التحريض والتشجيع على فعل شيء لنُصرة المستضعفين من المسلمين، وهو يرى على شاشات التلفاز صور القتلى والجرحى، وآلام الأطفال وصرخات النساء، ويسمع الشيخ يقول بملء فيه فوق منبر الجمعة في مئات من المصلين: “ومن تعرض لأحدهم بأذى أو إهانة فالسجن مصيره دون شك ولا ارتياب!!“.. إنه يدعوه لفعل أي شيء، ويفتي له باعتراض طريق اليهود والنصارى الذين يجدهم في طريقه ولو كان مصيره السجن!!
وإنني لا زلت أذكر يوم اعتقل أبو حفص الاعتقال الأول بعد إلقائه خطبته الأخيرة (حقيقة الابتلاء)، فكان اعتقاله قبل يوم الجمعة بيوم أو يومين، وقد تواعدنا إن لم يُطلق سراحه يوم الجمعة لنزحفن زحفا إلى مسجد حي البركاني الذي كان يخطب فيه، وفي صباح يوم الجمعة توافد الإخوة من كل حدب وصوب، والكل في حالة من الهيجان والغليان، واختلفنا هل نذهب ونقتحم المسجد الذي أغلقته السلطات ونخطب فيه الجمعة، أم نصلي بالساحة خارج المسجد؟ ولولا لُطف الله تعالى وحكمة بعض تلامذة الشيخ لتطورت الأحداث إلى مواجهات مع عناصر الأمن الذين انتشروا انتشارا واسعا في كل مكان في ذلك اليوم.. وكل هذه التصرفات الهوجاء من بركات خُطب الشيخ النارية.
فإذا كان أبو حفص يُقدم نفسه اليوم على أنه ضحية لظروف وطنية ودولية ساهمت في تشكيل شخصيته المضطربة، فلماذا لا يعترف بهذه الكوارث التي تسبب فيها بفعل تهوره وحماسه، ولماذا يُبرئ نفسه بالكذب والتدليس وهذه خُطبه ودروسه شاهدة على ماضيه القريب.. وهل دروس الجهاد في سبيل الله تُلقى بهذه العشوائية فوق المنابر؟ هل نعذر الشيخ الذي يبلغ من العمر ثلاثين سنة على حماسته الزائدة وتهوره المفرط، ولا نعذر الشباب الطائش الذي لما يُكمل عِقْده الثاني بعد؟
والآن تحول 180 درجة.
الخوف كل الخوف من أمثال هؤلاء.
لم أعرفه إلا بعد أن خرج من السجن مع مراجعاته. و الحمد لله.