سلسلة ذ. الحسن شهبار (ح6): حقيقة مراجعات عبد الوهاب رفيقي أبو حفص
هوية بريس – ذ. الحسن شهبار
“… كيف يُمكن استساغة مثل هذه المراجعة؟ أو مثل مراجعات سيد إمام والتي بدل أن تنصب على أخطاء قد وقع فيها الرجل حقيقة، وكانت مفاسدها عظيمة في كثير من بلاد المسلمين، بدل ذلك اشتغل بالسب والشتم وتصفية الحسابات مع أصدقائه القدامى؛ فلذلك لم يكن لها قبول واسع”. (أنصفونا؛ ص:46-47). هكذا صرح أبو حفص في حواره لجريدة التجديد الذي طُبع ملحقا بمبادرة (أنصفونا) لشرح ملابساتها وللرد على ما أثير حولها.. إنه لا يستسيغ التحول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الذي عرفته الجماعة الإسلامية المصرية، ولا يقبل من سيد إمام عدم اعترافه بالأخطاء التي ارتكبها، وانشغاله بدل ذلك بتصفية الحسابات الشخصية مع أصدقائه القدامى!!
وأنا أقول: كيف يُمكن استساغة مراجعات رفيقي أبي حفص، والتي بدل أن تنصب على الاعتراف بالأخطاء المنهجية التي وقع فيها حقيقة، وكانت مفاسدها كبيرة خصوصا بمدينة فاس، انصبت على إلصاق التهمة بالأهل والأحباب، والأتباع والأصحاب؛ فلذلك لم يكن لها أي قبول يُذكر!!
إن المتتبع لتصريحات أبي حفص وخرجاته الإعلامية بعد خروجه من السجن لا يجد اعترافا واضحا وصريحا بالأخطاء التي وقع فيها وأوقع فيها غيره، ولا يجد مراجعات حقيقية تستهدف تجاوز الماضي والاستفادة منه في تحصين الأجيال الناشئة، وإنما يجد شخصا مضطربا متذبذبا، يمتلك قدرة عجيبة على التحول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في غضون شهور وأيام قليلة، بل وحتى في ساعات معدودات.. ولذلك يصعب على المتابع له التنبأ بأفكاره المستقبلية وتقلباته المزاجية.. لقد ثار على تقاليد المجتمع وثوابته ومقدساته، وخاض معارك وهمية ضد التراث الإسلامي، وألصق به كل نقيصة.. وما اعترف يوما بأنه ارتكب خطأ أو اقترف جُرما..
إن مراجعات رفيقي أبي حفص لم تكن في حقيقتها إلا تزكية لنفسه وتبرئتها من تحمل أي مسؤولية، وإلقاء باللوم على الآخرين، بدءا بمؤسسة الأسرة التي ضيقت عليه الخناق وحرمته من ممارسة طفولته وعيش مرحلة شبابه كما عاشها أقرانه، ومرورا بمؤسسة الدولة التي نهجت سياسات خاطئة في مواجهة المد اليساري والمد الشيعي، ووصولا إلى ضغط الأتباع والأصحاب الذين مارسوا عليه الإكراه والإرهاب.. فهو المسكين الذي لا حول له ولا قوة، وهو كريشة في مهب الريح لا خيار له ولا قرار، وهو على مذهب غلاة الجبرية في هذا الباب!!
لقد ذكر أبو حفص أن مبادرة (أنصفونا) كانت بمبادرة من منتدى الكرامة، وتنسيق مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وأنها تتعلق بنقاط ثلاثة:
الأولى: نبذ العنف والعمليات المسلحة في بلاد المسلمين.
الثانية: البراءة من تكفير المجتمع.
الثالثة: الموقف من النظام الملكي.
أما النقطة الأولى؛ فقد ذكر أبو حفص أنه ترسخ عنده أنه لا سبيل لإصلاح الأوضاع في بلاد المسلمين، إلا بطول النفس، والصبر وبُعد النظر، وسلوك مسالك التربية والدعوة، والاندماج في المجتمع، والتواجد العلمي والفكري الفعال، والمدافعة بالبيان واللسان، والنأي عن الثورات المسلحة في بلاد المسلمين وفي بلاد الكفار، ولا يرى جواز التعرض للحربي إذا دخل بلاد المسلمين، لأن ذمته محفوظة بعقد الأمان.
ويظهر من خلال هذه النقطة أن أبا حفص حصل عنده تراجع في مسألة مشروعية العمليات المسلحة في بلاد الكفار؛ لأنه كان من المساندين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد ذكر في رسالته التي عزى فيها الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله بتاريخ 10 ذي الحجة 1422هـ: “لقد كان من بركة هذه الأحداث العظيمة التي تعرفها الأمة الإسلامية، أنها عرفت الأمة من يكون الشيخ حمود، يوم ماج الناس في أحداث 11 سبتمبر ما بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومحرم، إذ بإمامنا ينبري من بين كل أقرانه، ويُؤصل للعمل تأصيلا شرعيا رصينا، قرت به الأعين، وسرت به الأنفس، بل إن عرس 11 سبتمبر لم يكتمل، وفرحته لم تتم، إلا بعد أن أثلج الشيخ صدور الموحدين بفتواه الشرعية، التي أخرست الأفواه، وأسكنت الألسن“.
كما حصل عنده تغيير في مسألة مساندته لعمليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد التي كان يقوم بها بعض الشباب، فقد كان هو المساند الرسمي لها والمدافع عنها أمام من يُعارضها كما سبق ذكر ذلك في هذه الحلقات..
وحصل عنده أيضا تغير في مسألة التعرض للكافر إذا دخل بلاد المسلمين لأنه من أهل الأمان، وقد رأينا سابقا كيف أنكر في خطبته (عذرا فلسطين) على الدولة اعتقال من يتعرض لأحفاد القردة والخنازير الذين يعيثون في الأرض الفساد بأذى أو إهانة!
وأما النقطة الثانية، وهي البراءة من تكفير المجتمع، فنحن نشهد أن أبا حفص لم يكن من الذين يُكفرون المجتمع، لأن فكر التكفير والهجرة كان محصورا عند طائفة معينة من الناس يعيشون خارج العالم، لا يقرؤون ولا يكتبون، ولا يحضرون دروسا ولا ندوات ولا خُطبا.. ولكن هذا لا ينفي أن أبا حفص كان له تأثير كبير على الإخوة حينها في مسألة الغلو في التكفير، وذلك بسبب خُطبه الحماسية كما سبق ذكر ذلك، وبسبب الإطلاقات التي كان يُطلقها والمواضيع التي كان يُعالجها؛ إذ إن معظم دروسه كانت تدور حول حديث الغلام وحديث السفينة وقصة إبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين، وما شابه ذلك، وكذا حديثه عن الجهاد في سبيل الله وعن فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا منهجية ولا ضوابط ولا مراعاة لحال المخاطبين وقُدراتهم الفكرية والعقلية.. كل هذا أحدث اضطرابا كبيرا ونقاشا حادا عند الإخوة في مسائل الإيمان والتكفير، وكان الواجب عليه وهو الشيخ المتبع أن يُحذر أتباعه المبتدئين من الخوض في مثل هذه المواضيع الخطيرة التي تترتب عليها أحكام جليلة وعظيمة.. بل كان يُشجع أتباعه على قراءة كتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) لعبد القادر بن عبد العزيز، ومعلوم أن هذا الكتاب قد جمع الشر كله في باب الغلو في التكفير، فكان الأولى أن يُرشدهم إلى حرقه لا إلى قراءته.. وإنما يُرشد إلى قراءته طلبة العلم الذين استوى عودهم وكمل رشدهم.
وأما النقطة الثالثة، وهي الموقف من النظام الملكي؛ فقد صرح أبو حفص أن النظام الملكي وإن كان قائما على التوريث، فما دام يحفظ الدين ويوحد الأمة فلا يسع إلا القبول به وعدم معارضته والخروج عليه، سدا لباب الفتن، وحقنا لدماء المسلمين.. وما ذكره أبو حفص هنا صحيح لا إشكال فيه، ولم نعلم عنه خلاف ذلك لا قبل السجن ولا بعده.
ولقد صرح أبو حفص بأن هذه النقط الثلاثة فيها كفاية وزيادة؛ بل زعم أنه لو لم يلتزم منها إلا بشرط واحد، وهو تحريم العمليات المسلحة لكان كافيا في نظره، واستغرب بشدة اشتراط البعض مثلا الإيمان بالديمقراطية، أو الالتزام بالعقيدة الأشعرية، أو حتى تفكير المجتمع ما دامت هذه الأفكار لم تترجم إلى أعمال مسلحة.. وهذا الكلام صحيح لا شك فيه، لأننا لا يمكن أن نحاسب الناس ونُحاكمهم على مجرد أفكارهم؛ لأن الفكر يُواجه بقوة الفكر والكلمة وليس بقوة الحديد والنار، وقد أثبتت كثير من التجارب أن إرهاب المعتقلات والسجون لم يُغير فكرا ولم يُبدل رأيا.. ولكن الغريب أن أبا حفص أصبح يرى الآن أن كل من لم يسلك مسلكه في المراجعة وطريقه في التراجع فإنه لا زال متطرفا إرهابيا وسلفيا جهاديا!!
وهكذا عندما تحدث عن مراجعات الشيخ الفزازي مثلا، وذكر أنه لا يترك مناسبة إلا وأعلن فيها ولاءه لإمارة المؤمنين، وصرح مرارا بإيمانه بمؤسسات الدولة، وأصبح عضوا بالمجلس العلمي المحلي بطنجة، وخطيبا لأحد أكبر مساجدها، وعبر عن رغبته في تأسيس حزب سياسي والمشاركة في الانتخابات، وتوج ذلك كله بأداء الملك محمد السادس لصلاة الجمعة خلفه.. فإن هذا كله لم يُقنع أبا حفص بأن الفزازي قد تراجع عن أخطائه، لسبب واحد وهو أن الفزازي لم يندمج بعد في مسار المراجعات الذي خطه الزعيم أبو حفص.. واسمع معي لتصريحه فيما يتعلق بالفزازي حيث يقول: “ومع كل هذا التغيير الجذري في مواقف الفزازي، إلا أنه لا يمكن الحديث عن أي نوع من المراجعة؛ فباستثناء موقفه من الدولة ومؤسساتها، وعلاقته بحركات الإسلام السياسي، فلا يمكن الوقوف على أي نوع من المراجعة أو نقد التصورات، أو إعادة البناء الفكري الذي أنتج المواقف السابقة، بل يُلمس في ردوده الحادة على محمد عبد الوهاب رفيقي ووصفه له بالعدو، بسبب خلافه معه حول حكم الاحتفال بدخول السنة الميلادية الجديدة، اقتناعه الدائم بالأصول السلفية في التعامل مع المخالف، بل ووفاؤه لكل الاختيارات المتشددة لهذه المدرسة”!!
هكذا إذن أصبحت الردود على أبي حفص دليلا قاطعا أن صاحبها لا زال متطرفا ومتشددا ولو صلى خلفه ملك البلاد!
وإذا كان هذا هو رأي أبي حفص في حق الفزازي الذي صلى خلفه ملك البلاد؛ فما ظنكم به عندما سيتحدث عن غيره من المعتقلين السابقين؟ لقد وصف الحدوشي بقوله: “ويظهر من خلال مواقف عمر الحدوشي المعلنة، أنه لم يراجع فعلا شيئا من أفكاره، فلا زال يدعو إلى تطبيق الشريعة بنفس التصور الجهادي، ولا زال يوظف مصطلحات كـ”الطغاة” و”الابتلاء” في خطبه الموجهة للشباب”.. وأما الكتاني فقد وصفه بأنه حالة تستحق الدراسة، بحكم أن مساره الفكري عرف تطورا نحو التطرف في المواقف؛ لأنه كما يُصرح أبو حفص: “لا يتورع الكتاني في تكفير مخالفيه، ولا في الدخول في صراعات مع الباحثين مع عنف في الخطاب والألفاظ، بل لا يتوقف عن وصف صديقه القديم محمد عبد الوهاب رفيقي بـ”المنتكس” في إشارة إلى مراجعاته، بل يصفه بالنفاق والجهل، موظفا كل القاموس السلفي في الطعن والتشهير”.
لقد وقع أبو حفص في نفس الخطإ الذي انتقده على سيد إمام؛ إذ بدل أن تنصب مراجعاته على بيان أخطائه الحقيقية وبيان طريقة علاج مخلفاتها والاضطرابات التي خلفتها في عقول الشباب، اشتغل بتصفية حساباته الشخصية مع أصدقائه القدامى، ليُقدم نفسه في النهاية على أنه الشخص الوحيد الذي كانت له مراجعات حقيقية، وأنه هو المُخَلِّص من براثن الغلو والتشدد الذي يجب أن تُفتح له الأبواب وتُزال من طريقه العوائق لنشر فكره المتنور والمعتدل.. فهو البطل المغوار الذي استطاع أن يُراجع أفكاره، ولولا حديثه عن المراجعات ما عرف المغرب أي مراجعات، وحتى لو وُجدت فلا تُصدقوها لأنها غير حقيقية ما دامت لم تصدر من المُخَلِّص !
لقد نهج أبو حفص في مراجعاته وتراجعاته أسلوب إلصاق التهم بالآخر ليُغطي عيوبه وأخطاءه، وكان الأجدر به أن يُبادر بإعلان الأخطاء التي وقع فيها، ثم يُعلن توبته منها، ويطلب العفو والصفح ممن غرر بهم واستغلهم ماديا ومعنويا بلقب المشيخة، وحينها فإن الله غفور رحيم.. ولكنه لم يفعل شيئا من هذا، وانقلب بعد خروجه من السجن على بنود مبادرته التي أطلقها داخله، وأصبحت المراجعة عنده لا يكفي فيها نبذ العنف والبراءة من تكفير المجتمع والاعتراف بالملكية، ولا يكفي فيها الإيمان بالديمقراطية والتمسك بالعقيدة الأشعرية؛ بل لا بد من شروط أخرى، وهذه الشروط يُصرح بها دون خجل ولا وجل، وأذكر منها:
– ادعاؤه أن التراث السني يفرغ الإرهاب والإرهابيين.
– ادعاؤه أن السنة النبوية يجب أن تُصفى من الروايات المخالفة للعقل والعلم وحقوق الإنسان ولو تعلق الأمر بصحيح البخاري.
– ادعاؤه أن المرأة تعرضت للظلم من طرف التراث الإسلامي ولذلك يجب إنصافها.
– نداؤه بضرورة التمييز بين الديني والدنيوي.
– دفاعه المستميت عن مبدإ الحريات الفردية.
– دعوته العرجاء لتعديل نظام المواريث.
– تأكيده الدائم على عدم وجود تعارض بين الشريعة الإسلامية الإلهية وبين القانون الأرضي البشري!!
إن أبا حفص يُقدم هذه الأفكار على أساس أنها اختيارات علمية توصل إليها بفضل انكبابه على القراءة والبحث داخل السجن، وهذا لا إشكال فيه، ولكن ما علاقتها بالمراجعات؟ وما علاقتها بالتطرف والإرهاب؟ وما علاقتها بملف السلفية الجهادية؟ لماذا يُوهم أبو حفص أتباعه الجدد أن مخالفة هذه الاختيارات هو منهج السلفية عموما، وأن كل من لم يتبعه فيها فإنه متطرف وإرهابي؟
إن هذه الاختيارات التي ذكرها أبو حفص ولا يترك فرصة ولا مناسبة إلا ودافع عنها، هي اختيارات مرفوضة من كل علماء المسلمين قديما وحديثا، وقد رد عليه فيها علماء المغرب، ومنهم بعض رؤساء المجالس العلمية المحلية، ومن هؤلاء العلماء الدكتور محمد الروكي، والدكتور مصطفى بنحمزة، والدكتور لحسن سكنفل، والشيخ مولود السريري، والدكتور أحمد الريسوني، والدكتور رشيد بنكيران، والدكتور الناجي لمين، والدكتور محمد زحل، والفرضي أحميدة مرغيش، وغيرهم كثير.. فهل كل هؤلاء سلفيون جهاديون، وإرهابيون تكفيريون، لأنهم ردوا عليه وأبطلوا ادعاءاته، وطالبوا بمناظرته؟ وهل يملك أبو حفص الجرأة العلمية للدفاع عن اختياراته هذه في مناظرات علمية علنية؟ إننا لا نُلزمه بذلك، فله كامل الحرية في اختيار ما شاء، ولكن يحرم عليه الكذب والبهتان، ولا يجوز له التلبيس أو التدليس، وليكن صادقا مع نفسه ومع الناس ولو مرة واحدة، وليقل بأعلى صوته: إن هذه المسائل ليست اختيارات متشددة للمدرسة السلفية، وإنما هي اختيارات متشددة لكل الأمة الإسلامية..
لقد صرح أبو حفص بنفسه عند حديثه عن مبادرته قائلا بالحرف: “فنحن لا نطالب بتغيير شكل النظام ولا بالإطاحة به، ولا دعونا إلى ذلك قبل السجن ولا بعده، ولكن نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو مطلب شرعي وواقعي، يُطالب به كل علماء الأمة وكل الحركات الإسلامية“. (أنصفونا؛ ص:56-57). فلاحظوا معي كيف صرح في مبادرته بأن مطلب تطبيق الشريعة يُطالب به كل علماء الأمة وكل الحركات الإسلامية، وهو اليوم يصف من يُطالب بذلك بأنه متطرف ومتشدد ! بل ويُصرح أنه لا فرق بين الشريعة والقانون! وعلى مذهبه هذا فإن كل علماء الأمة متشددون.
إنه من المعلوم بالضرورة عند كل المسلمين قديما وحديثا أنه ليس من شروط الوسطية والاعتدال أن يشن المسلم حربا على مقدسات الإسلام وثوابته، ولا أن يتبرأ من عقيدته ودعوته، ولا أن يتحلل من أخلاقه ومبادئه.. ولا يلزم المسلم أن يؤم الشقراوات أثناء مشاهدتهم لمباراة في كرة القدم حتى يكون عند الناس معتدلا، ولا أن يُصافح النساء الأجنبيات أو يُضاحكهم ويُغازلهم.. وإنما يكفيه كما قال أبو حفص نفسه أن لا تصدر عنه أفعال مسلحة تضر بسلامة الأفراد أو المجتمع، ولست هنا أناقش أبا حفص في اختياراته، ولست أحسده على ما يُمتع به نفسه مما كان قد حُرم منه في شبابه بسبب تشدده وضغط أسرته ورقابة محيطه، وإنما أُذكره فقط بأن ما هو عليه الآن مجرد اختيارات له لا علاقة لها بمسألة المراجعات، وإذا خالفه شخص في ذلك فليس بالضرورة أن يكون سلفيا جهاديا، ولا متطرفا تكفيريا.
إن أبا حفص يُقدم نفسه اليوم على أنه المنقذ من ضلال الغلو والتكفير، ولذلك يجب إشراكه في كل خطة لمحاربة التطرف، فأنشأ مركز الميزان لمحاربة الإرهاب والتطرف، وهذا شيء جميل، لكن الإشكال المطروح: من هؤلاء الذين يستطيع أبو حفص انتشالهم من براثن الغلو والتطرف؟ ومن هم المعنيون بعدالة ميزانه؟ لقد فقد مصداقيته عند جميع أصحابه وأتباعه، ولم يعودوا يسمعون لكلامه، فما الفائدة إذن من تأسيس هذا المركز؟ أهو التسويق الإعلامي أم الاسترزاق على حساب المعتقلين وراء القضبان؟ إن محاربة الغلو والتطرف تتطلب التواضع والصبر، والعلم والحلم، والأناة والحكمة، وكسب قلوب المخالفين للتأثير فيهم، وردهم إلى الحق ردا جميلا، وكل هذا لا وجود له عند أبي حفص عندما يُخاطب من أنشأ ميزانه لأجلهم.. وكان الأولى به أن يجد ويجتهد في البحث عن كل وسيلة تُقربه منهم ليُخرجهم من ظلمات الغلو -كما يدعي- بعلمه وحلمه، ورحمته وحكمته، كما قذفهم فيه من قبل بجهله وحماقته، وطيشه وغروره.
إنني أؤكد أن المراجعة واجب شرعي، وأن هذه المراجعات التي قام بها أبو حفص في مبادرة (أنصفونا) تعتبر خطوة إيجابية في الطريق الصحيح، ولست ممن يسميها تراجعات تنقيصا من قيمتها؛ بل إن الأمر عندي واحد سواء سميناها مراجعات أو تراجعات؛ لأن التراجع عن الخطإ فضيلة، ولا يكون التراجع إلا بعد مراجعة وتمحيص للمواقف والأفكار، ولذلك لا مشاحة في الاصطلاح هنا، وعندما أصدر أبو حفص من داخل السجن رفقة مجموعة من طلبته هذه المبادرة، كنت أول المعجبين والمرحبين بها، كما قمت بإهدائها لعدد من الأساتذة الجامعيين والمثقفين والباحثين، ولذلك ليس عندي والحمد لله أية حساسية من موضوع المراجعات؛ بل أعتبرها أمرا ضروريا وواجبا شرعيا لمن تبين له أنه كان على خطإ؛ فكما أن الجسد إذا مرض اشتاق لرجوع العافية بسرعة فكذلك الأمر بالنسبة للفكر والروح، مع التشديد على أن أولى الناس بالحديث عن المراجعات وعن التجربة التي مر بها ما سُمي إعلاميا (بالسلفية الجهادية) في هذه المرحلة هم أصحابها الذين عاشوا أحداثها ووقائعها واكتووا بنارها، وإذا كانت المراجعة واجبا شرعيا وضرورة واقعية فإنه يجب أن تكون صريحة وواضحة لا غبش فيها، ولا يضر المتراجِع أن يذكر أخطاءه التي تراجع عنها؛ بل يُحمد له ذلك.. وقد كنت أنتظر من أبي حفص تدقيق النظر في مراجعاته ليقف عند المحطات الكبرى في مسيرته الدعوية بفاس التي أخطأ فيها ويقوم بإصلاحها وتقويمها، ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك؛ بل راح يهدم كل الثوابت والمقدسات، فانتقل بذلك من تطرف أصغر إلى تـطرف آخر أكبر وأخطر.
180 درجة.
الشاب رفيقي