احسان الفقيه تكتب: ابن سلمان الذي توعّد الصحوة فأنجز
هوية بريس – احسان الفقيه
لما تولّى الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية العراق، دخل الكوفة نهارًا، فصعد منبر المسجد، فاجتمع إليه الناس وقد أطال السكوت، فلما تكلمَ زلزلَ قلوبهم بالوعيد: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْمِلُ الشَّرَّ مَحْمَلَهُ، وَأَحْذُوهُ بِنَعْلِهِ، وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي لَأَرَى رُؤُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَقَدْ حَانَ قِطَافُهَا، إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى».
وقد أنجز الحجاج وعيده وأنفذه، فالرجل كان يقتل بالظن، ويعتقل بالوشاية والشبهة، فكان الحال كما عبر عنه النووي اختصارا بقوله: فوليها عشرين سنة وحطَم أهلها، وفعل ما فعل.
وبعد مرور 14 قرنًا من الزمان، بدا ولي العهد السعودي يسير على الخطى ذاتها، ويُفاجئ العالم عبر جلسة حوارية بمنتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» العام المُنصرم، بخطاب حمل من التهديد والوعيد ما حمل.
«سوف نُدمرهم اليوم، وفورًا»، هكذا سوّق ابن الملك سلمان لتوجهاته في المرحلة الراهنة، فهو يتوعد مشروع الصحوة الذي قال إنه انتشر في السعودية وغيرها بعد 1979، وحمّله مسؤولية التطرف، وبالفعل، أنجز ولي العهد وعيده، فليست حملة الاعتقالات التي طالت ـ قبل التصريح وبعده – عددًا كبيرا من الدعاة والعلماء والمُصلحين الذين ينتمي معظمهم لهذا التيار، سوى ترجمة لتوجّهاته الجديدة. قبل أن نربط بين تهديدات ابن سلمان وحملة الاعتقالات الحالية، يجدر بنا التعرف قبلها على مشروع الصحوة، ليسهل إدراك المغزى من استهداف هذا التيار.
بعد الضربات القوية التي تعرضت لها جماعة الإخوان في الستينيات، كان هناك من إخوان سوريا من يخرج عن هذه العباءة، ويرحل إلى المملكة السعودية، ليعيد صياغة المنهج الإخواني وفق رؤيتة النقدية، إنه الداعية السوري محمد سرور زين العابدين، مؤسس ما أطلق عليه البعض تيار السرورية، وهو اسم يرفضه أصحاب هذا الفكر، حيث أنهم يبتعدون عن أي تصنيف أو مسمى، وعُرفوا كذلك بتيار الصحوة. دمج محمد سرور بين الضبط والتأصيل السلفي، والمنهج الحركي للإخوان، بين سلفية المنهج وعصرية المواجهة، فأفرز مزيجًا من المنهجين.
فهناك اهتمام بالعقيدة على غرار السلفية، لكنها ارتبطت في ظل هذا المنهج بالحياة المعاصرة، حتى تكون العقيدة منطلقًا للتغيير في الواقع، في ما يعرف بحيوية العقيدة.
كما أن هناك اهتماما بالجانب العلمي، وبالهدْيِ الظاهر الذي اهتم به السلفيون، فلا يكاد العوام البسطاء يفرقون بين أتباع مشروع الصحوة وبين السلفيين في هذا الجانب.
وأخذ هذا التيار من الإخوان حركيتهم وبرامجهم الدعوية والعمل المؤسسي، مع تخفيف في الهيكل التنظيمي، فكان هناك تنسيق بين رموز المشروع، إلا أنه لم يصل إلى شكل البنية التنظيمية للإخوان المسلمين، فنستطيع القول إنه عبارة عن مظلة منهجية فكرية يتحرك تحتها أتباع المنهج في كل دولة ومجتمع بصورة مستقلة، مع تواصل وتنسيق بين الرموز، خاصة في مواسم الحج والعمرات.
اهتم التيار بالصفاء المنهجي وخُلُوِّ المنهج من الأفكار المخالفة لسبيل أهل السنة على غرار توجهات ابن تيمية، بالتوازي مع الاهتمام بقضية الحاكمية التي كانت مِحور اهتمام وكتابات سيد قطب، إضافة إلى الاهتمام بالقضايا الفكرية.
وبرزت على الساحة كثير من المصطلحات التي لم تكن في بؤرة اهتمام الإسلاميين، كفقه المصالح والمفاسد، وفقه الأولويات، وفقه الواقع، كما تعامل دعاة هذا التيار مع ولي الأمر بشكل ينزع عنهم هالة التقديس التي صنعتها الجامية والسلفية المؤسسية، حتى أنهم طالبوا بإصلاحات سياسية جِدية بصورة رسمية مكتوبة.
اهتم التيار كثيرًا بالتعاطي مع الواقع السياسي بخلاف السلفية، وكان هناك إقبال كبير على محاضرات رموز هذا التيار كسلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر وعبد الوهاب الطريري وغيرهم، حيث رأى كثير من الشباب في طرحهم شيئًا جديدًا مختلفًا عن التقوقع السلفي.
كان أبرز محطات الصدام مع هذا التيار إبان حرب الخليج عندما قدموا وجهة نظر معارضة لعلماء المملكة الرسميين في جواز الاستعانة بغير المسلمين في تحرير الكويت، حيث عارض دعاة الصحوة الأمر ولم يروا صحة تكييفه الفقهي أو انطباق الضوابط الشرعية لتلك المسألة على تلك الحالة، ولأنه سيفتح الباب أمام التدخلات الخارجية في العالم الإسلامي، وعلى خلفية هذا الصدام، تم اعتقال عدد كبير من هؤلاء الدعاة.
ونتيجة للتضييقات الأمنية وقوة السلفية المؤسسية التي بدّعت أتباع هذا المشروع واتهمتهم بالخروج، تمّ حلْحلَة هذا التيار، ولم يتبقَّ منه سوى مظلّته الفكرية التي يعمل تحتها دعاة ومؤسسات من دون تنظيم، واتجه مُنظّروه أمثال سلمان العودة للعمل الإصلاحي والدعوي والإنساني العام، والنأي عن القضايا السياسية، نظرًا لافتقاد المناخ الذي يسمح بذلك.
نعود إلى توجهات ولي العهد السعودي الرامية إلى الانصهار في المجتمع الدولي وتغريب وجه الحياة في المملكة والسير على خطى ولي عهد الإمارات، فكان سبيله إلى ذلك استئصال شأفة جماعات الإسلام السياسي، كالإخوان وكل من خرج من عباءتهم وهو محتفظٌ ببعض أصولهم وملامح منهجهم، والإبقاء فقط على تيار الجامية التي تُقدس طاعة ولي الأمر وتُشرعن له الفساد، والسلفية التقليدية والمؤسسية المُتقوقعة في الإطار الفقهي النظري والإفتاء، من دون التطرق إلى الواقع السياسي، ولا تخرج في الجملة أيضا عن توجهات ولي الأمر.
ونظرًا لأن تيار الصحوة يدخل ضمن فئة المغضوب عليهم، فقد تم استهدافه بعد أن أصبح الرأي الرسمي في المملكة يعتبر جماعة الإخوان منظمة إرهابية يجب ملاحقتها، وبطبيعة الحال كان التوجه لملاحقة رموز الصحوة التي خرجت من رحم المنهج الإخواني، حتى بعد التغيرات التي طرأت على أفكارهم ومسلكهم، لأن ولي العهد السعودي لا يريد أن يشهد إحياء الأفكار الثورية من جديد، ويسعى فقط للاحتفاظ بالتيار الديني الذي يساعده على التوافق مع التوجهات الأمريكية والغربية، على الرغم من أن هذا الاتجاه فقد مصداقيته وبريقه، ما يعني أن الدولة السعودية مكشوفة أيديولوجيًا.
ما أود قوله، إن هذه الاعتقالات الموسعة ليست لأن هؤلاء الدعاة لم يباركوا الإجراءات السعودية الأخيرة، خاصة الحصار الاقتصادي على قطر، ولم يكونوا من فئة (المطبلين)، بل لرغبة ولي العهد في تتبع وملاحقة الأفكار الثورية التي ترفض تقديس ولي الأمر، ولا ترى التماهي الكامل معه إلا في نطاق المسموح به شرعًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية