ملاحظات على محاضرة: “منهج البحث في القضايا الفكرية المعاصرة”
تطرق الدكتور البشير عصام المراكشي، على امتداد ساعتين ونصف، من محاضرته المشار إليها أعلاه، لقضايا ومفاهيم تتعلق بمنهجية البحث في القضايا الفكرية المعاصرة، من خلال ثلاثة محاور مفصلة، استوقفني فيها المحور الثاني، فأحببت تسجيل بعض الملاحظات عليه.
بداية أسجل أن المحاضرة مفيدة جدا، وأنها غنية بالقواعد والضوابط والتوجيهات المنهجية، التي لاغنى للباحث الشاب والمبتدئ عنها، بل المحاضرة بالنسبة لفئة وشريحة من المتدينين، أراها مدخلا من مداخل محاربة الكثير من الانزلاقات عندهم، سواء كانت منزلقات نحو الغلو والتشدد والتطرف، أو منزلقات نحو الميوعة والإسفاف.
ومع ذلك لم تخل من الملاحظات التالية خاصة في محورها الثالث، ومنها:
تحدث الدكتور المحاضر في عناوين فرعية تحت هذا المحور، عن:
1) الحمولة المعرفية
التي يجب أن تتوفر في الباحث في القضايا الفكرية المعاصرة، وذكر في ذلك جملة من المعارف الدينية سواء العقدية أو الأصولية أو الفقهية ومواطن الخلاف والإجماع….
هذه الشروط التي اشترطها المحاضر في الباحث في قضايا الفكر المعاصر، وجعلها من المنهج، ليست شروطا في كل باحث، إلا إذا كان الكلام موجها للباحث الإسلامي، ووهو بطبيعة الحال كذاك، وهنا كان ينبغي تقييد العنوان كما تم تقييد الفكر بالمعاصر، بالقول “منهج البحث لدى المسلم أو الإسلامي في القضايا الفكرية المعاصرة”، كي لايتوهم القارئ للعنوان أن المحاضرة تضع قواعد عامة أو تتحدث عن منهجية عامة مجردة، للبحث في الفكر المعاصر، مثل المنهج في علوم الاجتماع أو الأبحاث التاريخية….
2) توازن الشخصية
وفي تقديري أن الحديث عن عيوب الشخصيات وصفاتها، في سياق التأصيل أو التقعيد لمنهج بحثي، لا أراه مناسبا.
وإذا كنا بصدد الحديث عن منهج وقواعد علمية، فإن الشخصية المتسرعة أوالمتحمسة أو الخاملة أو الجبانة… لاتهم ولاتؤثر في القواعد، والباحث هنا منفصل عن المنهجية، وهو مؤثر خارجي، قد تؤثر في النتائج، وهذا ليس مبحث المحاضرة.
3) شبكة القراءة
شبكة القراءة في المحاضرة يقصد بها الأدبيات، فشبكة قراءة الحداثة، هي أدبيات الحداثة، وشبكة قراءة الفكر الإسلامي أو الإسلام السياسي هي أدبيات هذا الفكر.
في هذا العنوان تطرق المحاضر لفكرة مفادها، أنه لفهم القضايا الفكرية أو لبحثها ودراستها والحديث عنها وحولها، ينبغي أن نتقيد بشبكة قراءتنا، وأنه يستحيل أن نكون محايدين، يعني لاننطلق من شبكات متعددة أو أدبيات متنوعة.
يقصد أن ننطلق من أدبياتنا فقط، ونتقيد بها، لفهم وبحث ودراسة القضايا المعاصرة.
ومنطلقي الذي استندت عليه، لتسجيل ملاحظة على هذا المبحث، هو أن الكثير من القضايا والمباحث، لايمكن الاتكال في فهمها ودراستها على شبكة قراءة واحدة، أو لايمكن الاتكال فيها على الأدبيات الإسلامية لوحدها، خاصة إذا كانت تلك الأدبيات قديمة، لم تواكب ماوقع من تحولات، ولعل المثال يتضح بضرب أمثلة من العلوم التجريبية والظواهر الفلكية…
شبكة القراءة الإسلامية خاصة التراثية القديمة، لاتقدم إجابات أو توضيحات أو تفسيرات مقبولة أو مقنعة لكثير من الأسئلة، والاكتفاء بها لفهم تلك الظواهر، سيجعل الباحث، منبتا عن العالم والواقع والعلوم، كما حدث من بعض الشيوخ والدعاة الذين أنكروا كروية الأرض أو الصعود للقمر، فأصبحوا محط سخرية العالم، وكبعض التفسيرات التراثية لصوت الرعد ولنزول المطر… صحيح أن هذه مواضيع لها صلة بقضايا العلم التجريبي، وقد يعترض المحاضر بالقول أن حديثنا كان عن القضايا الفكرية المعاصرة، وسأرد بالقول أن هذه القضايا قبل إدخالها مختبر العلم التجريبي وإقامة الحجج والبراهين العلمية القطعية عليها، كانت في خانة التنظير الفلسفة والفكر، ثم تحولت لحقائق ملموسة.
في قضية الرعد تحديدا سأضرب مثالا وأعطي مقاربة للتعامل مع بعض الإشكاليات وبها أختم.
في الحديث الصحيح: أقبلت اليهود إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا:أخبرنا عن الرعد ما هو؟
قال: ملك من ملائكة الله، موكل بالسحاب يسوقه حيث أمره الله.
قالوا فما الصوت الذي نسمع؟
قال صوته.
المنطلق من شبكة قراءة إسلامية كما قال المحاضر، سيكتفي بهذا التفسير، وسينتج عن ذلك أثران:
* انغلاق على هذا التفسير، والكفر بكل العلوم التجريبية، وبكل التفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية، لدرجة أن يعتقد البعض مثلا أن المطر ماهو إلا بكاء الملائكة، وأن هذه التفسيرات التي تقدمها العلوم التجريبية ماهي إلا مؤامرة صهيونية ماسونية علمانية غربية مسيحية، لإبعادنا عن ديننا، وسيجد من هذا حاله، في الآية الكريمة: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم” والآية: “ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم”، مايثبت به نظريته ويجعله متشبثا برأيه.
* تمرد وإلحاد وكفر، بالتفسير الديني كله، بل بالدين كله.
والحل هو الانفتاح على كل شبكات القراءة، وملاءمة مالايتعارض معها، فالمسلم الذي يقرأ أن هناك ملائكة موكلون بالمطر وبالأجنة والنباتات، ينبغي إقناعه أن معتقده ذاك، لايتعارض مع التفسير العلمي التجريبي، ولايلغيه أو ينفيه، وأن عملية التركيب الضوئي الكيميائية المعقدة، لن تلغي أن هناك إلها قام بذلك، أو كلف ملكا بذلك، لكن حين ندخلها للمختبر هي أو الغيمة أو الجنين، فإننا لاندخل معها الملك، بل نؤمن به كما أخبرت النصوص، وفي تفسير الظاهرة وفهمها أو إثباتها او نفيها، أو ترتيب الآثار عليها، نكتفي بالمنهجية العلمية من ملاحظة وفرضية وتجريب وتحقق…
هذا الفهم لايتحقق بشبكة قراءة واحدة، نفهم على ضوئها كل شيء ونفسر ونحلل بها كل شيء، وهو مافهمت أنا من كلام المحاضر.
وإن صح فهمي ذاك، فهل هي دعوة للآخرين أن يكتفوا بشبكات قراءتهم، ولا ينفتحوا على شبكتنا، ولايستعملوا أدواتها، أويجربوا نظرياتها، ويختبروا قواعدها؟
هذه ملاحظات على المحور الثاني، سجلتها بعجالة، وكنت أرغب بضرب المثال من نظرية التطور، لكن خشيت من الدخول في متاهة، يلزمني وقت طويل وصفحات كثيرة للخروج منها.