الهرمسية ديانة الشيطان العالمية
هوية بريس – طارق الحمودي
لا يتصور أكثر الناس أن الطريق إلى معرفة ما يجري هو التعرف على ما جرى، وأن الوسيلة الوحيدة النافعة في محاولة معرفة العمق الفكري لكثير من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي التعرف على أوائل الفكر الإنساني وأصوله، فليس ثم إلا الوحي والفكر الشيطاني، والفكر الإنساني يتردد بينهما يغلب عليه هذا تارة ويحكمه الآخر تارة، والناس بين لَمَّة الملك ولَمَّة الشيطان، بين العقل والهوى، بين الهدى والضلال، والعاقبة لمن اتقى.
يقوم الفكر الهرمسي ذو التركيب المنظوم على مجموعة من الأسس، وتوجهه سلسلة من المحددات الثقافية، حاول استخراجها «بيتر غاندي» و«تيموثي فريك» في كتابيهما “متون هرمس، حكمة الفراعنة المفقودة” من النصوص المنسوبة إلى هرمس، ولعلها في نظري أنفذ الدراسات لكونها دراسة وصفية وتحليلية مباشرة للنصوص المؤسسة، ومن اللافت للنظر أن من أهم محدداتها كونَها متضمنةً معنى العلم الخاص والنخبة من جهة، ومعاني الإغلاق والإبهام والغموض من جهة أخرى، وهو أمر موافق لما حُددت به حقيقة الباطنية، وسيجد القارئ شواهده في ما سأعرضه من خصائص الهرمسية وأسسها.
الخلق.. فيض وصدور
ينبني الفكر الهرمسي في بعده الأنطولوجي على فكرة تردد صداها عبر آلاف السنوات في مختلف الأديان الوضعية وبطرق مختلفة، لكنها تشترك في جوهرها في حقيقة واحدة، وهي أن الكون ماضيَه وحاضرَه ومستقبلَه[1] منتوج فكري لعقل مستعل مجرد، عن طريق كلمة[2] هي الفكرة الأولى فيه، و«كل ما يوجد ليس إلا فكرة في عقل الإله»[3]، في مقابل فكرة الخلق من العدم التي جاء بها الوحي الرباني للأنبياء والرسل، و«أتوم» كما يسميه هرمس، إله منزوع الصفات والإرادة، غير مدبر ولا فاعل متحرك[4]، وعنه تفرعت الآلهة المساعدة المتعددة والمتنوعة، سماوية وأرضية، خيرة وشريرة، وعنها صدرت صور الكائنات الأرضية بدءاً بالإنسان وانتهاء بالجماد، مرورا بالمادة السماوية الخامة التي يسميها بعضهم «الهيولى»، وانتهاء بالعناصر أو العنصر الأرضي، «وفاضت كلمة أتوم على المياه الصاخبة لتجعلها حبلى بجميع الأشكال… ووجدت العناصر الأربعة باتساق الكلمة، واتحدت لتكون جميع الأحياء»..«بمشيئة أتوم.. والتي خلقت عناصر الطبيعة،انعكاسا للفكرة الأولى في مياه الإمكان»[5]، وأرجو استصحاب قوله “انعكاسا.. في مياه الإمكان” إلى آخر البحث!!
وحدة الوجود
من أهم أساسات الفكر الهرمسي ما اصطلح العلماء على تسميته “وحدة الوجود“، وهي نظرية تقوم على اعتقاد أن الكون تجل إلهي للعقل الأول أو الأصل أو «أتوم»، فليس ثَم تعدد، بل الكل شيء واحد، والتعدد وهم لا حقيقة له، وكما في نصوص هرمس: «اعلم أن ما تراه العين أشباح وأوهام، أما الفكر فهو الحقيقة»[6]، أي أن كل ما نراه توهما إنما هو فكرة «أتوم» العقل الأول المفكر، بل يذهب المتن الهرمسي إلى أن «أتوم خالق ذاته بنفسه، وتلك هي عظمة أتوم.. أتوم هو الفكر، كل شيء هو أتوم»[7]، وهذا نص صريح، سيكون من المثير جدا أن يوضع مع أشباهه مما باحت به أدبيات الفكر الباطني عبر التاريخ، قديمه وحديثه خاصة، حيث صار «الفكر» إلها يعبد من دون الله سبحانه وتعالى!
الغنوصية
يرى الفكر الهرمسي أن العقل الأول أوجد الأشياء بفكره في نظام بديع «بحيث تراه من خلالها»[8]، فهي نفسها من تجلياته، و«لرحمته أراد أتوم أن يكون هناك مخلوق قادر على الإعجاب بجمال خلقه»[9]، وملاحظة «مثل هذا النظام البديع»، أي أن القصد من ظهور الكائنات هو الحب -وفق التعبير الصوفي- الهرمسي تجاه العقل الأول، أو الشوق إليه -وفق التعبير الفلسفي-، والقاعدة الأساس في الفكر الهرمسي، أن ما في السماء مَثَل الذي في الأرض والعكس، وأن بين الشاهد الأدنى والغائب الأعلى تماثلا يكشفه الفن الملكي أو الكيمياء الروحية[10]، فالإنسان شبيه بالعالم العلوي، وما أُوجد الإنسان إلا ليتعرف على العقل الأول، ولذلك كان «عقل الإنسان صورة من عقل الإله الأعظم، ويستطيع بقوة المخيلة أن يحيط بالكون، ويصبح كالإله في كل زمان ومكان»[11]، ولأجل هذا ينبغي على الإنسان أن يركز عقله في التأمل العميق في أتوم الإله والعقل الأعظم عن طريق التغنص، بل ويحاول التشبه به، بـ«تحرير العقل من المحددات التي يفرضها الكيان المادي»[12]، والتحرر من الجسد عن طريق الرياضات، حتى يصل إلى مرحلة «الميلاد الروحي من جديد،وقد يصير كائنا إلهيا»[13]، وستتردد نظرية “الميلاد الجديد” بعد الموت المجازي عند طوائف مختلفة، مرورا بالصوفية الإشراقية إلى الماسونية، بحيث يكون قادرا على «الصعود إلى السماء دون أن يترك مكانه في الأرض»[14].
تتلخص حالة الغنوص في ممارسة السالك الهرمسي نوعا من التأمل في الإله عبر نفسه والموجودات والكون، قاصدا التحرر من البدن ومن كل المتعلقات المادية، ليرتقي بروحه حبا وشوقا في معرفة أتوم والاتحاد به، والاندماج في وحدته، بحصول إشراق روحي يرفعه إلى مستوى الإله، وستصير هذه الغنوصية الهرمسية واحدة من المكونات الأساس في كثير من الأفكار والمعتقدات الإنسانية الوضعية.
الدور الزمني
يصور الفكر الهرمسي الزمن دائرة مغلقة[15]، لا بداية لها ولا نهاية، وهذا يعني أن الكون قديم بقدم الإله، متكرر إلى ما لا نهاية في أدوار زمانية اختلفت الحضارات الغنصوية في تحديدها من أقصى الشرق عند الصينيين إلى أقصى الغرب عند هنود الأمركيتين، حتى إن أتوم العقل الأول وهب «الحياة من ذاته بلا توان»[16]، ومستمر «إلى الأبد»[17]، وعلى هذا تنبني فكرة الأدوار الكبرى في الكون والصغرى في الإنسان في الفكر الغنوصي، وتحتها مفهوم التناسخ المشهور.
الكواكب والكائنات الإلهية
للكواكب في الفكر الهرمسي محل محوري، فهي محلات عقل الكون والكائنات والنفوس الإلهية، وهي المباشرة لعملية الإيجاد والتدبير، والمسؤولة عن القضاء والقدر، وهي في الفكر الهرمسي القيدم سبعة، الشمس والقمر وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، ولكل نفسٍ إلهٍ تخصصه، وقد فاض هذا العقل الكوني والمبدأ المنظم «ليعمل أبدا على صهر المادة التي في حالة الفوضى[18] إلى مخلوقات بديعة»، وهذا أمر ينبغي الانتباه له كثيرا، أعني أن الفيض عبارة عن إخراج المادة من الفوضى إلى النظام، لا إخراجه من العدم إلى الوجود، فلهذه النظرية صدى عبر تاريخ الفكر الإنساني.
خاتمة
هذا مدخل موجز مختصر ينفع الباحث في الفكر والحضارة ليتبين طبيعة الفكر المعاصر وأصوله ويتنبأ بامتداده وآله والله المعين والموفق لفضح مكر إبليس وكيد جنده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] متون هرمس ص29.
[2] في متون هرمس (236) : «ثم ينطق النور بالكلمة».
[3] متون هرمس ص29.
[4] كما في نصوص هرمس (ص42): «أتوم هو الواحد الصمد، غير متحرك، ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها»، ولاحظ حديثه عن الحركة وقارنها بالنموذج الأرسطي للتكوين.
[5] متون هرمس ص39.
[6] متون هرمس ص43.
[7] المصدر نفسه ص44.
[8] متون هرمس 46.
[9] متون هرمس ص57.
[10] Les maitres spirituels-p81.
[11] متون هرمس ص41.
[12] متون هرمس ص30.
[13] متون هرمس ص30
[14] متون هرمس ص65.
[15] متون هرمس ص50
[16] متون هرمس ص54.
[17] متون هرمس ص39.
[18] وهو المعبر عنه في بعض المعتقدات بالكاو ،وتحتل ثنائية الكاو والكوسموس محلا مؤسسا في كل المعتقدات ذات الأساس الهرمسي.