د. البشير عصام المراكشي يكتب: عن قتل المصلّين أتحدث..!
هوية بريس – د. اليشير عصام المراكشي
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل إقدامه على جريمته الشنيعة بقليل، نشر الإرهابي الأسترالي الذي قتل نحو خمسين مصليا بدم بارد في أحد مساجد نيوزيلندا، بيانا من أكثر من سبعين صفحة، شرح فيه أصول “فكره”، وسماه: “الاستبدال الكبير The great replacement”.
لم يمنعني ذكر بعض الإعلاميين لعنوان البيان باللغة الانجليزية، أن يقفز إلى ذهني مباشرةً مرادفُه باللغة الفرنسية ” Le grand remplacement “، وهو مصطلح نحته الكاتب اليميني الفرنسي رونو كامو Renaud Camus، وتبناه اليمينيون المتطرفون وأشاعوه في حواراتهم، حتى صار مصطلحا محفوظا عندي، لكثرة ما سمعته منهم! ويقصد بـ”الاستبدال الكبير” استبدال موجات الهجرة العربية/الإسلامية/الإفريقية، بالساكنة “الأصلية البيضاء” ذات الهوية “المسيحية”، والثقافة “الأوروبية”.
ثم دخلت لبعض المواقع لأبحث عن بعض كلام المجرم الأسترالي، فوجدت تأثره بفرنسا يتعدى نظرية كامو؛ بل يذكر أنه زار فرنسا في ربيع 2017، وتابع الانتخابات الرئاسية فيها، وأن فوز “ماكرون” في مواجهة اليمينية المتطرفة “مارين لوبن” أصابه باليأس. ويذكر أيضا أنه تأثر كثيرا حين رأى انتشار “المحتلين” – يقصد المهاجرين -في المدن الفرنسية، و”ضياع ثقافتنا وهويتنا”- كما يقول.
عجيب جدا أن يصل تأثير الفكر اليميني المتطرف بفرنسا، إلى بلد يبعد عنها بآلاف الكيلومترات!
ولكن الأمر ليس جديدا..
لعلك تذكر – أيها القارئ العزيز – الإرهابي النصراني النرويجي أنديرس بريفيك، الذي قتل العشرات عام 2011، بطريقة مشابهة.
هذا المجرم أيضا كتب بيانا، شرح فيه منطلقاته الفكرية ..
وهذا المجرم أيضا شرح بغضه للإسلام، وعدّ نفسه “فارسا صليبيا” يسعى إلى تحرير أوروبا من الاحتلال الإسلامي ..
وهذا المجرم أيضا ذكر ضمن الشخصيات التي أثرت فيه مفكرا .. فرنسيا، هو “الفيلسوف” الفرنسي، آلان فينكلكروت Alain Finkielkraut، وأشار إلى بعض نظرياته المتعلقة بمواجهة العنصرية !
حين وصلتُ إلى هذه النقطة، قفزت إلى ذهني صورة مؤسس الحزب اليميني المتطرف بفرنسا جان ماري لوبين Jean-Marie Lepen، وهو واقف أمام تمثال جان دارك، “القديسة المحاربة”، رمز “الهوية الفرنسية”، ويصرخ بأعلى صوته: “جان .. أنقذينا Jeanne .. Au secours”!
وقفزت إلى ذهني أفكارُ اليميني الآخر إيريك زمور Eric Zemmour، المضمَّنة في كتابه الأخير “المصير الفرنسي Destin français”، وعلى رأسها ضرورة المصالحة مع الهوية المؤسِّسة للأمة الفرنسية، وهي – على الخصوص – التراث المسيحي، الذي أبطلته الثورة الفرنسية، ووضعت أفكار “التنوير والحداثة وحقوق الإنسان” بدلا منه !
لعلك تقول – أيها القارئ العزيز -: ما الغريب في هذا كله؟ !
ففي كل قوم متطرفون هامشيون منبوذون !
لكنني أجيبك: لا يعيش هؤلاء في زوايا مغلقة، على هامش المجتمع الفرنسي، بل لهم منابر إعلامية، وحضور سياسي، وتأثير مجتمعي ..
فكامو ناشط سياسي، ومؤلف معروف ..
وفينكلكروت دائم الحضور في القنوات التلفزية، وله مؤلفات عديدة، مؤثرة في المشهد الفكري ..
وزمور مثله، بل أكثر .. له وجود دائم في الإعلام المرئي، منذ سنوات عديدة؛ وكتبه دائما على رأس قائمة المبيعات في فرنسا ..
وجان ماري لوبين هو مؤسس حزب الجبهة الوطنية، الذي تولت رئاسته بعده ابنتُه مارين، والتي كان الإرهابي الأسترالي يتمنى فوزها في الرئاسيات ..
لهذا كله، تتربع فرنسا – على الرغم من أن اليمين لا يحكمها فعليا – على عرش معاداة شعائر الإسلام، بدءا بمنع الحجاب في مؤسسات الدولة، ومرورا بمنع النقاب (تغطية الوجه) مطلقا، وانتهاء بالضجة حول بيع “حجاب رياضي نسائي” من طرف متجر ديكاثلون، منذ أسبوعين تقريبا ..
ولهذا أيضا، تُعَد فرنسا بخليطها الثقافي الجامع بين التطرف اليميني النصراني والتطرف اليساري الحداثي، والمنتج لقوانينِها المعادية لشعائر الإسلام الظاهرة، قدوةً لكثير من العلمانيين العرب، ومصدر إلهام لكتاباتهم الحاقدة، و”أفكارهم” المتناقضة.
في البدء كانت – عندهم – الفكرة ..
وبعدها كان – عندنا – استنساخ الفكرة ..
وبين هذا وذاك .. كانت – في نيوزيلاندا – الجريمة ..
ومعرفة الأصول الفكرية لماجريات الأحداث، من أهم مداخل الوعي الغائبة عنا اليوم ..
عرفنا – باختصار شديد تفرضه طبيعة المقال – أصلَ الجريمة ..
فماذا بعد؟ !
بعد العلم يأتي العمل ..
والعمل نوعان: آنيّ ودائم ..
والآنيّ ينبغي أن يكون خامرا غيرَ فطير ..
والدائم ينبغي ألا يكون مغرقا في التنظير ..
فخذ عني بعض ما أنثره لك هنا، واعلم أنها ومضات للإيقاظ، وقطرات تسقي ذهنك بهمّ السؤال، وتوقد في عقلك جذوة التدبر والبحث ..
إن الحرب اليوم إعلامية بالدرجة الأولى ..
وإن خصومنا بزُّونا في هذه الحرب، وتفوقوا علينا بمراحل عديدة، تنقطع الأنفاس بتعدادها، قبل أن تنقطع النفوس بمحاولة قطعها!
وإن خصومنا دخلوا علينا – في إطار هذه الحرب – مجتمعاتنا ومدارسنا، بل بيوتَنا ومخادع نومنا؛ ووظفوا في ذلك كل وسيلة، وسلكوا كل طريق ..
وهم – في هذه الحرب – يحاكموننا إلى معاييرهم، فهم الخصم والحكم ..
وهل رأيت قط خصما يُنصف خصمه، إن كان هو الحاكم فيه، وبالقانون الذي وضعه؟
فالواجب علينا إذن أن نكفّ عن التحاكم إلى هذا الحكم/الخصم ..
كفانا تسولا على عتبات معبد “حقوق الإنسان”، واستجداء لأن يُدخلنا الغربُ في جنس هذا “الإنسان” الذي تُحفظ حقوقه ..
كفانا انطراحا أمام هيكل “القيم الكونية الإنسانية”، ورجاءً لأن تشملنا بردائها الفضفاض ..
كفانا تسبيحا بحمد “ثقافة التنوير”، التي لم نر منها – في تاريخنا الحديث – إلا ظلام العبودية والذل ..
علينا أن نستثمر الحدث لنبين للناس أجمعين – ولبني جلدتنا قبل غيرهم – بؤسَ هذه المعايير في ذاتها، وتناقض الغربيين المؤتمَنين عليها عند تطبيقها.
علينا أن نستثمر الحدث، في التذكير بجرائم الصليبية منذ قرون، وبجرائم العلمانية منذ أن عوّضت الدين في حياة الغربيين ..
علينا أن نستثمر الحدث، في إعادة تعريف كثير من المصطلحات – والمصطلحاتُ وعاءُ المفاهيم كما لا يخفى -:
فمصطلح “الإرهاب” ينبغي أن يشمل – بطريق أولوي – قصف غزة، وتدمير العراق وأفغانستان، ومجازر الاستعمار في الجزائر، وما أشبه ذلك .. بل ينبغي أن يشمل إرهاب الغربيين مع غير المسلمين أيضا: فإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما ونجازاكي إرهاب، وقصف مدينة دريسد الألمانية إرهاب .. وقس على هذا الكثيرَ مما سواه.
ومصطلح “الإسلاموفوبيا” يجب أن يحذف من معاجمنا، فالقضية ليست “خوفا” من الإسلام، كما يُخاف من العناكب أو من الأماكن المغلقة! القضية “معاداةٌ للإسلام” كما يقال “معاداة السامية” ..
هذا عن العمل الآني ..
وأما العمل الدائم، فقد يسارع بعضنا إلى القول:
“كيف تبحثون عن الحل، وهو موجود في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم)؟ !”
وأقول: وهل ينازع في صحة هذا الدليل، وفي صحة الاستدلال به، مسلم يقرأ كتاب الله؟
بل هل ينازع عاقل في أن كل منظومة دينية أو فكرية، تحتاج إلى حد أدنى من القوة لحمايتها من تسلط الأعداء؛ وأنها إن كانت مقلّمة الأظفار، استبيح حِماها، وضاعت هيبتها؟!
وما أحسن قول النابغة الجعدي – الذي يقال إنه أنشده النبي صلى الله عليه وسلم من قصيدة له -:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له = بوادرُ تحمي صفوه أن يُكَدَّرَا
فما أسرع ما يتحول الحِلم والتسامح والإخاء مع من لا يستحقه من السفهاء المتسلطين، إلى جبن وخور وذل وهوان !
جميع ذلك صحيح، لا غبار عليه ..
ولكن ..
ليست القوة – في عصرنا – منحصرة في مجال واحد ..
وليس الإعداد لها منحصرا في طريق واحد ..
وما أكثر ما اكتوينا بنار بعض المتسرعين المتلهفين للحلول السريعة الجاهزة، التي يقع بها من الإفساد أكثر مما يُرجى بها من الإصلاح!
والطريق الموصل إلى “القوة” التي بها يتحقق الامتثال للأمر الإلهي السابق ذكره، طريق طويل، بقدر طول المسافة التي سبقتْنا بها أممُ الغرب، عسكريا واقتصاديا وسياسيا؛ وطريقٌ شاق بقدر ما ضيعنا من الجهد، وهجرنا من المشقة، لقرون عديدة، حين ركنّا إلى الدعة والسهولة والتواكل، وتكالبنا على اللذات، وتركنا لغيرنا مهمة قيادة الإنسانية.
يمر هذا الطريق عبر إصلاح السياسة، وضبطها بقيم الشريعة، وتأطيرها بمرجعية الوحي؛ لكي يصطلح الحاكم عندنا مع المحكوم، وينضبطا معا بحاكمية الشرع، التي تحقق العدل وتطرد الظلم. ولا معنى لمحاولة منافسة الأمم الأخرى، إذا كان البيت الداخلي مبنيا على أساس الظلم والفساد من جهة، والارتياب والتمرد من جهة أخرى.
ويمر عبر إصلاح الاقتصاد، الذي أساسُه إصلاح دنيا الناس وفق قيم الدين الحق، لا وفق قيم الاستهلاك، وثقافة السوق المتوحش.
ويمر عبر إصلاح الفكر، بطمس الفكر الارتزاقي المقتات من فتات أصحاب الجاه؛ والفكر النفاقي المتناقض الهائم في كل واد؛ والفكر التسطيحي المتساهل في تحليل الأسباب واقتراح الحلول.
ويمر عبر تطهير المجتمع من الطفيليات الأخلاقية المتجذرة فيه، ونشر قيم الإسلام النورانية الربانية الطاهرة الصافية.
ويمر عبر إصلاح الأفراد، بتزكية النفوس، وعلاج القلوب، وتثقيف العقول؛ وتوجيه كيان الفرد كله إلى عبادة بارئه سبحانه.
وقبل ذلك وبعده:
نحتاج إلى جيل رباني جديد ..
هو القادر – بعون من الله تعالى – على تحقيق ما سبق، أو – على الأقل – على دعوة الناس إليه، إلى حين وجود من يحققه ..
وقد صار تكوينُ هذا الجيل اليوم، من الأولويات ..
من الأولويات الصعبة؟
نعم، دون شك ..
ومن قال إن إنقاذ الأمة من وهدتها سهلٌ ميسور؟!
ولكنه من الأولويات ..
وذلك يكفي لبذل الجهد كله في سبيل تحقيقه ..
والله الموفق.
(المصدر: “مركز إرشاد للدراسات والتكوين“).