السلوك المدني: مفهومه وعلاقته بالمقاصد الشرعية
إعداد الأستاذ: الحسين ادكوكو
هوية بريس – الأربعاء 11 مارس 2015
مقدمة
يعتبر السلوك المدني في الوقت الحاضر من بين أهم التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية الحديثة على الإطلاق؛ ذلك أنه بلغت نسبة السلوكات العدوانية والغير القانونية مستويات مخيفة إلى درجة يمكن أن ينتج عنه الاضطرابات على جميع الأصعدة، والملفت للانتباه أن غياب السلوك المدني السلمي لم يعد منعدما في وسط العامة وغير المتعلمين أو متوسطي الكفاءة بل امتد إلى المثقفين والمتعلمين وبعض أصحاب الكفاءات الكبرى والشهادات العليا في مختلف التخصصات…، مما يستدعي العمل على تضافر الجهود كل في دائرة اختصاصه من أجل ترسيخ هذا السلوك في المجتمعات البشرية جمعاء؛ بغية الوصول إلى مجتمع إنساني حضاري متميز؛ الذي ينبني على توطيد العلاقات الإنسانية بين الشعوب؛ في إطار قانوني ومنظم يسوده الاحترام المتبادل.
وقد راعت الشريعة الإسلامية من خلال مقاصدها وغاياتها حفظ وصيانة كرامة الإنسان كمبدأ أساسي، خاصة فيما يتعلق بحقوق وحرية جميع البشر؛ يقول الله عز وجل: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“، “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا“؛ وذلك بصرف النظر عن أجناسهم أو معتقداتهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن الحرية الفردية منظمة شرعا بطريقة تمنع وقوع تعارض مع فرصة الآخرين للتمتع بمثل هذه الحرية و الكرامة الإنسانية.
وقبل إبراز علاقة السلوك المدني بالمقاصد الشرعية لابد أن نقف في البداية لتحديد بعض المفاهيم المتعلقة بموضوع هذه الندوة العلمية من خلال ما يلي:
– تعريف السلوك لغة واصطلاحا.
– تعريف مصطلح”المدني” لغة واصطلاحا.
– تعريف المقاصد الشرعية لغة واصطلاحا.
– العلاقة بين السلوك المدني ومقاصد الشريعة الإسلامية.
وأقول وبالله التوفيق:
فمن خلال استنطاق بعض معاجم اللغة العربية؛ فمدار ما قدمته للفظ السلوك هو النفاذ في الشيء أو الإدخال فيه ففي معجم العين للفراهيدي (170هـ) سلك السلك والجمع أسلاك والجميع السلوك: وهي الخيوط التي يخاط بها الثياب. والمسلك الطريق؛ سلكته سلوكا.
السلوك المدني إذن هو: الشعور الإيجابي للانتماء للمجموعة… والسعي إلى تنميتها والحفاظ على سلامتها ومصالحها ورفاهيتها في جميع المجالات…
بعد أن تحدثنا عن مفهوم السلوك لغة واصطلاحا نتحدث فيما يلي عن مفهوم مصطلح المدني: وهو مشتق من المدينة وهو المكان؛ وهذا المفهوم هو الذي سيتكرر في أغلب المعاجم التي تناولت هذا المصطلح؛ منذ الخليل قال: المدينة كل أرض يبنى بها حصن في أصطمتها فهو مدينتها وبالنسبة إليها مدنيّ.
هذا الجانب اللغوي أما الجانب الاصطلاحي؛ فالمدني يعنى التحضر والتربية والقيم الإنسانية؛ يقال إنسان متمدن بمعنى متحضر.
ولكي نوضح أكثر مصطلح المدني سنعمد إلى توضيحه من خلال الأضداد المحتملة له؛ باعتبار أن الأشياء بأضدادها تتمايز.
هل المدني ضد العسكري؟ لا أعتقد أن المدني حسب موضوعنا يقابل العسكري؛ لأن المؤسسة العسكرية تنخرط في مجموعة كبيرة من الأعمال التي تدخل في السلوك المدني مثل العمل الاجتماعي والتوعوي بأشكاله المتعددة والتدخلات الطبية والإنسانية الإغاثة حين الكوارث الطبيعية…وغيرها من الأعمال الجليلة الكثيرة مما يجعل مصطلح المدني في ندوتنا ليس ضد المصطلح العسكري.
وهل المدني ضد العدواني والهمجي؟ من خلال استقراء السلوكات العدوانية مثل الكراهة والتعدي على الإنسان والكراهية وعدم احترام البيئة وحقوق الإنسان…؛ نجد أن المصطلح الذي يقابل المدني هو السلوك العدواني.
فمصطلح “المدني” إذن يحيل على مفهوم التحضر والتمدن والتقدم، وهو مجموعة من المفاهيم والقوانين المرتبطة بتنظيم الحياة العامة في مجتمع من المجتمعات.
أما حينما نقول السلوك المدني تأتي إلى أذهاننا مجموعة من المعاني والدلالات، كلها تصب في هاتين الكلمتين، فنجد السلوك الذي يعني ما يقوم به الفرد الواحد من ممارسة في المجتمع، داخل الأسرة، داخل المدرسة، مع الأصدقاء، في المجتمع ككل. وهذا السلوك أو الممارسة هي التي تقيم الشخص، وتترجم مستويات مختلفة من القيم والأفكار الموجهة لذلك السلوك. أما معنى المدني فيحيل على مفهوم التحضر، وهو مجموعة من المفاهيم والقوانين والقيم الإيجابية والحضارية المرتبطة بتنظيم الحياة العامة في مجتمع من المجتمعات.
وقبل الانتقال بحضراتكم إلى الحديث عن العلاقة بين السلوك المدني والمقاصد الشرعية؛ لابد أن نقف عند تحديد مفهوم مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فالمقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنـزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه.
أما في الاصطلاح؛ فقد كان قدامى العلماء يعبرون عن كلمة (مقاصد الشريعة) بتعبيرات مختلفة وكلمات كثيرة، تتفاوت من حيث مدى تطابقها مع مدلول المقاصد الشرعية ومعناها ومسماها، لذلك لم يبرز على مستوى البحوث والدراسات الشرعية والأصولية تعريف محدد ومفهوم دقيق للمقاصد يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم، وقد كان جل اهتمامهم الاجتهادي مقتصرا على استحضار تلك المقاصد والعمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي، دون أن يولوها حظها من التدوين، تعريفا وتمثيلا وتأصيلا وغير ذلك. أما المعاصرون فقد ذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدلالة على معنى المقاصد ومسماها، ومن حيث بيان بعض متعلقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها وغير ذلك. ويمكن أن نحصر أغلب التعبيرات والاستعمالات لكلمة المقاصد التي استخدمها العلماء قديما وحديثا ليعنوا بها مراد الشارع ومقصود الوحي ومصالح الخلق، وليسهموا بها في تكوين مادة هذا الفن الجليل، وصياغة نظريته العامة وبنائه المتناسق: فقد عبر عن المقاصد عندهم بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع.
وها هو نبينا يعلن أمرا في غاية الأهمية؛ وخطيرا للغاية في نفس الوقت يقول: «والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا» (رواه مسلم). وهذا مدعاة إلى إبعاد كل مشاعر الكره والحسد والخيانة والعنف وسوء المعاملة وغيرها واحتضان المحبة والإيثار والتسامح وغير ذلك. وهذا من صميم الدعوة إلى السلوك المدني.
وختاما وانطلاقا مما سبق يتبين أن الشريعة الإسلامية من حيث مقاصدها العامة والخاصة؛ تدعو بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى ترسيخ السلوك المدني واحترام الإنسان وحقوقه المختلفة والسعي إلى تحقيق مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية ورتب على ذلك الأجر والثواب.
إن تنمية السلوك المدني إذن مقصد من المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية؛ وهذا ما يبين أن الشريعة الإسلامية في أبعادها تسعى إلى تنمية هذا السلوك في الإنسان والمجتمع؛ وتحقيق مصالح الناس؛ وهذا ينسجم تماما مع مفهوم السلوك المدني.
هذا باختصار ما يبين العلاقة الوطيدة بين السلوك المدني والمقاصد الشرعية؛ وسيعمل السادة العلماء الأجلاء المشاركين في هذه الندوة العلمية على بسط الموضوع أكثر؛ والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.