الطبيعة الإشكالية للعلاقات السعودية الأمريكية (تحليل)
هوية بريس – وكالات
اعتاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الأونة الأخيرة، التعامل مع العديد من الدول، بأسلوب مخالف للأعراف الدبلوماسية.
وهذا الأسلوب المخالف للأعراف، والذي يتضمن نوعا من الاستهزاء والسخرية، يتبعه ترامب أثناء مخاطبته إدارة المملكة العربية السعودية، وهو ما يظهر جليا للعيان طبيعة العلاقات الأمريكية السعودية.
ولعل تصريحات الرئيس الأمريكي تجاه السعودية في الفترة الأخيرة، تظهر مستوى العلاقات القائمة بين الجانبين.
ولو عُدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، لتبادر إلى الأذهان بعض من أقوال ترامب التي تعكس هذا السلوك المخالف للأعراف.
ومن تلك العبارات التي قالها ترامب أمام الرأي العام العالمي: “نحن نحمي السعودية، أحب الملك سلمان لكنني قلت له نحن نحميكم، ولولا حمايتنا لما استطعت الجلوس في عرشك أسبوعين، عليكم أن تدفعوا الأموال لجيشنا”.
وقال أيضا: “نحن نحمي المملكة العربية السعودية، والرياض لا تملك شيئا سوى المال”.
ومن اللافت أن الإدارة السعودية تلتزم الصمت حيال هذه التصريحات، وهو ما يثير العديد من التساؤلات.
المملكة العربية السعودية، ومنذ تأسيسها عام 1932، تولي اهتماما كبيرا للحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فالرياض ترى واشنطن أكبر ضامن لأمنها.
وبفضل الدعم الأمريكي، استطاعت المملكة العربية السعودية، تجاوز أخطر التهديدات الإقليمية دون خسائر.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فتولي اهتماما كبيرا لإبقاء مصادر الهيدروكربون (النفط والغاز) في السعودية وعموم منطقة الخليج العربي، تحت سيطرتها، لأنها ترى في ذلك ضمانا لأمنها الطاقي وديمومةً لزعامتها العالمية.
وهذه المصالح المتبادلة بين الطرفين، مستمرة منذ عام 1932، وتعد عاملا مهما في الحفاظ على ديمومة العلاقات الجيدة بين الرياض وواشنطن، منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
لكن تحليل ماضي وحاضر ومستقبل العلاقات بين البلدين، لن يكون صحيحا، إلا إذا علمنا العوامل التي تساهم في تحديد معالم تلك العلاقات.
والعامل الأول هي عدم وجود أي دولة غير الولايات المتحدة الأمريكية، قادرة على حماية أمن منطقة الخليج العربي، أما العامل الثاني هو أن العلاقات الامريكية السعودية مبنية على المصالح وليس القيم المشتركة.
– تحالف غير متكافئ
على الرغم من أنه تم الإعلان الرسمي لتأسيس المملكة العربية السعودية في عام 1932، إلا أن البعض ينظر إلى تاريخ تأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة، على أنه يعود إلى عام 1902، حين تمكّن عبد العزيز بن سعود (مؤسس المملكة)، من استعادة الرياض من أمراء آل رشيد الذين كانوا من أهم منافسيه.
ووصلت المملكة العربية السعودية إلى حدودها الحالية، بعد تخليص عبد العزيز بن سعود منطقة الحجاز من يد الشريف حسين عام 1924، وسيطرته في عام 1934 على مناطق عسير وجيزان ونجران التي كانت تخضع لسيطرة الإمام يحيى.
استمرت فترة تأسيس المملكة العربية السعودية من مطلع القرن العشرين إلى بدء الحرب العالمية الثانية عام 1939، وذلك بدعم من الامبراطورية البريطانية.
لكن نتيجة الضعف الذي أصاب البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، اضطر الانكليز إلى سحب جزء من قواتهم من المنطقة، وتدخلوا في السياسة الداخلية للسعودية ورسموا الخارطة السياسية للمنطقة بشكل لا يتوافق مع تطلعات السعوديين.
كل هذه التطورات، زعزعت ثقة السعوديين بالانكليز، وأظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كخيار بديل للمملكة العربية السعودية.
ولعل من أهم عوامل التي جعلت من الولايات المتحدة الامريكية خيارا بديلا وجيدا للسعوديين، هو أن الأمريكيين لم يتدخلوا مثل البريطانيين في السياسة الداخلية للسعودية، بل إن الأمريكان اهتموا بالمكاسب التجارية عبر شركات النفط التي تتخذ من الولايات المتحدة الامريكية مركزا لها.
في الرابع عشر من فبراير عام 1945، التقى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز بن سعود على متن مدمرة أميركية في البحر الأحمر، ويعد هذا اللقاء بداية عصر الضمانة الأمريكية لأمن منطقة الخليج.
ومنذ ذلك الحين إلى يومنا الحاضر، لم تتمكن أي دولة أو قوة، ضمان حماية أمن المنطقة والمملكة العربية السعودية، كالولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا الأمر أجبر السعوديين على مواصلة تحالفهم مع الولايات المتحدة الامريكية، بغض النظر عن الثمن الباهظ لهذا التحالف.
وعلى الرغم من رغبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إبرام عقود دفاعية ضخمة مع دول متعددة مثل روسيا والصين والهند، إلا أن هذه الصفقات لا تفي بالمأمول، لعدم قدرة تلك الدول على تأمين الحماية التي تقدمها الولايات المتحدة الامريكية للسعودية ولمنطقة الخليج، ولذا فإن واشنطن تبقى هي الخيار الوحيد للسعوديين.
وبهدف استمرار التحالف، عادة ما يقدم الطرف الضعيف في هذه المعادلة تنازلات مهمة لصالح الطرف الأقوى، وهذا الأمر ينطبق على التحالف القائم بين الرياض وواشنطن.
وبالنظر إلى النظام السياسي لكلا البلدين، يمكننا أن نلاحظ عدم وجود قيم مشتركة بين الطرفين، فالولايات المتحدة تتبنى قيم الديمقراطية والليبرالية والحريات، وتعمل على نشرها في كافة أرجاء الأرض، بينما تتبنى السعودية النظام الملكي الأُسري.
– أولوية الولايات المتحدة: تأمين إمدادات النفط
تمثل الكثير من الأحداث التي شهدتها العلاقات بين البلدين في الماضي، انعكاسًا لطبيعة العلاقات القائمة على المصالح أكثر منها على القيم المشتركة. على سبيل المثال، عندما حدث انقلاب أطاح بالملكية في اليمن عام 1962وأثار حربًا داخلية، ظهر خطر أمني هام جدًّا على الحدود الجنوبية للسعودية.
في تلك الفترة، أرسلت مصر بزعامة جمال عبد الناصر قوات إلى اليمن، وهذا التدخل أثار شعورًا بالخطر لدى االسعوديين، فأقدم الملك فيصل على طرح مبادرات لدى الإدارة الأمريكية من أجل تأسيس قاعدة جوية في جيزان، بهدف ردع الجيش المصري عن تنفيذ غارات جوية على القرى السعودية. ووافق الرئيس جون كيندي على طلب تأسيس القاعدة، وأرسل خطابًا إلى الملك فيصل أواخر 1962 أبلغه فيه أن الولايات المتحدة مستعدة لفعل كل شيء من أجل حماية السعودية.
قبلت الولايات المتحدة تأسيس قاعدة عسكرية في جيزان لكنها واصلت إبقاء القسم الأكبر من مقاتلاتها في محافظة الظهران الشرقية الغنية بالنفط، لأن حماية حقول النفط أهم بالنسبة للولايات المتحدة من حماية الحدود الجنوبية للسعودية.
عادت المقاتلات التي انتشرت في القاعدة العسكرية بجيزان عام 1963، بعد عام واحد إلى الظهران، على الرغم من استمرار الأزمة اليمنية حتى تسعينيات القرن الماضي. هذه الحادثة وما شابهها عززت القناعة بأن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة هي إمدادات النفط، وأنه لا أهمية لأمن الأنظمة الصديقة عندما تتوفر خيارات الحصول على النفط من موارد أخرى.
وبينما تمثل الحرب الداخلية في اليمن اليوم أهم أولوية بالنسبة للسعودية، كما كان الحال عليه في الستينيات، تركز الإدارة الأمريكية على حقول النفط ومسارات نقله (مضيق هرمز) وتلزم الصمت إزاء الصواريخ الباليستية التي تسقط على الأراضي السعودية، في حين أنها تبدي أشد ردود الأفعال من أجل ردع الهجمات التي تستهدف صهاريج النفط، وهذا من أهم نتائج طبيعة العلاقات المبنية على المصالح، وليس على القيم المشتركة.
ومع أن المقاربات التي تتجاوز أصول التعامل الدبلوماسي تجاه الحكومة السعودية تبدو ناجمة عن أسلوب التعامل الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أنها تكشف مدى ضعف موقف المسؤولين السعوديين في تحالفهم مع الولايات المتحدة. وكما يقول ترامب بصراحة، فإن علاقة التحالف هذه قائمة على شراء السعودية ضمانة أمنية من الولايات المتحدة مقابل النفط – الدولارات.
– واشنطن تجبر الرياض على التبعية
ترد الحكومة السعودية بالمثل على أقل انتقاد يستهدفها من بلد آخر، بيد أن التزامها الصمت إزاء أسلوب ترامب هذا يجب أن يُقرأ على أنه تضحية كبيرة يتحملها السعوديون في سبيل استمرار هذا التحالف. على سبيل المثال، رفضت الحكومة السعودية بشدة تصريحات وزيرة الخارجية الكندية العام الماضي، (انتقدت أوضاعا حقوقية بالسعودية) وردت عليها بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية قاسية جدًّا، في حين أنها تفضل التزام الصمت إزاء أسلوب ترامب المزعج، الذي تزداد جرعته يومًا بعد آخر.
عند النظر إلى سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية عقب الحرب الباردة، يمكننا أن نرى بأنها اتبعت باستمرار سياسة عزل السعودية في المنطقة، وإجبار الرياض على اللجوء للمظلة الأمنية الأمريكية.
على سبيل المثال، زادت الولايات المتحدة الشعور بالخطر لدى المسؤولين السعوديين من خلال سماحها لصدام حسين بدخول الكويت عام 1990، ثم احتلت العراق عام 2003، وبعد ذلك سحبت قواتها منه تاركة إياه تحت النفوذ الإيراني، وساهمت في الإطاحة بالأنظمة المتحالفة مع السعودية (مصر، اليمن، تونس) بتقديمها الدعم المباشر أو غير المباشر لحراك الشارع خلال موجة الربيع العربي التي بدأت أواخر 2010، كما وقعت الاتفاق النووي مع إيران – خصم السعودية اللدود – عام 2015.
تكللت كل هذه الأحداث آنفة الذكر بتقديم المسؤولين السعوديين، الذين تزايدت مخاوفهم الأمنية، مزيدا من طلبات شراء الأسلحة غالية الثمن إلى قطاع صناعة السلاح الأمريكي.
خلاصة القول أنه ما لم تعزز السعودية الروابط بين الحكومة والمواطنين على الصعيد الداخلي، وتتخلى عن المنافسة العبثية مع القوى الهامة في المنطقة على الصعيد الخارجي، وما لم تقلل عدد أعدائها وتزيد عدد أصدقائها، فلن يحدث تغيير في المستقبل القريب، من حيث تبعيتها للولايات المتحدة من الناحية الأمنية، ولا في أسلوب المسؤولين الأمريكيين الذي يتجاوز أصول التعامل الدبلوماسي اللائق.
(المصدر: وكالة الأناضول).