البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المركزي 1912-1933م (ج2)
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
الجزء الثالث الذي نقدمه من كتاب “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المركزي 1912-1933م”، للجنرال كيوم قائد جيش الغزو الفرنسي بالأطلس الكبير المركزي كما يسميه، جاء بعنوان: “الخصم“.
يبين فيه الجنرال كيوم مصادر التسليح عند المقاومين وطرق إفقارهم وطردهم من بلادهم مما دفعهم إلى تكوين (جيوش “djiouch”)، تغلغلت داخل المناطق المحتلة، وقامت بما عرف لاحقا بحرب العصابات التي وصفها الجنرال بأنها أكثر كلفة من الهجمات التي كانت تشنها القوات الفرنسية على سكان الأطلس لإخضاعهم.
كما يخبرنا كيوم بأن المقاومين كانوا يقومون بعملية تدوير نفايات السلاح وصناعة الخرطوش والمتفجرات لإعادة استعمالها ضد القوات الفرنسية.
الخصم:
هم أحسن مقاتلي شمال إفريقيا، فُتاك قُساة يكرهون الأجانب بالسليقة، شجعان لغاية التهور والمخاطرة، يضحون من أجل تحرير ممتلكاتهم وأولادهم، ويسترخصون حياتهم في سبيل الدفاع عن حريتهم، إنهم أجود حليف لطبيعة بلادهم، يعرفون بدقة زوايا الأرض التي ولدوا بها، ولم يفارقوها أبدا، يستعملون الغريزة قائدة، نكون معهم، أحيانا متفوقين عددا، ودائما تسلحا، لكن يعرفون الأثر القاتل لنيراننا ويتمسكون باستعراضها سدى.
ناذرا ما تمسكوا بالأرض، إنها بالنسبة لهم صفة غلو، حركة تشويشية، في حين أنها مثقلة بتجهيزاتنا وأسلحتنا وذخائرنا ومرتبكة من قبل قافلة لا متناهية، نحن نقدم أهدافا جيدة لرميهم المحكم المنسق.
تنظيماتنا وقوانيننا التي في فرنسا بالتأكيد ستثير السخط عندما لا يرى تطبيقها بصرامة في المغرب.
إضفاء السرية على كل انتصارات تركيز قوة النيران، لكن هنا الأعداء في كل مكان واتجاه أحيانا كثيرة مختفين لا يرون، من قبل كان للمدفعية والمشاة الوقت الكافي لتصور مخطط للنيران، ونصب أجهزة الاتصال؛ الهجوم انطلق من نقطة كانت منتظرة على الأقل مع خداع مفاجئ، في بضع لحظات اقترحت مفرزة في نقطة استخدام الخناجر مكتسحين في اندفاع للأمام بعدما برزت لهم مقاومة ضعيفة، المهاجمون اختفوا بعدما قتلوا الجرحى ونهبوا القتلى وحملوا مثل كل مرة كغنائم: أسلحة وذخائر.
الهجوم بعدد كثير من الخصم يكون هدفه البحث عن الالتحام وجها لوجه حيث، يكون تفوق قواتنا عليهم صعبا لأنها لا تكون قادرة على سرعة الحركة.
المهاجمون يتسللون من كل المنافذ فطريا على مؤخرتنا ليقطعوا علينا خط الرجعة، الصراع يشتد في الطليعة والمؤخرة كما على الأجنحة، وأقل عجز أو تراجع يؤدي لإبادة كاملة.
الجرحى أُجهز عليهم، الموتى تم تشويههم، بعد ذلك تم الانقضاض على القافلة، نزاع مرير لاقتسام الغنيمة، عكس ما يكون أمام قوات ممتازة، البربري يسلم الأرض وينهمك في عمل علانية منعزلا في أسوء مما يكون فيه خصمه.
لكن لا يمكن أن نقاتل دون سلاح ولا ذخيرة، بواسطة أية رقية أو سحر، برابرة الأطلس أغلقوا كل المنافذ التي يمكن أن نأخذ منها رؤوسهم لمدة طويلة، وهذا موضوع كبير مدهش بالنسبة لغير المطلع.
قبل كل شيء يجب التدقيق بأنه في أي بلد تقطع بمضايق وأودية غالبا ما تكسوه غابات وأدغال يكون للأسلحة رجع صدى وحملها طويلا ليس قطعا أمرا حتميا، الكمون خلف صخرة، قناص ماهر لا يحتاج لا لمدفع ولا لرشاش من أجل عمل مفاجئ، فطلقة مؤكدة، مزيف قتال لمجموعة جنود متمهلة الحركة، ممثلة أحيانا، معلومات مركزة.
السلاح والذخيرة لازمة من أجل أية حرب حقيقية في بلاد البربر قبل حلولنا.
السلاطين كانوا قد سلّحوا قبائل الساحل ضد هجمات عصاة الأطلس المتواصلة، هذه الأسلحة كتلك التي زود بها مولاي الحسن موحى وحمو وموحى واسعيد ليعطوها لمتطوعيهما أو العسكر الموضوع رهن إشارتهما، لم تعد ترسانة للمخزن، ولا للمحلة، بل سقطت بين يدي العصاة.
من جهة أخرى عندما كانت حدود العصاة مفتوحة وليس عليها أية مراقبة حقيقية كان تهريب السلاح والذخيرة جاريا بحرية ودون مخاطر، حيازة السلاح الحربي في بلاد ينعدم فيها الأمن مطلقا كان السلاح ضرورة أكثر منه زينة، هذا السلاح من نوع قديم لكن صالح للاستعمال زيادة على السلاح الجديد من نوع ساسبو الفرنسي والمرتني الإيطالي ورومنكتون الانجليزي، دخلت بشكل كبير في ترسانة خصومنا بشكل غريب، ونشير للتذكير بالبنادق الطويلة الحجرية المصنوعة من قبل صناع المدن التقليديون، لأنه قبل وصولنا لم تكن تستخدم في الحرب بل فقط من لدن الفرسان أيام الاحتفالات.
بالإضافة إلى أننا أيضا عن غير قصد ساعدنا في الزيادة من تسليح البرابر بأسلحتنا التي تتركها قواتنا قي ميدان المعارك معهم أو تنزع من الجنود في الميدان، فيتجمع علينا خسارة الرجال وخسارة المعدات في البؤر السوداء المحزنة.
من جهة أخرى، المشتريات مرتفعة فعليا في أسواق العصاة، حيث تفتقد آثار تخصص جيد هو سرقة الأسلحة، وهكذا بين 1919-1922 في قطاع اخنيفرة عصابة زيان مشهورة بطعنات الخناجر تابعت جنودنا في مراكز مختلفة، أربعة عشر خفيرا تم الاستيلاء على سلاحهم يبلغ ثمن الواحدة بين 1500 إلى 2000 فرنك للوحدة.
أخيرا عكس ما كان يفعل السلاطين، ومن أجل تعبئة السكان الخاضعين لإسناد جبهتنا والمشاركة في حركتنا الهجومية، قمنا بإحضارهم ليس فقط لترك سلاحهم بين أيديهم، لكن في أكثر الأحيان بزيادة انتشاره بين الأعيان نسبيا، بنادق نوع 1874 و1886 تم توزيعها بالآلاف على مشايعين (برطيزة)، بالرغم من المراقبة الدقيقة والوفاء المدهش لمصالحنا من قبل الأهالي، صار ضياع السلاح محتوما بالسرقة وبالحوادث، فرار، بيع سري، وخاصة اقتحامات متواصلة موكولة لغير الخاضعين على السكان الخاضعين القريبين من الجبهة.
الذخائر تأتي من نفس المصدر؛ قافلة تم الاستيلاء عليها، جرحى قتلى سلبوا نهبوا في المعركة، ومن غير هذا وذاك هناك تهريب نشيط على كل الجبهات المنشقة والعاصية وبالخصوص في النواحي التي بها القبائل المجمعة، لكن غير الخاضعة والمسموح لها بغشيان أسواقنا بحرية لاجتذابهم لسلطتنا.
يجب الإضافة بأن هناك صناعا يدويين برابرة، يقومون في كل وقت بتصنيع الخرطوش باستعمال أغلفة قديمة فارغة يملأونها برصاص مدقوق، وبارود صاعق مصبوب، في قوالب بدائية، من أجل استخدامها في القتال لتصيب عن بعد، زيادة على متفجرات وقنابل مختلفة النوع والحجم.
كما يعتقد أن الألمان كانوا يزودون خصومنا بالسلاح والذخيرة، وهو ما تم التأكد منه أثناء حرب 1914-1918 على جبهة الريف حيث التهريب يتم بسهولة عبر منطقة إسبانيا، ولم يقتصر ذلك على جبهة الأطلس المركزي، والدليل ظهر في الخضوعات الأخيرة، الموسر (نوع من البنادق الألمانية) لم يشكل إلا كمية صغيرة لا يعتد بها بالمقارنة مع آلاف البنادق المسترجعة، في حين أن البنادق ذات الأصل الفرنسي نوع 1874 و1886 كانت هي الغالبية.
الخاضعون لنا من كل قبيلة قليلا ما يسمحون بإعادة الأسلحة التي كانت وزعت عليهم، بل يعمدون إلى بيعها أو إخفائها قبل أن يلجوا داخل خطوطنا حتى يسفيدوا منها أو من ثمنها، كما أن إعلان خضوع الدواوير لا يتم بشكل كامل، وإنما تبقى هناك عائلات أو البعض منها عاصيا حتى يتم تصريف السلاح الذي عند الساكنة، لأنا كنا ننزع السلاح منهم دون مكافأة أو يجمعونها ويفرون بها للجهة العاصية.
من أجل تجنب هذا العمل صار إرغام القبائل وقت استسلامها على تسليم السلاح حتما وصارت الغرامات الحربية متصاعدة على العائلات المتهمة بتخلصها من سلاحها قبل الخضوع.
هذا الجزاء لم يكن يطبق على القبائل الأكثر معارضة التي تأتي عندنا خاضعة بعدما ترى نفاد آخر مواردها، فبدلا من فرض غرامة حربية عليها كيفما كانت نقوم بمساعدتها على الخروج من مجاعتها.
أيضا بعيدا عن ضعف اتصالنا، سلاح القبائل ازداد تدريجيا دون ذكر الأرقام بالضبط التي لم تتوقف من سنة لأخرى.
القبائل الخاضعة مؤخرا بأيت احديدو خاصة، كل عائلة على الأقل وضعت قطعت سلاح سريع الطلقات، لهذا السبب ثمن هذه الأسلحة توالى انخفاضه، موسكتير 1892 بيع بـ2000 فرنك في 1918، لم يعط فيه سنة 1932 سوى الخمس من المبلغ السابق وأحيانا العشر.
ما يمكن التأكيد عليه هو أن مقاتلي الأطلس في حالة القتال لن يعدموا أبدا السلاح وقليل من الذخيرة لقيامهم بالمقاومة.
القاسم الوحيد الموحد لهم هو الإسلام، لا يكفي تشتتهم عند اقترابنا، فعداء القبائل لنا تقليدي وأقل منه المنافسة التحاسدية للأولياء، نداءات الحرب المقدسة تعين على تجميع تكتل البربر، وأحيانا تبقى بعض النداءات بدون صدى، قليلا ما نقاتل أكثر من قبيلة في نفس الوقت، فالمجموعات المتجاورة تمتنع عن القتال ما دامت أراضيها لم تهاجم من قبلنا.
عداء كل الأزمان أقام بعض المجموعات البربرية ضد الأخرى، يفسر في الخارج بتساهل مع من نريد استخدامه داخل خطوطنا، غداة إعلان خضوع القبائل المتجمعة حول هدفنا بغية دفعها لمهاجمة مساكن القبائل العاصية؛ يكون في ذهنها عند أول رد فعل مباغت لغير صالحنا قدرتها على خيانتنا والانضمام لمحاربتنا مع من كانت تعاديهم، ولن تستحضر عداوتها القديمة وصراعها التقليدي معهم فلن نقوم إلا باستعادة صراع تقليدي بجانبنا ومع دعمنا يعني أملا جديد.
بما أن غزو أراضيها لا يمكن تجنبه فلا يبقى عند برابرة الأطلس المركزي إلا حل يائس للإفلات من قبضتنا، وهو تركها عند الاقتراب من القصور والمزروعات والاختفاء في النواحي الجبلية الأكثر منعة حاملين معهم قطعانهم المكونة لكامل ثروتهم بصفة عامة.
لكن في الأعالي والوهاد تصبح الفلاحة بها صعبة، القبائل المالكة للأرض تمنع الوافدين الجدد النازحين من جهات أخرى من القيام باستصلاحها وحراثتها، مما يدفعهم لبيع البعض من قطعانهم لضمان حاجاتهم الحياتية، فيصير ثمنها بخسا بسبب كثرة العرض وقلة الطلب مقارنة بالحبوب التي يرتفع سعرها وينذر تواجدها خاصة مع قيامنا بمنعها من الولوج لأسواقهم أو إخراجها خارج مناطق تحكمنا، مما يعنى إفقارهم وتسليط المجاعة عليهم، فيبقوا في هجرة متواصلة يضطرون مع ازدياد التضييق عليهم للفرار من أمامنا وترك أراضيهم ومزروعاتهم ومساكنهم عرضة للتدمير والنهب والبوار فلا يكون لهم من مفر إلا الاستسلام والخضوع وترك المقاومة والصراع، بيد أن تشديد المراقبة على المنافذ وإغلاقها في وجه الراغبين في العودة إلى منطلقاتهم التي صارت داخل خطوطنا الدفاعية لا يتم إلا بعد أن يكونوا قد استنفدوا آخر طلقاتهم وباعوا آخر رأس من قطعانهم.
وأثناء ذلك كان الصلحاء بهم يحثونهم على المقاومة حتى النهاية.
كل قبيلة كانت تعتقد أن تقدمنا سيتوقف عند (كركور) ضريح أحد أوليائها، وأن بركاته سترجع قواتنا للخلف بعيدا عنهم إذا ما هي تجاوزته عندما يحين الوقت لذلك.
يختار الفارون الذين يدفعهم البؤس والحاجة طريق الانتقام منا ومن مشايعينا، خاصة وأنهم على معرفة كبيرة بالبلاد التي أكرهوا على تركها لنا من حيث المداخل والمخارج والتضاريس، فيكونون “djiouch” (جيوش)، تنتشر في سرية خلف خطوطنا داخل جبهتنا، فبينما نكون معتقدين أن مجهوداتنا قد أنهت الصراع واستراحت من العصاة، سنكتشف أنه متواصل لكن هذه المرة بشكل أكثر انتشارا وأشد خطرا لكثرته وتنوعه وتطور أساليبه ليلا ونهارا بكل الوسائل: كمائن للدوريات، وهجمات ضد الثكنات، وخطفا للسلاح، وقتلا للأفراد، وإغارة على مراكز الأشغال وتجمعات السكان الموالين ومواشيهم، وقوافل التموين والذخيرة، بحيث لا تنتهي الاعتداءات على الخفر والدوريات والعسس، صراع دائم لم ينته بانتهاء الاجتياح وطرد العصاة، الذين اكتسحوا المناطق التي طردناهم منها على شكل جيوش منظمة من بضعة عناصر جيدة التدريب، مسلحة بالشجاعة والإقدام، تستخدم ما تجده من سلاح وذخيرة في عناد وإصرار لإلحاق أكبر الأضرار بنا وبقواتنا ومشايعينا، مما جعل عملية الدفاع أكثر كلفة من الهجمات وأشد عنفا” (ص80-85).