دة. صفية الودغيري تكتب: إنما هذه الأموال ودائع
هوية بريس – صفية الودغيري
ليس من عبدٍ إلا وبينه وبين كسبِ يومه وقوته قدرٌ قد يزيد من فضل إكرامه ثوابًا، أو ينقص منه قدر بخله وشحِّه أضعافا، وهو بين جمع المال وإنفاقه في شؤونٍ وأحوال مختلفة وأطوار شتَّى، ويقوِّيه امتلاكه وكسبه على الوجه الحلال، وإنفاقه رضًا وطاعة للمنعِم عليه بالجود والإكرام، ويضعفه ما يهلكه ويفسده ويتلفه من التَّبذير، ويفنيه ما يفرط فيه الإنفاق في وجوه المنافع بغير انضباط، ويزكِّيه ما ينمِّيه ويوفِّره إسرافه بتعقُّل واقتصاد، وتحرّيه في تسيير شؤون مكاسبه وإنفاق أمواله وأموال الغير..
وإنَّ من يهتك حجاب السَّتر، ولا يصون عفَّة المال بحكمة، ولا يحفظ حرمته وأمانته، فيقتحم أبوابه بجسارته الرَّعْناء، ويتهوَّر فيما يكون مآله نشر الفساد والإفساد، فلا يُقْسَم له في رزقه وكسبه سِعَةٌ ولا زكاةٌ ولا بركة، ولا حظٌّ وافر إلا ويبخسه بمقدار ما يفرِّط فيه ويضيِّع، ويكون عاقبة أمره ومآل حاله من جِنْس سوء تدبيره، وفساد رأيه في شؤون تسييره..
أما من يتحرَّى الاقتصاد في الإنفاق، ولا يبالغ في الإسراف فوق ما يلزمه من ضرورات الإسراف، ولا يتجاوز حدود ما يلبِّي حاجاته ومستلزمات عيشه، ويستقيم على جوديِّ الحَذَر والاحتِراز، تحصيلاً للحقِّ وتبصُّرًا بالمقاصد والغايات، واستقبالاً للنتائج والمآلات، أتاه رزقه غنيمةً على وجه الإكرام، محفوظًا بحفظ من أمر في محكم تنزيله بالاقتصاد في الكسب والإنفاق، فقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (6) سورة الفرقان.
وقال تعالى: (ولَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) سورة الإسراء.
وإنَّ أحسن الناس عيشًا من استطاع أن يفعل المعروف من غير أن يُرْزَأ شيئًا، وقديما قيل لبُزُرْجَمْهِرْ
وإنَّ أحسن النَّاس عيشًا من لم يُهْلكه كرمه وسخاؤه، فيضيِّعه بتبذير رزقه وإِتْلاف ماله، ومن لم يُلْقِ به حياؤه في مواطن التَّهْلُكة، فيمنع عنه المُضِيَّ في طريق السَّلامة، والأَمْن من خوف القابِل من أيَّامه، وانْحِسار خُطاه عن بلوغ مراده، وتمكينه من حقِّه وإنفاقه..
وقديما قال النَّجاشي: “لا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصاد”.
وقال علي رضي الله عنه: “كُنْ سَمْحًا ولا تَكُنْ مبذِّرًا، وكُنْ مقدِّرًا ولا تَكُنْ مقتِرًا”.
وإنّ أحسن النَّاس عيشًا من جاد بماله وأصابه منه حلّه، وأنفقه في حقِّه، وحافظ على ترتيب إنفاقه وفق ما يحسُن به عيشه وعيش النَّاس في عيشِه، كما قال وهب بن منبِّه: “إنَّ أحسَن النَّاس عيشًا من حَسُنَ عيشُ النَّاسِ في عيشِه”.
وقد عُرِف في تاريخ الأمة من أسلاف علمائها وأخيارها وصُلحائها من ركبوا بصنائع المعروف مصارع السُّوء، وآثروا مدَّ أيديهم وبسط أكفِّهم بالسَّخاء والجود على اتِّقاء المهالك والمخاطر، لإيمانهم أن من يجود بماله يجود بنفسه، كما قال خالد بن يزيد بن معاوية وكان جوادا: “من جاد بماله فقد جاد بنفسه، لأنه جاد بما لا قوام لنفسه إلا به”. وكما قال بعض السلف: أنَّ صاحب المعروف لا يقع، وإن وقع وجد متكئا، وكما قيل: الكريم يكرم وإن افتقر، كالأسد يُهاب وإن كان رابِضًا. واللَّئيم يُهان وإن أيسر، كالكلب يُخْسَأ وإن طُوِّق وحُلِّي.
وقد كتب الواقدي إلى المأمون رقعة فيها غلبة الدين عليه، فوقَّع في ظهرها: أنت رجل فيك خلَّتان: السَّخاء، والحياء. فأما السَّخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فقد بلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كُنَّا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كُنَّا لم نصب إرادتك فجنايتك على نفسك.
وكان الزُّهري رحمه الله -هو محمد بن شهاب الزُّهري- من أَسْخى النَّاس، كان يعطي ما عنده حتى لا يبقى له شيء، فيستلف من أصحابه حتى ينزفهم -أي لم يُبْق لهم شيئا-، ويستلف من عبيده ويقول لأحدهم: يا فلان أسلفني وأضعف لك ذلك. وإن جاءه سائل وما عنده شيء تغير وجهه وقال: يا فلان أبشر فسوف يأتي الله بخير.
ومرَّ محمد بن واسع بأَسْوَد عند حائط يحفظه، وبين يديه كلب يأكل لقمة ويطعمه لقمة، فقال له: إنَّك تضرُّ بنفسك، فقال: يا شيخ، عينه بحذاء عيني أستحي أن آكل ولا أطعمه. فاستحسن منه ذلك، فاشتراه واشترى الحائط، وأعتقه ووهب له الحائط. فقال: إنْ كان لي فهو سبيل الله. فاستعظم ذلك منه، فقال: يجود هو وأبخل أنا؟ لا كان هذا أبدا.
وباع عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أرضا له بثمانين ألفا، فقيل له: واتَّخذت لولدك من هذا المال ذُخْرًا، قال: بل أجعله ذُخْرًا لي عند الله، وأجعل الله ذُخْرًا لولدي. وقسمه بين ذوي الحاجة.
وكان خالد بن عبد الله يدعو بالبدر ويقول: إنَّما هذه الأموال ودائع لا بدَّ من تفريقها. فقال له أسد بن عبد الله وقد وفد عليه من خراسان: هدأة أيها الأمير، إنَّ الودائع إنَّما تُجْمَع ولا تُفَرَّق. قال: ويحك! إنَّها ودائع للمكارم، وأيدينا وكلاؤها، فإذا أتانا المملق فأغنيناه، والظَّمآن فأرويناه، فقد أدَّينا فيها الأمانة.