مكة، المدينة.. والحج..
هوية بريس – حليمة الشويكة
انتهى موسم الحج لهذه السنة، وككل سنة، يتابع عدد كبير من المسلمين عبر العالم من خلال قنوات الإعلام مشاعره وشعائره، تشوقا وتطلعا لمن لم يكتب له الحج بعد، أو حنينا واشتياقا لمن زار وحج واعتمر. اشتياق لمدينة ليست كباقي المدن، ولأماكن تختلف عن كل الأماكن. غير أن مكة-المدينة- وأماكنها المقدسة، رغم تميزها وخصوصيتها، لم تسلم من الغزو الإسمنتي الذي غير شكلها لتصبح شبيهة من حيث المظهر، بالمدن العالمية، بأبراجها وفنادقها وأسواقها. والتي ستصبح في الواقع حواجز نفسية وبصرية مزعجة للزائر وللحاج المتأمل الذي يحاول أن يجعل من حجه بحثا وتأملا وعبادة، غير أن تلك الحواجز تشوش عليه وقد تحول بينه وبين الاقتراب من الأسرار المقدسة في ساحات المسجد الحرام وبين جبال مكة ووديانها.
لكن، هل تحتاج مكة-المدينة- إلى كل هذه التغييرات التي أدت إلى هدم تاريخها من أجل بناء مشاريع توسعة وتسوق وإيواء كي تدخل في مصاف المدن العالمية؟ أ ليس المقدس الذي يسكنها يجعل منها مركز جذب واستقطاب تحج إليه الأمم والشعوب قديما وحديثا من كل بقاع العالم؟ أليست مكة هي المدينة الأقدم والأكثر عالمية على الإطلاق دون الحاجة إلى استيراد الماركات الاستهلاكية العابرة والقيم العقارية النمطية؟
ارتبط مفهوم “المدينة” لدى عدد من علماء الاجتماع الحضري بالتعقيدات التي طرأت على الحياة الاقتصادية، وقد اعتبر روبرت بارك في مقالته الشهيرة “المدينة: مقترحات لبحث السلوك الإنساني في البيئة الحضرية” أن المدينة تتميز بالتقسيم المعقد للعمل الذي ينتج عن المنافسة الصناعية. فوجود السوق وتطوره أدى في نظر بارك إلى انهيار الطرق التقليدية للحياة البشرية، حيث حلت الروابط التي تقوم على المصلحة وعلى الفردانية محل الروابط العاطفية التقليدية. و لا يختلف بارك في تصوره للمدينة عن تصور عدد كبير من علماء الاجتماع، فالمدن المعاصرة حسب تصورهم تزداد اتساعا وتشكل مجموعة من الحلقات الدائرية المتتابعة، عبر سلسلة من عمليات المنافسة الاقتصادية. وكلما تطور هذا الاتساع، كلما اكتسبت المدينة صفة العالمية، فالمدن العالمية هي تلك التي تؤثر في النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري العالمي، وهو الأمر الذي يتحقق عندما تكون المدينة قادرة على خلق مركز جذب عالمي محفز ومستقطب للاستثمارات و البشر والمعلومات والأموال والأعمال. وبهذا المعنى يمكن اعتبار مكة المكرمة مدينة عالمية دون أن تحتاج إلى مظاهر المدن الأمريكية من أبراج وأسواق، فمكة -كما يؤكد الدكتور علي عبد الرؤوف صاحب كتاب”من لاس فيكاس إلى مكة”- مدينة عالمية تبعا للتصنيف الأشمل للمدن العالمية، لأنه تصنيف يتضمن التأثير الحضاري والثقافي والعقدي. إنها لا تحتاج إلى أن تتطلع إلى نماذج المدن التي تعتمد على القيمة الاقتصادية الرأسمالية لكي ترسم دورها العالمي. لذلك أكد الدكتور علي عبد الرؤوف على ضرورة التعامل مع مكة المكرمة والمدينة المنورة بمنهج مميز في معالجة إشكالاتها التنموية والعمرانية، منهج يقدم القيمة الروحانية المقدسة على المنظور الاستثماري. خاصة أن مكة هي أقدم مدن العالم التي شكلت بؤرة لنسيج عمراني تبلور حولها و امتزجت فيه القيم الروحية بالتاريخ وبالإنسان. ولذلك ظل دائما الهاجس الذي حكم مخططاتها وتصاميمها هو خلق تناسب بين العمران وبين القيم الروحية للمكان.
الذي حدث في حدود منتصف القرن الماضي، هو أن اكتشاف البترول عرض المدينة المكرمة لطفرة عمرانية متسارعة، ماكان لها أن تحدث لولا الجرأة التي أبداها المسؤولون على الهدم الهائل لقلاع تراثية شاهدة على التاريخ القديم والحديث، تحت ذريعة تيسير استقبال أكبر عدد من الحجاج. لكن الواقع هو أن مكة منذ ذلك الحين لم يعد التحول الذي يفرض نفسه عليها، قادرا على مراعاة التراث الحضاري للمدينة، بل أدى إلى خلق اختناق عمراني يحول دون احتواء الكعبة المشرفة بالنظر-كما كان عليه الأمر في السابق- بسبب كتل الإسمنت التي تلفها. هذه الكتل التي أدخلت مكة إلى عالمية مزيفة هدمت التاريخ تحت أبراج بلا هوية وبلا معنى، سوى المعنى الرأسمالي المتوحش. وفي غياب التاريخ وقيمه سيصبح البلدوزر –كما أكد علي عبد الرؤوف- هو النموذج التنموي الوحيد.
سيصف الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي هذه التحولات العمرانية التي غيرت الملامح الأصيلة لمكة بشيء من الحزن والشعور بالعجز، في كتابه (حكاية حج) قائلا: “قبل حوالي ثلاثين سنة كنت قد شاهدت بغيظ مكتوم عمل الجرافات التي كانت تبقر الهفوف، العاصمة العثمانية القديمة لشرق الجزيرة العربية.. أحياء كاملة تختفي، وبيوت ومساجد ترابية جميلة الصنع تستحيل إلى غبار.. لم تعد توجد سوى شوارع عريضة مهيأة للسيارات، وأحياء من العمارات تنبثق في كل مكان”، ويكفي هذا الوصف لفهم حجم التحول وحجم أثره النفسي على الحجاج. فالإسمنت المتراكم في كل مكان والفاقد لأي دلالة مميزة، المشابه لما تعج به مدن مماثلة (إلا من بعض القشور التراثية) يبعث حتما على الشعور بالعجز وبالحزن.
لكن، رغم هذه الملاحظات الناقدة للعمران الرأسمالي الجارف في مدينة ليست كباقي المدن، مدينة مختلفة لا يمكن قياسها على باقي المدن، فإن البيت الذي يتوسطها له رب يحميه، ولذلك فالحج إليه في كل الأحوال والظروف يظل سرا بين العبد وخالقه، بل سرا لا يدركه العبد مهما حاول فهمه، أو بالأحرى كلما أمعن في البحث والتحليل هربت منه المعاني والدلالات، وهذا ما جعل الباحث عبد الله حمودي يعلن أنه تعامل مع رحلة الحج كمشروع بحث أنثربولوجي، لكنها كانت أيضا بالنسبة له رحلة برهانات وجودية لم يستطع تجاهلها، ليعترف بعدها بأن الحج قاده إلى مفترق طرق مغاير، فبينما كان يظن أنه يقود الحج إلى عالم الأنثربولوجيا، تلقى الحج كحدث غير متوقع طبع حياته. ولعل الرغبة الجامحة في العودة إلى الطواف كما وصفها حمودي، ناتجه عن الشعور بشيء مدهش في تأمل حركة الطواف، وبقوة جذب تجعله يعود للكعبة التي “تمتد أركانها إلى أربع جهات تلخص كلية العالم”.