رسالة من وإلى تلميذ
هوية بريس – رشيد الذاكر
قَرَرْتُ الليلةَ أن أتخلى عن هاتفي ولا أهتم به.. وحملت بدله كِتَابا: الذي طالما سمعنا عن مكانته وقيمته، وأنه أنيس المغتربين وروضة المتفكرين، وبداية المتميزين، ونهاية الحكماء العاملين.. بدأت القراءة وكُلي أَمَلٌ أن أعطيه مثل ما كنت أعطي هاتفي من بداية الليل إلى قُبيل الفجر، تجاوزت الصفحة الرابعة، فلاح لي العياء والتثاؤب، وبدأت العيون تسابقوني إلى النوم، عندها أغلقت الكتاب وخلدت إلى النوم -وهي أول مرة أنام فيها مبكرا بعد صلاة العِشَاءِ وتناول وجبة العَشَاءِ- وحوالي منتصف الليل: صحوت من النوم فمددت يدي إلى الكتاب – عفوا- إلى الهاتف، فما أن أمسكت به حتى طار النوم بغير رجعة، تصفحت رسائل الأصدقاء حتى أنهيتها وجُولْت في كل المنشورات الجديدة، أعلق على بعضها وأكتفي في الغالب بالإعجاب.. حتى سمعت آذن الفجر، فقمت إلى الصلاة: طبعا لا: فأنا متعب جدا ولابد لي من النوم قليلا، وسوف أصليه إن شاء الله عند الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة، فنحن في الأسبوع الأول: من الموسم الدراسي الجديد.
حوالي السابعة والنصف صباحا وإذا بذلكم الصوت الحنون الذي يحمل البسمة الدائمة، وهو عنوان الجمال الأخلاقي في هذه الدنيا، إنه صوت أمي: قم بني حان وقت الذهاب للمؤسسة، قمت بدون عقل توضأت وصليت -خارج الوقت طبعا- فإذا بأمي حفظها الله قد أعدت لي فطوري، وجهزت لي ملابسي، أتراني قادرا على الإفطار؟ إن الشهية مغلقة ولا أجدني: استسيغه هذا الصباح: لقد اعتدت الفطور حتى وقت الظهيرة، خرجت من البيت، اقتنيت من الدكان بعض الحلوى: -من فضلك أتراها تقيم صلبي حتى الظهيرة؟-
دخلنا جميعا إلى حجرة الدراسة وعند أحد الأساتذة الذي طالما سمعنا عن جديته في العمل وطريقته المتميزة في الشرح والبيان، وبعد الاستقبال، وعرض اللوازم الدراسية، والحديث عن طريقة التدريس وكيفة الشرح والمشاركة، عرض على وجه السرعة: مجمل ما سوف نتدارسه هذا العام بإذن الله..
ثم اللقاء الثاني: وكانت أستاذة ذات عطف وحنان تقابل الجميع ببسمة الأمومة ورفق الأبوة.. أَخَذَتْ تَتَكَلم ومعدتي تدور في فراغ، فما كنت أدري ماذا تقول؟ عندها تذكرت مقولة بعضهم: “البطنة تذهب الفطنة” فَجَال بي الذهن وتَمَالكتني الخواطر، أتراني في الطريق الصحيح؟ هل ما أقوم به يمكن أن يقدم لي شيئا في حياتي؟ أو حياتي أسرتي؟ أو مشروع أمتي؟ أو نهظة بلدي؟ الشخص الذي تَمَلّكَهُ هاتف كما يتملك الجني من به صَرَعٌ، يتصرف وفق ما يريد، ولا يرد له طلبا، هل هذا الإنسان في المسار الصحيح؟
نَظَرْتُ إلى من معي في القسم: وكلهم أعرف جيدا، القلة القليلة منهم: تعرف أهدافها، ومحددة لغياتها، وعلى علم جيد بالطريق الذي تسير فيه، وعلى دِرَاية جيدة بنقطة الوصول، وفهم عميق لكيفية تجاوز حواجز الطريق وعقبات المسير، والكثرة الغالبة: إنما تُكَمل نصاب القسم، وتحافظ على بقاء المؤسسة مفتوحة في وجه المتميزين، وإلا لو غادر هؤلاء الذين لا هدف لهم سوى إكمال المقاعد، لأُغْلِقَتِ المؤسسة واضطر هؤلاء إلى الذهاب إلى مؤسسة أخرى بعيدة عن مساكنهم، ولكنه التضامن السلبي، الذي يتم بغير قصد صاحبه.
عُدت إلى المنزل وكلي هواجس وخواطر، وبعد صلاة الظهر التي لم أكن أصلي صلاة غيرها في وقتها -واستغفر الله- توالت علي نفس الأسئلة وزيادة، فكان لابد من الانتقال من الهواجس والخواطر إلى الهم والعزيمة والمباشرة والفعل، وتذكرت عندها تلك الهدية الربانية الأولى التي تلقها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو لايزال في غار حراء، قبل أن يُدْعَى إلى العقيدة والعبادة، وإلى الحلال والحرام، وإلى التأمل والتفكير وإلى البناء والتعمير، إنها هَدية الخمس آيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:1-5] فسألت نفسي: أتراني أكون مؤمنا بالله العظيم، ومعظما لرسوله الكريم، ومستمسكا بدينه القويم: وأنا أخرق أول أمر في هذا الدين وهو أمر القراءة (اقرأ)، فالقراءة نقطة البداية التي لا يمكن بحال من الأحوال إحداث أي تغيير بدونها، سواء كان هذا التغيير: فرديا أو جماعيا، فالمحرك الأول: لحركة البناء والتعمير: إنما تنطلق من الأمر الأول في القرآن الكريم.
من هنا كان المنطلق، فعزمت عزيمة لا رجعة فيها، وأحكمت بإذن الله مخططا: نهايته التميز والنجاح، والترقي والفلاح، وهذه معالمه: أرفعها إليكم أصدقائي التلاميذ: إنْ أَعْمَلْتُم تفكيركم معي، وقررتم إنقاد أنفسكم، وكذا الأسرة والمجمتع، وأن لا يكون الواحد منا رقما زائدا في الكرة الأرضية مثل الصفر إذا وضع أمام الأعداد وليس خلفها، ولكنه رقم ايجابي حتى إذا رحل عن الدنيا، قيل: مر من ههنا فلان: الذي هو أنت:
أولا: تحويل الوسائل الإلكترونية من مخدوم إلى خادم: فأنت تعلم جيدا أن هذه الوسائل صنعت لخدمة الإنسان، فكيف يصح في الأذهان أن تكون هي من تحركك وتدخلك في عالم الألعاب التي لانهاية لها، ولا فائدة منها؟ اللهم إلا للتسلية عند التعب أثناء التحصيل العلمي، ولذلك سوف نحرص جميعا على التحكم فيها، وتهميشها إلا في خدمة التعلم وتطوير مهارتنا وقدرتنا العقلية والفكرية.
ثانيا: اختيار الأصدقاء العاشقين للقراءة والمحبين لها: فقديما قالوا ” الصاحب ساحب” فلامناص لنا من إعادة تغيير الاصدقاء والأصحاب، واختيار من هو على شاكلتنا حتى يكون رفيق الدرب في مشوارنا التعلمي المبارك.
ثالثا: ضبط الوقت والتحكم في الدروس:فأنتم تعلمون جيدا أن من أسباب فشل العديد من التلاميذ: مشكل التراكم في الدروس، مع العشوائية في الوقت، فليس هناك وقت محدد للقراءة ولا للراحة بل ولا حتى للنوم.. يسير الواحد منا كما اتفق، يميل مع الريح حيث مالت.. فهذا سلوك من لا هم له في القراءة ولا رغبة له في صناعة التميز، وإنما سلوك المبدعين: تنظيم الوقت أولا، ومواكبة المقررات ثانيا.
رابعا: فتح نوافذ للقراءة خارج المقرر الدراسي: إن فتح المتعلم للمطالعة الحرة خارج المقرر الدراسي: لهي لبنة في هرم البناء المعرفي للمتميزين، فكم من فكرة من خارج المقرر الدراسي صنعت المبدعين، بل جعلت المبدعين مخترعين.. على أن تكون هذه النوافد متنوعة في مجلات شتى، وأن تُعطى منها حصة الأسد للمشروع الذي تروم متابعة الدراسة فيه، وهنا سيكون هاتفك رهن إشارتك وفي خدمتك إن كان يتعسر عليك اقتناء الكتب.
خامسا: خلق التوازن بين مطالب الذات الإنسانية: فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي: مطالب ذاته متنوعة وليست على نمط واحد، فهو بدن، وعقل، وروح، وعاطفة، وكل واحد منهما يتحاج إلى التغذية فاعط كل ذي حق حقه، ولا تبخس المكونات من حقها شيئا لصالح غيره” فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلموا جميعا أيها السائرون في دروب التميز والنجاح: أنا ختمنا شروط التميز بهذا الأخير: لغرضين اثنين:
الاول: أن لا تشعر أو يخيل إليك أن سيرك في طريق البناء والتميز سوف يَسْلبك لذة الحياة والاستمتاع بمرحلتك في المراهقة والشباب، بل هو الذي سيخلق لتلك اللذة والمتعة منعى ويجعل لها قيمة تريح النفس والعقل والروح والبدن.
الثاني: أن الالتزام بالقانون الخامس بجدية وحماس: سوف يوصلك إلى شمولية في النجاج، وتكامل فيه، وهذا التكامل يتكون من أربع نجاحات كبرى: وهي: الرضا الداخلي، التوافق الاجتماعي، الإنجاز الملموس، النجاح في الآخرة.
وفي الأخير لكم مني كلمة مقتبسة من الأستاذ: علي الحمادي أودعكم على مثنها على أمل أن ألقكم زمن قطف ثمار سيركم في مضمار النجاح “النجاح كلمة جميلة، تهفوا إلى النفوس، وتصبوا إليه القلوب، إنها كلمة مدوية، عشقها العلماء، وهام بها الجابذة، ولم يفر منها إلا الذين رضوا بالدون، وقبلوا أن يسيروا على هامش التأثير وفي ذيل القافلة” {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].