المغرب ينزف.. انطفأت شمعة أخرى (محمد التاويل رحمه الله)

13 أبريل 2015 21:11
المغرب ينزف.. انطفأت شمعة أخرى (محمد التاويل رحمه الله)

المغرب ينزف.. انطفأت شمعة أخرى (محمد التاويل رحمه الله)

محمد صلاح بوشتلة

هوية بريس – الإثنين 13 أبريل 2015

حينما طلب الملك النعمان من الشاعر عبيد الله الأبرص أن يُسمِعَهُ شِعراً قبل أن يقتله! حالت الغصة دون تكلمه، فقيل في ذلك: “حال الجريض دون القريض”، وتعاقبُ موتِ علمائنا هذه الأيام الواحد تلو الأخر، لا يترك لنا الفرصة لذكر الفقيد المستل من بيننا، لا إحصاء فضائله ولا التذكير بعلمه وعمله.

فبعد توديع الدكتور المهدي المنجرة، ووداع الدكتور عبد السلام الهراس، ها هو الدكتور عبد الهادي التازي يغادرنا، وبعده بساعات معدودة ودون قسط راحة يذكر يزاح من عداد قائمة الباقين على قيد الحياة إمام السادة المالكية في عصره، وشيخ المذهب الدكتور محمد التاويل رحمه الله وبر به عنده هو ورفاقه ممن نقل إلى عالمنا الآخر الذي ينتظر أسماءنا وأشلاءنا جميعا واحدا واحدا، والمجد للحي الذي لا يموت.

بموت التاويل  انطفأت شمعة أخرى من شمعدان ثقافتنا، وزيد في أيامنا يوم حزين آخر شديد الحلكة، وسيء المذاق قبيح الوجه، وسيق آلاف بلا هاد إلى حيث لا يعلمون، برحيل العلماء والمشايخ يرحل من كنا نتحصن بيقظتهم، ونحتمي بدقائق معارفهم، يُستلون من بين الباقين على قيد الحياة واحدا واحدا، بعد أن صدرت في حقهم قرارات الموت بحقهم طبقا لقدر كان أو لذنب منا هو كائن، لتُغلقَ دفاتر حسابهم وأعمالهم بشكل نهائي من جهتهم ، وتقفل أبواب بيوتات العلم معهم، بيتا بيتا، في قصيدة حزينة لا قافية لها ولا وزن. قصيدة حزن ورثاء على أرواح هي الأجدر بالسماء منها بأرضنا التي لم تعد تلد غير الحروب والفتن والعواصف والطائرات ومليشيات التطرف ومخيمات الحصار وأودية عذاب وجحيم.

محمد التاويل العلامة الحافظ الجبل، قد أكون رأيته أكثر من مرتين في جامعة ظهر المهراز في إحدى ممراتها أيام الدراسة بها، ومرة في كلية الشريعة في ندوة لربما، لكن الصورة التي أخذت عنه وترسخت عنه، هي نفسها صورة من عاشروه لسنوات دون أن تكون الأبلغ عنه، الطيبوبة والوقار كانت تغترف من نظراته الهادئة، والحكمة المحافل القدسية كانت تستقى من كلامه الهادئ في مجامع العلم، بل ومن مشيته الوقورة، والحياء فمن ابتسامته الخجلى يُلتقط. مكتمل العلم ومبارك الفهم كان، واسع الاطلاع وموسوعيه في الفقه بفروعه وأصوله، واللغة بنحوها وصرفها، والتفسير والبلاغة والفرائض، كان رحمة الله عليه من العلماء المشاركين، وحفظه لألفية ابن مالك في عشرة أيام شاهد على ذلك، وشرحه المبسط جدا لكتاب جمع الجوامع لابن السبكي مثال العمق والتعقيد الأصولي شاهد آخر من شواهد أخرى على تمكن الرجل وتمكينه. 

لست أفهم ما بال الموت قد فتح شدقيه لِقَامات الفكر ورجالات العلم الاستثنائيين في وطننا هذا؟ أهو وعد بالخراب والقزمية؟ أو عقاب لأهل الأرض بسلبهم نجماتهم؟

إنه بلا شك عدل الله ومشيئته العادلة، فحينما يسود الابتذال والإسفاف وتنتشر التفاهة ويسخر بقدْر الفكر المتزن وقدره وتستنفد الثقافة إمكاناتها في إصلاح ما أفسده المسفون، نجرد -ربما عقابا للباقين- من هبات ربانية وهم الباحثون في الأرض عن بقايا مثالات الخير الأكمل والأسمى، أوليس العَالِم هبة الله التي أغدق بها على القاطنين بأرضه؟ أو لربما يكون الموت اختيارا لرفضهم للانخراط في سلك الإسفاف والميوعة، فنعذب نحن بعدهم بازدهار الأفكار الذليلة الممسوخة ونتشرب مساوئ البقاء، وفي أيدينا توضع أصفاد الجهل والتجهيل، حتى لربما يكون الموت هو الخير الأعظم الذي نفضل عليه بخطأ في التحديد الجيد منا ابتلاءات وضلالات هذه الأيام. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَاد،ِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء،ِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا“.

الوفاة هزيمة للروح واستسلام حزين لها ربما، ونهاية غير جميلة من منظورنا، وربما حط من شأنها لنعدها نتاج حادث بسيط، لكن أن تحمل اسم رجال بثقل وحجم وقامة هؤلاء الراجحين في ميزان العلم والتاريخ والأفكار، إنما تتجاوز اسم المصيبة والطامة وتتفوق على سائر معانيهما، لتصير خسرانا مبينا للكائن ومعناه، فخبر موت العالِم  بالتأكيد ليس جملاً مرتبة منمقة على صحيفة وإنما أحرف تجرحك طول العمر فالعالم يولد بعد الأربعين ولا يجب أن يموت بعدها لأن حكمته لا تكتمل بل تزداد يناعة ونضجا كل حين ويوم، لكن قرارات الالتحاق بعوالم أخرى غالبا ما تغلبهم أمام صبرهم الذي أنهكه التحامل على الجهل المستشري والقبح بالغ السطوة، كما غلبت الشنفرى ذات مرة فودع صحبه ليلحق بأهله الجدد الذئاب وبنات أوى والجنيات في الصحراء الكبيرة بعيدا عن ظلم ذوي القربى، متحملا برد المطر وطمر الرمال على وشاية الأهل وغدرهم، كما الأمر نفسه مع تأبط شرا بقوله:

فأَصبحتُ والغُولُ لي جارةٌ***فيا جارتَا أنتِ ما أَهْوَلا

وَطالَبْتُها بُضعَها فالتَــــوَت***بـوجهٍ تَهَوَّلَ فاسْتَـغْـوَلا

 فَمَنْ كانَ يسألُ عن جَارتي***فإنَّ لها باللّوى مَنْــزلا

نعم، ما إن يأتي الإنسان إلى الحياة، حتى يكون مسنا بما فيه الكفاية كي يموت ويغادرنا في أي لحظة، وكأننا جئنا لهذا العالم لا لشيء إلا لكي نموت، لنعود من حيث أتينا من فردوس أبينا آدم لربما، غير أن قعقعة سيف المنون وضرباته لا تستهدف دون بقية الناس هذه الأيام غير علماء الوطن وقاماته الكبيرة، فيهوي الواحد منها لِيَليه الآخر إلى برازخها السحيقة ليتلقوا أجورهم لا ينقص منها شيء، أجورهم الكاملة عن أحلامهم في بناء وطن جميل يقرأ ويكتب، ويتهجى أسرار الكون ويتأول سؤال الدهشة وجواب الوجود له عنها، أحلامهم عن وطن ينشد أشعارا قديمة، ومواطن يحفظ متون العلم متنا متنا، ويسرد تاريخ العَالم حكايا وقصص طويلة وغريبة وعجيبة عن الايمان والصدق والصداقة والثقة ومجد الكلمة وسر الحرف وملحمات الحب وأسماء الشمس وكنى المطر واستعارات القمر.

فليرحمكم الله، ولتسعكم مغفرته واحدا واحدا؛ فأصحاب الأيدي البيضاء الطيبة يستحقون وقليلون غيرهم الثواب والمثوبة الرائعتين ممن كانوا ظله في أرضه، فوحدهم من كانوا يوفرون على صيدليات الوطن المزيد من المسكنات، إذ لولاهم لجن الوطن ومن يسكنه، لفرط الألم والأنين والوجع التي يسببها وسببها الساسة ومناضلو التلفاز، وكراكيز الحمق ومسرحيو الابتذال ووشاة الفراغ.

أما أنت يا وطني فلتكفكف دمعاتك السخينة، فلكأني بك أراك قد كتب عليك بعض انفلات تلك القامات من بين يديك أن ترزق بأبناء، لكن أن تشقى بأعمالهم الضارة باسم الإنسان وباسم ثقافته ومصيره، ويشقون هم بفناء أعمارهم عليها، أغاني تُحَكُ وتُرْغم معها أنف الثقافة في وحل الكلمات الساقطة، فتكبر جرائم الخذلان في حق الحضارة والشعر والأخلاق، وينكسر ظهر الثقافة بأثقال الفوضى واللامعنى الذي لا يعني أي شيء، والذي يبني لنا في وطننا قلاعا لقلق العبارة ولكآبة الفكرة ولفساد الوجود، وللملل بشع الذكر والتذكر الذي ينتظرنا عند أول لفة حضارية أخرى من لفات تقهرنا وتخلفنا الذي باستماتة أبطال الملاحم القديمة ما نزال متمسكين به، دون أن يخامرنا الشك فنتوقف لتأمل حالنا، ودون رحمة منا لأمة كانت في الزمن ولم تعد قادرة على تكون فيه، لنصل مع الحالة هذه إلى الدرجة الصفر من الانحطاط والارتكاس الحضاري، نصطف كلنا على صخور وعرة لجرف عميق متزاحمين ثابتين نود القفز في مجاهيل لا نعرف عذاباتها، تقودنا نقطة رعشة الجهل فينا لقتل بعضنا إما ذبحا أو رفسا لاسم السعادة بيننا، لنعيش موتنا مع كل عالم تنزع بتلته من زهرة اسمه التي في فمنا، وننساه كما أَنْسونا قسرا غيره من فحول العلم وفطاحل الفكر وسط صخب الهراء تجارتهم الفالحة التي ما رأينها يوما تبور بل تزهر أوراما لا نعرف اليد التي تزين بها الوطن، ولنردد مع قاسم حداد بعد زمن:

غالبا، تبدأ الأمم في اكتشاف ذاتها بعد فوات الأوان.

ولنردد وراء ذاك الأندلسي المشمول بعفو الله ورحمته أبو محمد علي ابن حزم:

أنا الشمس في جو العلـوم مــنـيرة***ولكن عيبي أن مـــطلعي الـغــــــرب

ولو أنني من جانب الشرق طـالـع***لجد علي ما ضاع من ذكري النــهب

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M